الحق الدامغ
لسماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي مفتي عام السلطنة

المبحث الثالث

في خلود أهل الكبائر في النار

مقدمة المبحث الثالث

تعريف الخلود والكبائر

أما الخلود فهو البقاء الدائم ، قال صاحب اللسان : (الخلد دوام البقاء في دار لا يخرج منها ، خَلَدَ / يَخْلُد / خُلْداً وخلوداً بقي وأقام ، ودار الخلد الآخرة لبقاء أهلها فيها ، وخلده الله وأخلده تخليداً وقد أخلد الله أهل دار الخلد فيها وخلدهم )1. ومنه قوله تعالى : (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مِتَّ فهم الخالدون)2

وكلام صاحب اللسان يدل على أن الخلد موضوع لغة للدوام الأبدي ، وهو مذهب الزمخشري وابن عطية والقرطبي والشوكاني من المفسرين ، وانتصر له أتم الإنتصار العلامة البطاشي رحمة الله تعالى عليه.

واستعمال الخلود في المكث الطويل ، كقول لبيد في معلقته :

صُمًّا خوالد مـا يبين كلامها

وقول الأعشى :

لن تزالوا كذالكم ثم لا زلـ     ت لكم خالداً خلود الجبال

محمول عند هؤلاء على التجوز .

وذهب الفخر الرازي وأبو حيان وأبو السعود وقطب الأئمة إلى أنه موضوع للمكث الطويل ؛ مع قطع النظر عن دوامه أو انقطاعه ، فهو عند هؤلاء من باب المشترك الذي يتعين ما يراد به بالقرينة الدالة عليه ، وجعل هؤلاء دوام الثواب والعقاب بالدلائل الأخرى من الكتاب والسنة غير لفظة الخلود ، كاقترانه بالأبد في قوله تعالى - في اللذين آمنوا وعملوا الصالحات - : (جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا)3 ، وقوله : (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا)4 ، وما يستفاد من الأحاديث الصحيحة الصريحة في خلود أهل الدارين فيهما ، وإجماع الأمة - إلا من لا يعتد به - على عدم فنائهما .

وهؤلاء نظروا إلى إطلاق الخلود على المكث المنقطع في كلام العرب كبيتي لبيد والأعشى ، وأن الحقيقة هي الأصل في الاستعمال .

وتعقبهم العلامة البطاشي بقوله : (كما أخذت العرب من الخلد قولهم للأحجار ( خوالد ) فقد أخذوا من الأبد قولهم للوحوش ( أوابد )5

وقال أيضاً : (إن العرب كما أخذت أيضاً من الخلد خوالد الأحجار فقد أخذت من الأبد أوابد وحوش القفار ، وهذه الأوابد أقل بقاء من تلك الخوالد في الاعتبار)6

وحمل العلامة البطاشي ما جاء في الشعر العربي من إطلاق وصف الخلود على الجمادات ذات العمر المديد ، على عقيدة الجاهلية في اعتقاد عدم فناء الكون ، واستدل له بقول زهير بن أبي سلمى :

ألا لا أرى على الحوادث باقياً    ولا خالداً إلا الجبال الرواسيا
وإلا السمـاء والنجـوم وربنا     وأيامـه معــدودة واللياليا

قال : (فلو لم يكن مراده من الخلود معنى الدوام لما غالى حتى أشركها في الدوام مع الله سبحانه ، بخلاف القول في التأبيد ؛ فإن انقطاعه بالإضافة إلى الدنيا ليس عنه محيد)7

وبحسب هذا المفهوم - وهو الدوام الأبدي - كان اختلاف الأمة في خلود المجرمين في النار كما سيأتي بيانه إن شاء الله .

وأما الكبائر فهي جمع كبيرة ، وهي كل ما عظم من المعصية ، فترتب على ارتكابها وعيد في القرآن أو السنة الصحيحة ، سواء شرع لها حد في الدنيا كالزنا والسرقة وقذف المحصنات ، أم لم يشرع كأكل الربا والميتة والدم ولحم الخنزير .


الهوامش والتعليقات

لسان العرب ج2 ص1225

1

الآية 34 من سورة الأنبياء

2

الآية 8 من سورة البينة

3

الآية 23 من سورة الجن

4

رسالة في الخلود للشيخ العلامة سلطان بن محمد البطاشي مدرجة في تمهيد قواعد الإيمان ج2 ص19

5

المرجع السابق ص20

6
المرجع السابق ص20 7

الفصل الأول

إختلاف الناس في خلود الجنة والنار

إقتضت مشيئة الله سبحانه أن تكون الحياة في الدار الدنيا حياة محدودة حتى لا يشارك الخالق في صفة البقاء ، ولم يخالف في ذلك أحد من الناس لأن تناهي الأعمار فيها أمر لا يتفاوت الناس في معرفته ، وقد جعلها الله سبحانه مرحلة من مراحل العبور التي يجتازها الإنسان ، والناس فيها متفاوتون في الراحة والتعب والنعيم والبؤس ، ولا يعود تفاوتهم هذا إلى قدر تفاوتهم في النفع والضر ، والإستقامة والانحراف ، والطاعة والعصيان ، فرُبَّ ذي سريرة طاهرة وخلق مستقيم ، ومسارعة إلى الخير يقضي حياته كلها في نكد وبؤس ، ومعاناة وحرمان ، ورُبَّ ذي سريرة خبيثة ، وشراسة في الأخلاق ، وسوء في المعاملة يتسنَّى له ما يريده ، وتتوفر له أسباب الراحة ، وتجتمع له أنواع الملاذَ ، وفي هذا ما يجعل الإنسان يعتقد اعتقاداً جازماً أن النعمة والبؤس في الدنيا ليسا جزاءً على ما يقدمه العبد من خير أو شر ، مع القطع بأن الناقد بصير ، والحاكم عدل ، فلذلك كانت النفوس تتطلع بفطرتها إلى حياة بعد هذه الحياة يجني فيها كل عبد ما غرس ، ويحصد ما زرع ، ويجد ما قدَّم ، وقد تعاقبت الرسالات الإلهية مبشرة ومنذرة بتلك الحياة ، ولم يختلف المؤمنون بها في كونها تختلف عن الحياة الدنيوية المنصرمة ، فهي حياة خلود ودوام إلا من شذ فزعم أنها متناهية وإن كانت أطول مدة وأوسع أمداً من الحياة الأولى .

وهؤلاء الشاذون طائفتان :

محسوبة على هذه الأمة وهي الجهمية نسبة إلى جهم بن صفوان

أولاهما

لا صلة لها بالأمة المحمدية لعدم إيمانها بالكتاب ، وبنائها أفكارها على أسس مادية بحتة

ثانيهما

وهي الجهمية ـ فقد استندت إلى شبهتين

أنَّ دوام المخلوقين مناف لاتصاف الله بالآخرية ، فإن من أسماء الله الأول والآخر ، ومعنى أوليته سبقه على كل موجود ، وهكذا يلزم أن يكون معنى آخريته بقاؤه بعد كل موجود

الأولى

أن أنفاس أهل الدارين لا تخلو إما أن تكون معلومة له تعالى وهو يستلزم حصرها ، وحصرها لا يتفق مع دوامهم ، وإما أن تكون غير معلومة ، وهو لا يتفق مع وصفه أنه بكل شيء عليم

الثانية

وأجيب عن الأولى ، بأن دوام حياة المخلوقين في الدار الآخرة لا ينافي آخريته تعالى ، لاختلاف دوامهم عن دوامه ، فإن دوامه ذاتي ودوامهم بإدامته إياهم ، فلذلك كان حقيقاً بصفة الآخرية دونهم .

وعن الثانية ، أن استمرار أنفاسهم لا ينافي أن يكون علمه تعالى محيطاً بها فإن علمه علم ذاتي لا يجوز أن يقاس على علم المخلوقين .

أما الطائفة الأولى

فقد استدلت لمذهبها بفلسفة مادية ، مبنية على النظر في طبائع الأشياء المحسوسة ، وملخصها أن بقاء الأجسام متعذر لأنها مؤلفة من الأجزاء المتضادة في الكيفية ، فهي معرضة للإستحالات المؤدية إلى الانحلال .

وأجيب بأن اعتقاد قدرة الله تعالى على كل شيء ينفي هذا الإشكال من أصله ، إذ لا يمتنع أن تعاد الأبدان بطبيعة أخرى لا تتحلل معها ، أو أن تكون كلما تحلل منها شيء عُوِّضت عنه بما يخلفه .

وإيقان المؤمنين أن الله تعالى على كل شيء قدير لا يدع لهذه الشبهة أدنى أثر في نفوسهم ، فإن الله سبحانه الذي طبع الأجسام في هذه الدار الدنيا بما طبعها به ، من التضاد بين أجزائها المركبة ، لا يعجزه أن يطبعها يوم القيامة بطبيعة أخرى مغايرة لما هي عليه في الدنيا ، ولعالم الغيب طبائع تكوينية خاصة تختلف كل الاختلاف عن طبائع عالم الشهود ، فلا يجوز قياس أحدهما على الآخر ، كما أن للبقاء المطلق أحوالاً تميزه عن البقاء المحدود .

وإذا أدركت أن الحياة في الدار الآخرة لا تتصرم لأنها حياة مصيرية وليست حياة مرحلية ، وحياة جزاء لا حياة كسب ، فاعلم أن جزاءها جزاء أبدي ، سعادة كان أو شقاء ، إذ لا فرق بين ثوابها وعذابها ، وإن ذهبت طوائف من الناس إلى التفرقة بينهما ، وفي مقدمة هؤلاء اليهود ، الذين حكى الله عنهم هذا القول في سلسلة تعداد مثالبهم ، وأنكره عليهم ، وطالبهم بدليل يستندون إليه فيه ، وبيَّن بأصرح عبارة أن الحق خلاف ما يقولون ، وذلك حيث قال : (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله مالا تعلمون . بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)1

وأما الطائفة الثانية

وبهذا تعلم أخي القارئ أن القول بتحول الفجار من العذاب إلى الثواب ما هو إلا أثر من آثار الغزو اليهودي للفكر الإسلامي ، وقد تنبه لذلك العلاّمة الجليل السيد محمد رشيد رضا ، فقال في مقدمة تفسيره لسورة البقرة من المنار : " القاعدة السادسة أن الجزاء على الإيمان والعمل معاً لأن الدين إيمان وعمل ، ومن الغرور أن يظن المنتمي إلى دين نبي من الأنبياء أن ينجو من الخلود في النار بمجرد الانتماء ، والشاهد عليه ما حكاه الله لنا عن بني إسرائيل من غرورهم بدينهم ، وما رد به عليهم حتى لا نتبع سننهم فيه ، وهو : (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة)2 ، وما حكاه عن اليهود والنصارى جميعاً من قولهم : (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم .. )3 الخ الآيتين ، ولكننا قد اتبعنا سننهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع ، مصداقاً لما ورد في الحديث الصحيح ، وإنما نمتاز عليهم بأن المتبعين لهم بعض الأمة لا كلها ، وبحفظ نص كتابنا كله ، وضبط سنة نبينا في بيانه ، وبأن حجة أهل العلم والهدى منا قائمة إلى يوم القيامة "4

وإذا كنا نُسَرُّ بإماطة هذا العلامة الكبير لحجاب التقليد عن عينيه حتى أبصر الحقيقة واضحة ، فأرسل لِقَلمه العنان لتسجيلها بهذه العبارة الواضحة هنا ، وتقريرها مرة بعد مرة في تفسيره لآيات من سورة البقرة وآل عمران وهود ، فإنا نأسف على وقوعه نفسه في هذه الأحبولة حتى تردد في هذه المسألة ، فقال تارة بالتمييز بين عصاة الموحدين وغيرهم ، كما في تفسيره لسورة يونس ، وذهب تارة أخرى إلى القول بانقطاع عذاب النار على الإطلاق متأثرأ بقول ابن القيِّم الموافق للجهمية في ذلك كما في تفسيره لسورة الأنعام .. وسأنقل إليك أخي القارئ ما يمكنني نقله من نصوص عباراته موثقة حسب اقتضاء المقام . ومن خلال هذا الذي ذكرته هنا تعلم أخي القارئ أن ابن القيم قد أخذ في هذه القضية بشطر من مذهب الجهمية كما سيأتي بيانه إن شاء الله .

وذهب الأشعرية ، ومن حذا حذوهم من الطوائف المنتسبة إلى السنة ، إلى خلود الدارين ، وعدم انقطاع ثواب الأبرار ، وعذاب غير الموحدين من الفجار ، أما الموحدون ، فقالوا : إنهم يعذبون إلى أمد ثم يخرجون من النار ويدخلون الجنة فيتنعمون ويخلدون فيها مع الأبرار .

وعقيدتنا معشر الإباضية أن كل من دخل النار من عصاة الموحدين والمشركين مخلدون فيها إلى غير أمد ، كما أن من دخل الجنة من عباد الله الأبرار لا يخرجون منها ، إذ الداران دارا خلود ، ووافقَنَا على ذلك المعتزلة والخوارج على اختلاف طوائفهم ، وإنما خالَفَنا الخوارج من حيث إنهم يحكمون على كل معصية تؤدي إلى العذاب بالشرك المخرج من الملة ، فخالفوا بذلك نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة .


الهوامش والتعليقات

الآيتان 80 و 81 من سورة البقرة

1

الآيتان 80 و 81 من سورة البقرة

2

الآيتان 111 و 112 من سورة البقرة

3
المنار ج1 ص112 4

الفصل الثاني

أدلة القائلين بانقطاع العذاب

وقد علمتّ أن هؤلاء طائفتان ، طائفة تقول بانقطاع عذاب كل من في النار موحد ومشرك ، وهم جهم وأصحابه ومن سار في ركابهم كابن القيِّم ، وطائفة تقول بانقطاع عذاب الموحدين دون عذاب المشركين .

أما الطائفة الأولى فقد تعلقت بآيات من القرآن ، ورواية عن الرسول - عليه أفضل الصلاة والسلام - وببعض النظريات الفلسفية .

أما الآيات فهي كما يلي :

قوله تعالى : (قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم)1

-1

قوله تعالى : (فأمَّا الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق . خالدين فيها مادامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعَّال لما يريد)2

ووجه الاستدلال بالآيتين ما فيهما من استثناء مشيئة الله تعالى مع ما في آية هود من جعل بقائهم في النار منوطاً بدوام السماوات والأرض مع العلم أن السماوات والأرض فانية ، والمعلق وجوده على وجود الفاني فهو فان . وأجيب عن الأول بأجوبة متعددة أقواها أن الاستثناء لا يدل على الانقطاع ، لأن الاستثناء بمشيئة الله يرد في كلام الله للتنبيه على أن المخبر عنه كائن بمشيته عز وجل ، فلو شاء خلافه لكان ، وذلك كما في قوله تعالى : (سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله)3 ، مع القطع بعدم نسيانه صلى الله عليه وسلم شيئاً مما أوحاه الله إليه وأقرأه إياه ، ومثل ذلك تعليق وعده تعالى الجازم بمشيئته كما في قوله سبحانه : (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين)4 ، مع ما عهد من كون (إن) تدخل على الشرط غير المقطوع به وهو هنا لا يجوز قطعاً لمنافاته لتأكيد وعد الدخول بلام القسم ونون التوكيد مع ما سبقه من قوله سبحانه : (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق) وأجيب عن الثاني بأجوبة متعددة بأجوبة متعددة كذلك أوْلاها بالاعتماد عليه أن السماوات والأرض المقصودة في هذه الآيات ليست سماوات الدنيا وأرضها ، وإنما المراد بها ما أظلهم وما أقلهم من سماوات الآخرة وأرضها ، لأن دخول الجنة الذي وُعد به الأبرار ، ودخول النار الذي توعد به الفجار لا يكون مع بقاء السماوات والأرض الدنيوية ، لأن ميقاتهما ينتهي بعدما تتداعَى أجزاء الكون في نشأته الأولى ، ويأتي ما وعد الله به في قوله : (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار)5

ولا يخفى على ذي بال أن الاستدلال على انقطاع عذاب أهل النار بالاستثناء الذي في آيتي الأنعام وهود ، والتعليق بدوام السماوات والأرض في آية هو يُلزمهم أن يقولوا مثل ذلك في ثواب المؤمنين في الجنة ، لأن آية هود أُتبِعَت بقول تعالى : (وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك)6 ، فالاستثناء كالاستثناء ، والتعليق كالتعليق ، وهذا الإلزام خاص بابن القيم ومن نحا نحوه من المفرقين بين الثواب والعذاب دون الجهمية لأنهم يقولون بانقطاع كل منهما .

ولا مخلص لأولئك بقوله تعالى في خاتمة آية السعداء : (عطاء غير مجذوذ)7 ، مع قوله فيما قبلها : (إن ربك فعال لما يريد)8 ، لأن القرآن - وإن تباعدت آياته في الترتيب أو النزول - يصدق بعضه بعضاً ، وكما دل قوله : (عطاء غير مجذوذ) على استمرار النعيم ، دل قوله : (وما هم بخارجين من النار)9 ، وقوله : (لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها)10 ، وقوله : (كلما أرادوا أن يخرجوا منها أُعيدوا فيها)11 ، وقوله : (إن عذابها كان غراما . إنها ساءت مستقراً ومقاما)12 ، وقوله : (يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم)13 ، وقوله : (وما هم عنها بغائبين)14 ، وقوله : (ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط)15 ، على استمرار العذاب وحرمان أهله من نعيم الجنة ، وكفى بهذه النصوص دليلاً على أن الله لم يشأ بهم إلا العذاب .

والمشيئة في هذه الآيات مجملة لم تُبَيَّن ، والآيات المصرحة بدوام العذاب كالتي أوردها صريحة ليس على دلالتها غبار ، والأمور العقائدية تتوقف على النصوص الصريحة فلا تستسقى علومها من الأدلة الإجمالية ، فكيف يلجأ إلى المجملات مع وجود التفصيل ، والتناسخ في أخبار الشارع لا يجوز بحال ، لأنه سبحانه لا تبدو له البدوات ، ولا يجهل شيئاً مما يكون ، ولا يوحي إلا بالصدق ، فلا معنى لما رواه ابن جرير وغيره عن جابر بن عبدالله رضي الله تعالى عنه أنه قال في هذه الآية - أي آية هود - تأتي على القرآن كله إذ لم يكن للقرآن أن يكذب بعضه بعضا ، وما كان لجابر - وهو الصحابي الجليل المتخرج من مدرسة النبوة - أن يَجْرُؤَ على مثل هذا القول ، وإنما هو من افتراءات أهل الأهواء وتلفيقات أصحاب الغرور .

ولصاحب المنار في تفسير آية هود تحرير وضع فيه المقصل على المفصل ، ونصه : (خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض ، أي ماكثين فيها مكث بقاء وخلود لا يبرحونها مدة دوام السماوات التي تظلهم والأرض التي تقلهم ، وهذا بمعنى قوله في آيات أخرى : (خالدين فيها أبدا) ، فإن العرب تستعمل هذا التعبير بمعنى الدوام ، وغلط من قالوا : المراد مدة دوامها في الدنيا ، فإن هذه الأرض تبدل وتزول بقيام الساعة ، وسماء كل من أهل النار وأهل الجنة ما هو فوقهم ، وأرضهم ما هم مستقرون عليه وهو تحتهم ، كما قال ابن عباس لكل جنة أرض وسماء ، وروى مثله السدي والحسن .

(إلا ما شاء ربك) أي أن هذا الخلود الدائم هو المعد لهم في الآخرة المناسب لصفة أنفسهم الجهول الظالمة التي أحاطت بها ظلمة خطيئاتها وفساد أخلاقها كما فصلناه مراراً (إلا ما شاء ربك) من تغيير هذا النظام في طور آخر فهو إنما وضعه بمشيئته وسيبقى في قبضة مشيئته ، وقد عهد مثل هذا الاستثناء في سياق الأحكام القطعية للدلالة على تقييد تأبيدها بمشيئته تعالى فقط لا لإفادة عدم عمومها كقوله تعالى : (قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله)16 أي لا أملك شيئاً من ذلك بقدرتي وإرادتي إلا ما شاء الله أن يملكنيه منه بتسخير أسبابه وتوفيقه ، ومثله في قوله تعالى: (قل لا أملك لنفسي ضراًّ ولا نفعاً إلا ما شاء الله)17 مــع تقديم الضّر ، وقوله : (سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله)18 على أن الاستثناء لتأكيد النفي أي إنه تعالى ضمن لنبيه حفظ هذا القرآن الذي يقرئه إياه بقدرته ، وعصمه أن لا ينسى منه شيئاً بمقتضى الضعف البشري ، فهو لا يقع إلا أن يكون بمشيئة الله ، فهو وحده القادر عليه .

إن ربك فعال لما يريد ، فهو إن شاء غير ذلك فعله ، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وإنما تتعلق مشيئته بما سبق به علمه ، واقتضته حكمته ، وما كان كذلك لم يكن إخلافاً لشيء من وعده ولا من وعيده ، كخلود أهل النار فيها ، فإن هذا الوعيد مقيد بمشيئته ، وهي تجري بمقتضى علمه وحكمته )19

-2

قوله تعالى : (لابثين فيها أحقاباً)20 ، ووجه استدلالهم به أن الأحقاب متناهية ، وما دام لبثهم فيها مقدراً بقدرها فهو متناه أيضاً . وجوابه أنه كما لا تتناهى الأنفاس في الدار الآخرة مع أنها لا نسبة بينها وبين الأحقاب في مقدار ما تستغرقه من الزمن ، فالأحقاب أبعد عن التناهي ، على أن لفظة الأحقاب مأخوذة من أحقب إذا أردف فهي أدل على الترادف المستمر الذي لانقطاع له .

وقد أحسن الفخر الرازي حيث قال في تفسير الآية : فإن قيل : قوله : (أحقاباً) وإن طالت إلا أنها متناهية ، وعذاب أهل النار غير متناه ، بل لو قال لابثين فيها الأحقاب لم يكن هذا السؤال وارداً ، ونظير هذا السؤال قوله في أهل القبلة : (إلا ما شاء ربك) قلنا الجواب من وجوه :

أن لفظ الأحقاب لا يدل على مضي حقب له نهاية ، وإنما الحقب الواحد متناه ، والمعنى أنهم يلبثون فيها أحقاباً ، كلما مضى حقب تبعه حقب آخر

الأول

قال الزجاج المعنى أنهم يلبثون فيها أحقاباً لا يذوقون في الأحقاب برداً ولا شراباً ، فهذه الأحقاب توقيت لنوع من العذاب ، وهو أن لا يذوقوا برداً ولا شراباً إلا حميماً وغساقاً ، ثم يبدلون بعد الأحقاب عن الحميم والغساق من جنس آخر من العذاب

والثاني

هب أن قوله : (أحقاباً) يفيد التناهي لكن دلالة هذا على الخروج دلالة المفهـوم ، والمنطوق دل على أنهم لا يخرجون ، قال تعالى : (يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم)21 ، ولاشك أن المنطوق راجح

وثالثها

وذكر صاحب الكشاف في الآية وجهاً آخر ، وهو أن يكون أحقاباً من حَقِبَ عامُنا إذا قل مطره وخيره ، وحقب فلان إذا أخطأه الرزق فهو حَقِبٌ وجمعه أحقاب ، فينتصب حالاً عنهم بمعنى لابثين فيها حقبين مجدبين ، وقوله : (لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً) تفسير له 22

وما نسبه إلى الزجاج قاله كثير من المفسرين ، ووجهـه أن جملة (لا يذوقون .. الخ ) حال من فاعل ( لابثين ) وفسروا ذلك أنهم يلبثون فيها أحقاباً وهو لا يذوقون فيها بردا ولا شراباً إلا ما ذكر ، ثم ينتقلون إلى لون آخر من العذاب وهو تعذيبهم ببرد الزمهرير ، الذي يتمنون أن ينفكوا عنه بالعودة إلى جهنم والعياذ بالله ، وعلى هذا فلا إشكال ولو باعتبار الأحقاب متناهية ، ومهما يكن فإنهم لم يستدلوا بنص يفيد ما دعوه ، وإنما بتأويلات تقابل بما يبطلها ، والأمور العقائدية - كما قلت - لابد من الاستناد فيها على النصوص القاطعة .

-3

وأما الرواية فحديث عبدالله بن عمرو بن العاص (ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد) ولا يتم به الاستدلال ، لأنه قبل كل شيء حديث آحادي لا تنهض به حجة في القطعيات ، فضلاً عما في متنه وإسناده من نُكاره ، ولو قدرنا صحته لكان الواجب تأويله بما يتفق مع قواطع النصوص ، وهو أن أهلها ينتقلون عنها إلى الزمهرير ، ومع ضعف الحديث لا داعي إلى مثل هذا التأويل .

وأما النظريات الفلسفية فمنها ما تقدم نقله عن الجهمية ، ومنها ما أورده ابن القيم في كتابيه الصواعق المرسلة وحادي الأرواح23

ويتلخص في أن الرحمن الرحيم ، البر الكريم ، العزيز الحكيم ، أجَل من أن يخلق نَشْئاً للشر دون الخير ، وللعذاب دون الرحمة ، وأن فطرة الله في الإنسان هي التوحيد والتقوى والإخلاص غير أنها تتكدر بأكدار من العصيان متفاوتة ، منها ما تصقله الدعوة ، ومنها ما يصقله العذاب الموقوت بأمد أقل ، ومنها ما يحتاج صقله إلى فترة أطول في العذاب ، وأن الغاية من ذلك أن يدرك الإنسان ضعفه بين يدي ربه وافتقاره إلى رحمته ، واضطراره إلى لطفه ، وعدم طاقته على تحمل نقمته مع إدراكه قوة الله وبطشه ، وأنه عظيم المن والإحسان إلى خلقه ، فإذا أدرك العبد ذلك وانجلت فطرته من صدأ العصيان ، وتراجع إيمانه بعدما طار به طائر الكفران لم يبق معنى لتعذيبه ، لأن الله تعالى منزهة أفعاله عن التجرد من الحكمة ، ولا حكمة في العذاب الدائم ، وقد وزع ابن القيم ما استنتجه من هذه الفلسفة وتأوله من القرآن ، واستند إليه من الآثار إلى خمسة وعشرين وجهاً .

وقد أورد صاحب المنار نص كلامه في حادي الأرواح ، وأتبعه من عبارات الإعجاب والثناء ما يدل على أنه منجذب إليه ، وذلك في تفسير آية المشيئة من سورة الأنعام24 ، وهو مخالف لما سبق نقله عنه في تفسير الاستثناء بالمشيئة في آية هود ، كما أنه مخالف لما نقلناه عنه من كلامه في مقدمة تفسيره لسورة البقرة ، وما سننقله إن شاء الله عنه من النصوص الأخرى .

ويدحض هذه النظريات أن الله تعالى لا تتقيد أفعاله بأنظمة تحكمها عقول البشر ، ولا ترتبط بنواميس تستوحىَ من خيالات الناس ، وإنما يفعل - جل شأنه - ما يشاء ويحكم ما يريد ، (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) وعلينا أن نعتقد أن عقولنا المحدودة أكَلَّ وأعجز وأحسر من أن تحيط بحكمه تعالى في أفعاله ، أو تكتنه أسراره في خلقه (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)25 ، وما علينا إلا أن نسلم تسليماً لأخبار الله التي لا تتبدل ، ومن بينها أخبار الوعيد لِقَطْعِنا أن الله عز وجل لا يقول إلا الصدق ، كما أنه لا يأمر إلا به (ومَن أصدق من الله قيلاً)26

ولو فتحنا هذا الباب ، وأسندنا إلى عقولنا الحكم على أخبار الله ، لما كانت لذلك نتيجة إلا رد كثير من النصوص بل أكثرها ، لأن الشيطان لايزال يوسع هذه الثغرات ويوالي ، توجيه طعنات التشكيك في النصوص ، لحمل الناس على ردها أو على تأويلها بمختلف التأويلات الباطلة المخالفة لما يراد بتلك النصوص ، على أن نصوص تأبيد عذاب النار كنصوص تأبيد نعيم الجنة ، فإذا جاز تأويل تلك فما الذي يمنع من تأويل هذه ؟ .

ومن دواعي العجب أن يلجأ ابن القيم إلى المدرسة العقلية في تعليل أفعاله تعالى مستنداً إلى ما يوحي به العقل من التحسين والتقبيح ، مع أنه هو الأثري المتعصب الذي يمنع كل المنع تأويل الآيات المتشابهات بما يتفق مع معاني أمهاتها المحكمات ، ويستلزمه تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه ، وتسوغه اللغات وأعرافها ، وتقتضيه القرائن السمعية والعقلية ، فما أبعد البون ما بين الموقفين .

وقد أعرضت عن سرد كلامه وتتبعه بالنقض ، مكتفياً بإيراد هذا الملخص وإتباعه بما ذكرته ، توفيراً للوقت وإراحة للقارئ من مزيد عناء ، في قضية أصبحت الآن من المسلَّمات عند الأمة ، إذ لم يبق - فيما أحسب - من يذهب مذهب ابن القيم في التفرقة بين بقاء النعيم والعذاب على الإطلاق .

أما الطائفة الثانية ـ وهم الذين يفرقون بين عصاة الموحدين وغيرهم من أهل النار في مدة العذاب - فهم يستدلون كذلك بآيات من الكتاب وروايات من السنة ، واستدلال عقلي لما ذهبوا إليه ، أما الآيات فقد تعلقوا منها بما تعلقت به الطائفة الأولى ، وكفى بما سبق من النقض لاستدلال أولئك رداً على دعوى هؤلاء ، على أن تلك الآيات ليس فيها ما يدل بأي وجه على تفرقة بين عصاة الموحدين وغيرهم ، وإنما هي في وعيد جميع أهل النار والعياذ بالله ، اللهم إلا ما في سورة النبأ ، فإن ما وليه من ذم المتوعدين قاض بأنهم منكرون للبعث ، وذلك قوله تعالى : (إنهم كانوا لا يرجون حسابا . وكذبوا بآياتنا كذابا) فلو كان مطمع في خروجهم يلوح من قوله : (لابثين فيها أحقابا) لكان أولى به المنكرون للبعث المكذبون بالكتاب ، ولكن أنّى ذلك وقد اختتم هذا الوعيد بقوله : (فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا)27

وتعلقوا أيضاً بما لا يشير إلى ذلك من قريب ولا من بعيد ، كقوله تعالى : (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين)28 ، ووجه تعلقهم به أن ودهم ذلك يكون عندما يرون عصاة المسلمين يخرجون من النار مع بقائهم فيها . وهذا تأويل لا يقتضيه لفظ الآية ، ولم يقم عليه شاهد من غيرها ، لأن ودهم ذلك يحتمل أن يكون عندما يرون قوة الإسلام ضاربة في الأرض وسلطانه مهيمناً على الأمم ، وكلمته نافذة بين الناس ، فيودوا لو كانوا سابقين إليه ، ويحتمل أن يكون عندما تنتزع أرواحهم ، ويشهدون من طلائع أهوال الدار الآخرة ما لم يحتسبوه ، ويحتمل أن يكون عندما يبعثون من قبورهم ويواجهون الفزع الأكبر ، ويدركون أنه لا منجاة يومئذ إلا لمن اعتصم بحبل الإسلام وآوى إلى ركنه وأمسك بعروته ، وكل واحد من هؤلاء الوجوه مروي عن جماعة من مفسري السلف والخلف ، فلم يبق مجال للاستدلال بالآية على ما لم تكن نصاً عليه ولا ظاهرة فيه .

وأما الروايات فهي متعددة ولكن تقابلها روايات لا تقل عنها جودة ولا كثرة ، سأذكر بعضها إن شاء الله في آخر الفصل الآتي على أن روايات الخروج من النار معارضة لنصوص القرآن ، وروايات الخلود فيها متفقة معها ، ويتعين المصير في مثل هذه الحالة إلى ما اتفق مع القرآن لا إلى ما خالفه .

وأما الإستدلال العقلي فهو أنه لو تساوى عصاة الموحدين مع المشركين في الخلود لما بقي لكلمة التوحيد أثر ، ولا لأعمال البر فائدة . وجوابه أنهم وإن تساووا في الخلود فهم غير متساوين في العذاب ، كما أن الأبرار لا يتساوون في الثواب بل يتفاوتون بتفاوت الأعمال ، والنار دركات كما أن الجنة درجات .


الهوامش والتعليقات

الآية 128 من سورة الأنعام

1

الآيتان 106 و 107 من سورة هود

2

الآيتان 6 و 7 من سورة الأعلى

3

الآية 27 من سورة الفتح

4

الآية 48 من سورة إبراهيم

5

الآية 108 من سورة هود

6

الآية 108 من سورة هود

7

الآية 107 من سورة هود

8

الآية 167 من سورة البقرة

9

الآية 36 من سورة فاطر

10

الآية 20 من سورة السجدة

11

الآيتان 65 و 66 من سورة الفرقان

12

الآية 37 من سورة المائدة

13

الآية 16 من سورة الإنفطار

14
الآية 40 من سورة الأعراف 15

الآية 188 من سورة الأعراف

16
الآية 49 من سورة يونس 17

الآيتان 6 و 7 من سورة الأعلى

18

المنار ج12 ص160/161

19

الآية 23 من سورة النبأ

20

الآية 37 من سورة المائدة

21

التفسير الكبير للفخر الرازي ج31 ص13/14

22

أنظر الصواعق المرسلة ص22/240 ، مطبعة الإمام .. وحادي الأرواح ص252/277 دار الكتب العلمية

23

أنظر المنار ج8 ص98/99

24
الآية 85 من سورة الإسراء 25

الآية 122 من سورة النساء

26

الآية 30 من سورة النبأ

27
الآية 2 من سورة الحجر 28

الفصل الثالث

أدلة القائلين بخلود جميع مرتكبي الكبائر في النار

وهي قسمان ، بعضها من الكتاب وبعضها من السنة :

أما من الكتاب فكثيرة نذكر منها ما يلي :

قوله تعالى: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة قل اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله مالا تعلمون ، بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)1

ودلالته عليه من وجوه

أن هذه العقيدة يهودية المنبت كما هو ظاهر من هذا النص وقد ذُكرت في مساق التنديد بهم والتشهير بضلالهم

أولها

ما فيه من الاستنكار لهذا القول الوارد مورد الاستفهام المقصود به التحدي ، والتقرير بأنهم لم يستندوا في مقالتهم هذه إلى عهد من الله ، وإنما هي من ضمن ما يتقولونه عليه تعالى بغير علم ، وناهيك بذلك ردعاً عن التأسّي بهم فيما يقولون ، والخوض معهم فيما يخوضون

ثانيها

ما فيه من البيان الصريح بأن مصير كل من ارتكب سيئة وأحاطت به خطيئته لعدم تخلصه منها بالتوبة النصوح أنه خالد في النار مع الخالدين ، وهو رد على هذه الدعوى يستأصل أطماع الطامعين في النجاة مع الإصرار على الإثم

ثالثها

وما أجدر العاقل بأخذ الحيطة وعدم الاغترار بهذه الأماني التي تشبَّث بها أهل الكتاب ، وحذر الله هذه الأمة من التشبث بها كما تشبثوا حيث قال : (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا)2

واعترض على الاستدلال به بأمرين

أن السيئة هنا هي الشرك كما روي عن طائفة من المفسرين وإذا كان هذا الوعيد للمشركين فهو لا يعم الموحدين

أولهما

أن الخلود لم يرد به التأبيد وإنما أريد به المكث الطويل

ثانيهما

ويرد الإعتراض الأول أن حمل السيئة على الشرك وحده خروج بالآية عما يقتضيه لفظها ، فإن لفظ (سيئة) نكرة مطلقة في سياق الشرط ، والنكرات إذا وردت في الشرط فهي محمولة على العموم لأن الشرط كالنفي ، وحكم النكرة في سياق النفي عمومها.

وإن أردت مزيد البيان في ذلك فانظر في قول القائل لعبيده : من جاءني بعُملة فهو حرّ ، فإنه يعتق بقوله هذا من جاءه بأي شيء يصدق عليه أنه عُملة ، سواء كان درهماً أو ديناراً أو ريالاً أو جنيهاً ، أو غيرها ؛ وكذلك لو قال لهم من أتاني بثوب فهو حرّ ، فإن هذا الحكم يصدق على من جاء بما يصدق عليه اسم الثوب ، قميصاً كان أو إزاراً ، أو عمامة ، أو سراويل ، أو أي شيء آخر ، ولو حلف أحد أنه لم يرتكب سيئة وقد زنى ، أو سـرق ، أو شرب الخمر ، أو عقّ والديه ، أو أكل الربا ، أما يُعَدُّ حانثاً بقسمه هذا ؟

ولا متعلق لهم في قوله تعالى : (وأحاطت به خطيئته) وإن زعموا أن مرتكب الكبيرة إن كان موحداً لم تحط به خطيئته لأن له حسنات لا يحرم ثوابها ، ذلك لأنا نقول إن عدم التخلص من المعصية بالتوبة النصوح يجعلها محيطة بصاحبها ، مستولية عليه كالآخذ بناصيته الممسك بتلابيبه ، بخلاف ما إذا تخلص منها باللجوء إلى التوبة النصوح ، وهذا معنى ما روي عن السلف ودونكم بعض النصوص المروية في ذلك .

قال الإمام ابن جرير حدثنا أبو كريب قال ثنا ابن يمان عن سفيان عن الأعمش عن أبي روق عن الضحاك (وأحاطت به خطيئته) قال : مات بذنبه . حدثنا أبو كريب قال ثنا جابر بن نوح ، قال ثنا الأعمش عن أبي رزين عن الربيع بن خيثم (وأحاطت به خطيئته) قال مات عليها . حدثنا ابن حميد قال ثنا سلمة ، قال أخبرني ابن إسحاق ، قال حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس (وأحاطت به خطيئته) قال : يحيط كفره بما له من حسنة - والكفر يعم الكبائر كلها لأنها من كفران النعم .

حدثني محمد بن عمرو قال ثنا أبو عاصم ، قال حدثني عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد (وأحاطت به خطيئته) قال : ما أوجب الله فيه النار . حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة (وأحاطت به خطيئته) قال : أما الخطيئة فالكبيرة الموجبة .

حدثنا الحسن قال أخبرنا عبد الرزاق عن قتادة (وأحاطت به خطيئته) قال : الخطيئة الكبائر .

حدثني المثنَى قال ثنا إسحاق قال ثنا وكيع ويحيىَ بن آدم عن سلام بن مسكين ، قال سأل رجل الحسن عن قوله : (وأحاطت به خطيئته) فقال : ما تدري ما الخطيئة ؟ يا بني أتل القرآن فكل آية وعد الله عليها النار فهي الخطيئة .

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال ثنا أبو أحمد الزبيري قال ثنا سفيان عن منصور عن مجاهد في قوله : (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته) قال : كل ذنب محيط فهو ما وعد الله عليه النار .

حدثنا أحمد بن إسحاق قال ثنا أبو أحمد الزبيري ، قال ثنا سفيان عن الأعمش عن أبي رزين (وأحاطت به خطيئته) قال : مات بخطيئته .

حدثني المثنىَ قال ثنا أبو نعيم قال ثنا الأعمش قال ثنا مسعود أبو رزين عن الربيع بن خيثم في قوله : (وأحاطت به خطيئته) قال : هو الذي يموت على خطيئته قبل أن يتوب .

حدثنا القاسم قال ثنا الحسين قال : قال وكيع : سمعت الأعمش يقـول في قولـه: (وأحاطت به خطيئته) مات بذنوبه .

حدثت عن عمار قال ثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع : (أحاطت به خطيئته) الكبيرة الموجبة.

حدثني موسى قال ثنا عمرو بن حماد قال ثنا أسباط عن السدي : (أحاطت به خطيئته) فمات ولم يتب3.

وهذا الذي نقله الإمام ابن جرير عن سلف الأمة في معنى الآية الكريمة ، هو الذي ذهب إليه الإمام المحقق محمد عبده بعد دقة إمعانه وتسريح فكره فيما يراد بالسيئة وبإحاطة الخطيئة ، وهذا ما جاء عنه في المنار : للسيئة هنا إطلاقها وخصها مفسرنا - الجلال - وبعض المفسرين بالشرك ، ولو صح هذا لما كان لقوله تعالى : (وأحاطت به خطيئته) معنى ؛ فإن الشرك أكبر السيئات ، وهو يستحق هذا الوعيد لذاته كيف ما كان ، ومعنى إحاطة الخطيئة هو حصرها لصاحبها ، وأخذها بجوانب إحساسه ووجدانه ؛ كأنه محبوس فيها ، لا يجد لنفسه مخرجاً منها ، يرى نفسه حرّاً مطلقاً وهو أسير الشهوات وسجين الموبقات ورهين الظلمات ، وإنما تكون الإحاطة بالاسترسال في الذنوب والتمادي على الإصرار ، قال تعالى : (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) المطففين 14 ، أي من الخطايا والسيئات ، ففي كلمة (يكسبون) معنى الإسترسال والإستمرار ، ران عليه غطاه وستره ، أي أن قلوبهم قد أصبحت في غلف من ظلمات المعاصي حتى لم يبق منفذ للنور يدخل إليها منه ، ومن أحدث لكل سيئة يقع فيها توبة نصوحاً وإقلاعاً صحيحاً لا تحيط به الخطايا ، ولا يرين على قلبه السيئات ، روى أحمد والترمذي والحاكم وصححه والنسائي وابن ماجة وابن حبان وغيرهم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن العبد إذا أذنب ذنباً نكتت في قلبه نكتة سوداء ، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه فذلك الران الذي ذكره الله تعالى في القـرآن : ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون )" لمثل هذا كان السلف يقولون : (المعاصي بريد الكفر)4

ويراد الإعتراض الثاني أن حمل الخلود هنا على المكث الطويل دون التأبيد يستتبع حمله على ذلك في نظيره ، وهو الخلود الموعود به الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنة إذ لا دليل على الفرق بينهما .

وقد تحدث عن ذلك الإمام محمد عبده فقال : ومن المفسرين من ترك السيئة في الآية على إطلاقها ، ولم يؤولها بالشرك ولكنهم أولوا جزائها ، فقالوا : إن المراد بالخلود طول مدة المكث ، لأن المؤمن لا يخلد في النار وإن استغرقت المعاصي عمره ، وأحاطت الخطايا بنفسه فانهمك فيها طول حياته ؛ أولوا هذا التأويل هروباً من قول المعتزلة : إن أصحاب الكبائر يخلدون في النار ، وتأييداً لمذهبهم أنفسهم المخالف للمعتزلة ، والقرآن فوق المذهب ، يرشد إلى أن من تحيط به خطيئته لا يكون أو لا يبقى مؤمناً) . اهـ

وقال عقبه السيد محمد رشيد رضا : (إن فتح باب تأويل الخلود يجرِّيءُ أصحاب استقلال الفكر في هذا الزمان على الدخول فيه ، والقول بأن معنى خلود الكافرين في العذاب طول مكثهم فيه ، لأن الرحمن الرحيم الذي سبقت رحمته غضبه ما كان ليعذب بعض خلقه عذاباً لا نهاية له ، لأنهم لم يهتدوا بالدين الذي شرعه لمنفعتهم لا لمنفعته ، ولكنهم لم يفقهوا المنفعة ، وإذا كان التقليد مقبولاً عند الله - كما يرى فاتحو الباب - فقد وضح عذر الأكثرين لأنهم مقلدون لعلمائهم - .. الخ ما يتكلم به الناس ولا سيما في هذا العصر ، فإن هذه المسألة قديمة ، وهي أكبر مشكلات الدين ، نعم إن العلماء يحتجون عليهم بالإجماع ولو سكوتياًّ ، ولكن التأويل باب لا يكاد يسده متى فتح شيء. اهـ 5

وكلامه هذا يشير إلى ما ذكرته قبل ، من أن تأويل الخلود بالمكث الطويل دون التأبيد إذا قيل به في وعيد طائفة لزم منه أن يحمل عليه ما جاء من الخلود في وعيد غيرها ، بل يترتب عليه تسويغ مثله في وعد المؤمنين بالخلود في الجنة ، وقد أشار إلى مثل ذلك في تفسير سـورة النساء6 ، وبهذا ينتقض على قول من يحصر الخروج من النار في الموحدين مذهبهم للزوم أن يقولوا مثله في المشركين ، وأن يقولوا بانتهاء نعيم الجنة إلى أمد .

-1

قوله تعالى : (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)7 ، ووجه الاستدلال بالآية أنها وعيد لأكلة الربا وهم غير مشركين ، لأن الآية في معرض التحذير من أكل الربا بعد تحريمه .

واعترض بأن هذا الوعيد ليس على أكل الربا بل هو على استحلاله ، بدليل ما جاء في صدرها من حكاية قولهم المعارض لحكم الإسلام في الربا (إنما البيع مثل الربا)8 ، والمُسْتَحِل لما حرم الله بالنص القطعي كالربا مشرك بالإجماع ، فلا يعم حكم الخلود مرتكبي الكبائر دون الشرك . والجواب أن حمل الوعيد على الاستحلال دون الأكل يهون من وقْع أوامر الله تعالى ونواهيه في نفوس العباد ، ويقلل من أهمية حكم الحرمة في المحظورات ، على أن سياق ما قبل وما بعد هذه الآية إنما هو حظر الربا ، وتغليظ أمره على الناس ، وليس ذكر ما يقوله مستحلوه مخرجاً لهذا الوعيد عما يقتضيه السياق ، وإلا لما كانت فائدة في شيء مما ذكر قبلها أو بعدها .

وقد تفطن لذلك الإمام محمد عبده فأتى في كشف اللثام عن مخدرات معاني الآية للأفهام بما لخصه صاحب المنار حيث قال : ( أي ومن عاد إلى ما كان يأكل من الربا المحرم بعد تحريمه فأولئك البعداء عن الإتعاظ بموعظة ربهم الذي لا ينهاهم إلا عما يضرُّ بهم في أفرادهم أو جميعهم ، هم أهل النار الذين يلازمونها كما يلازم الصاحب صاحبه فيكونون خالدين فيها .

وقد أول الخلود المفسرون لتتفق الآية مع المقرر في العقائد والفقه من كون المعاصي لا توجب الخلود في النار ، فقال أكثرهم إن المراد ومن عاد إلى تحليل الربا واستباحته اعتقاداً ، ورد بعضهم بأن الكلام في أكل الربا ، وما ذكر عنهم من جعله كالبيع هو بيان لرأيهم فيه قبل التحريم ، فهو ليس بمعنى استباحة المحرم ، فإذا كان الوعيد قاصراً على الاعتقاد بحله لا يكون هناك وعيد على أكله بالفعل .

والحق أن القرآن فوق ما كتب المتكلمون والفقهاء ؛ يجب إرجاع كل قول في الدين إليه ، ولا يجوز تأويل شيء منه ليوافق كلام الناس ، وما الوعيد بالخلود هنا إلا كالوعيد بالخلود في آية قتل العمد ، وليس هناك شبهة في اللفظ على إرادة الاستحلال .

ومن العجيب أن يجعل الرازي الآية هنا حجة على القائلين بخلود مرتكب الكبيرة في النار انتصاراً لأصحابه الأشاعرة ، وخير من هذا التأويل تأويل بعضهم للخلود بطول المكث .

أما نحن فنقول : ما كل ما يسمى إيماناً يعصم صاحبه من الخلود في النار ، الإيمان إيمانان ، إيمان لا يعدو التسليم الإجمالي بالدين الذي نشأ فيه المرء أو نُسب إليه ، ومجاراة أهله ، ولو بعدم معارضتهم فيما هم عليه ، وإيمان هو عبارة عن معرفة صحيحة بالدين على يقين بالإيمان متمكنة في العقل بالبرهان ، مؤثرة في النفس بمقتضى الإذعان ، حاكمة على الإرادة المصرفة للجوارح في الأعمال بحيث يكون صاحبها خاضعاً لسلطانها في كل حال إلا ما لا يخلو عنه الإنسان من غلبة جهالة أو نسيان ، وليس الربا من المعاصي التي تُنسى ، أو تغلب النفس عليها خفة الجهالة والطيش كالحدة وثورة الشهوة ، أو يقع صاحبها منها في غمرة النسيان ، كالغيبة والنظرة ، فهذا هو الإيمان الذي يعصم صاحبه بإذن الله من الخلود في سخط الله ، ولكنه لا يجتمع مع الإقدام على كبائر الإثم والفواحش عمداً إيثاراً لحب المال واللذة على دين الله وما فيه من الحكم والمصالح ، وأما الإيمان الأول فهو صوري فقط ، فلا قيمة له عند الله تعالى لأنه تعالى لا ينظر إلى الصور والأقوال ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال كما ورد في الحديث ، والشواهد على هذا الذي قررناه في كتاب الله تعالى كثيرة جداً ، وهو مذهب السلف الصالح وإن جهله كثير ممن يدَّعون اتباع السنة ، حتى جرأوا الناس على هدم الدين بناءً على أن مدار السعادة على الاعتراف بالدين ، وإن لم يعمل به ، حتى صار الناس يتبجحون بارتكاب الموبقات مع الاعتراف بأنها من كبائر ما حرم ، كما بلغنا عن بعض كبرائنا أنه قال : إنني لا أنكر أنني آكل الربا ولكنني مسلم أعترف بأنه حرام ، وقد فاته بأنه يلزمه بهذا القول الاعتراف بأنه من أهل هذا الوعيد ، وبأنه يرضى أن يكون محارباً لله ولرسوله ، وظالماً لنفسه وللناس ، كما سيأتي في آية أخرى ، فهل يعترف بالملزوم أم ينكر الوعيد المنصوص فيؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض ؟ نعوذ بالله من الخذلان . ) اهـ9

وكلامه صريح في أن مذهب السلف الصالح هو ما عليه أهل الإستقامة والحمد لله .

-2

قوله تعالى : (ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرَّهم في دينهم ما كانوا يفترون)10 ، ووجه الاستدلال به ما سبق في نظيره من إثبات أن هذه العقيدة من عقائد اليهود ، وأنها جرأتهم على معصية الله ، وقادتهم إلى الإعراض عن كتابه ، وذُكرت في معرض تفنيد ضلالهم وتبكيتهم على عيوبهم ، ولصاحب المنار في تفسيره هذه الآية كلام جاء فيه11 : ( لعل المراد بعبارة الآية أنهم كانوا يعتقدون أن الإسرائيلي إذا عوقب فإن عقوبته لا تكون إلا قليلة ، كما هو اعتقاد أكثر المسلمين اليوم ، إذ يقولون إن المسلم المرتكب لكبائر الإثم والفواحش إما أن تدركه الشفاعات وإما أن تنجيه الكفارات ، وإما أن يمنح العفو والمغفرة بمحض الفضل والإحسان ، فإن فاته كل ذلك عذب على قدر خطيئته ثم يخرج من النار ويدخل الجنة ، وأما المنتسبون إلى سائر الأديان فهم خالدون في النار كيفما كانت حالهم ، ومهما كانت أعمالهم ، والقرآن لا يقيم للانتساب إلى دين ما وزناً ، وإنما ينوط أمر النجاة من النار والفوز بالنعيم الدائم في دار القرار بالإيمان الذي وصفه وذكر علامات أهله وصفاتهم ، وبالأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة ، مع التقوى وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن .

وأما المغفرة فهي خاصة في حكم القرآن بمن لم تحط به خطيئته ، وأما من أحاطت به حتى استقرت شعوره ورانت على قلبه فصار همه محصوراً في إرضاء شهوته ، ولم يبق للدين سلطان على نفسه (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) لهذا يحكم هذا الكتاب الحكيم بأن من يجعل الدين جنسية وينوط النجاة من النار بالانتساب إليه أو الاتكال على من أقامه من السلف فهو مغتر بالوهم مفتر يقول على الله بغير علم ، كما قال هنا : (وغرَّهم في دينهم ما كانوا يفترون)12 ، أي بما زعموا من تحديد مدة العقوبة للأمة في مجموعها ، وهذا من الافتراء الذي كان منشأ غرورهم في دينهم ، ومثله لا يعرف بالرأي ولا بالفكر لأنه من أمر عالم الغيب فلا يعرف إلا بوحي من الله ، وليس في الوحي ما يؤيده ، ولا يوثق به إلا بعهد من الله عز وجل ، ولا عهد بهذا ، وإنما عهد الله هو ما سبق في سورة البقرة (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة قل اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله مالا تعلمون ، بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ، والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون)13

ثم تناول تفسير قوله تعالى : (فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون)14 ، وعندما تكلم على جملة (وهـم لا يظلمون) قال : ( وقد قال المفسرون في هذه الجملة كلمة أحب التنبيه على ما فيها ، قالوا فيها دليل على أن العبادة لا تحبط ، وأن المؤمن لا يخلد في النار لأن توفية جزاء إيمانه وعمله لا تكون في النار ولا قبل دخولها ، فإذاً هي بعد الخلاص منها ، والعبارة للبيضاوي ، ونقلها أبو السعود كعادته ، وأقول : إن الكسب هنا ليس خاصاً بالعبادة والإيمان ، بل هو عام وشامل لكل ما عمله العبد من خير وشر ، فإذا أرادوا أن الآية تدل على أنه لابد من الجزاء على الكسب كما هو ظاهر الآية ، لزمهم أن الكافر إذا أحسن في بعض الأعمال - ولا يوجد أحد من البشر لا يحسن عملاً قط - وجب أن يجازىَ عليه ، وهم لا يقولون بذلك ، ولذلك خصصوا وأخرجوا الآية عن ظاهرها ، وإذا نحن جمعنا بين هذه الآية التي وردت رداً لقول الذين زعموا أنهم لن تمسهم النار إلا أياما معدودة ، وآية البقرة التي وردت في ذلك أيضاً ، وعلمنا أن مراد الله في الجزاء على كسب الإنسان بحسبه ، وهو أن العبرة بتأثير العمل في النفس فإذا كان أثره السيئ قد أحاط بعلمها وشعورها ، واستغرق وجدانها كانت خالدة في النار ، لأن العمل السيئ لم يدع للإيمان أثراً صالحاً فيها يعدها لدار الكرامة ، بل جعلها من أهل دار الهوان بطبعها ، وإذا لم يصل إلى هذه الدرجة بأن أغلب عليها تأثير العمل الصالح أو استوى الأمران فكانت بين بيـن جوزيت على كل بحسب درجته كما قررنا آنفاً15.

هذا كلامه ولا يؤخذ مما سبق أو لحق منه أن غير المؤمن بملة الإسلام ينجّيه شيء من عمله من عذاب النار ، لأنه بفقدانه الإيمان الذي هو أساس العمل يحرم جني ثمرات إحسانه فيما عمل ، لأن الإيمان شرط لصحة الأعمال وقبولها ، قال تعالى : (فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون)16 ، وقال : (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضما)17 ، فترى أن الإيمان قيد لصحة العمل .

واستدلال القائلين بخروج أهل الكبائر من النار بقوله تعالى : (وهم لا يظلمون) ـ بجانب كونه مستلزماً لما قاله العلامة السيد رشيد رضا من اشتراك الكفّار في ذلك مع المؤمنين ـ يقتضي أن اليهود هم أولى بهذا الحكم لأن الآية نزلت فيهم ..

والتحقيق أن العبرة بخواتم الأعمال ، فمن ختم له بالعقيدة الصحيحة والعمل الصالح كان سعيداً عند الله مهما عمل من قبل ، فإن التوبة تمحو الآثام وتطهر صاحبها من الحوب ، ومن ختم له بالإصرار على الآثام لم تُجْدِهِ أعماله السابقة شيئاً لأنها مُحبطة بإصراره ، والله تعالى يقول : (إنما يتقبل الله من المتقين)18 ، والتقوى لا تجامع الإصرار .

-3

قوله تعالى : (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين)19 ، ووجه الإستدلال به أنه جاء بعد تبيان أحكام المواريث ، والنص على أنها من حدود الله ، ووعد من يطيع الله ورسوله بالخلد ، في جنات تجري من تحتها الأنهار ، فثبت من ذلك بأن من جاوز حكماً من أحكام الله صدق عليه هذا الوعيد ، وقد تحدث في تفسير هذه الآية كل من الإمام محمد عبده والسيد رشيد رضا بما يؤيد كلامهما السابق20.

-4

قوله تعالى : (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيما)21 ، ووجه الاستدلال بالآية أن الله تعالى توعد فيها قاتل المؤمن - فيما توعده به - بالخلود في النار مع أن القتل كبيرة دون الشرك .

وقد حاولوا التخلص مما دل عليه هذا النص بضروب من التأويلات التي أنكر فيها بعضهم على بعض ، ولم يتفقوا منها على شيء .

قال الفخر : ( وزعم الواحدي أن الأصحاب سلكوا في الجواب عن هذه الآية طرقاً كثيرة ، قال : وأنا لا أرتضي شيئاً منها ، لأن التي ذكروها إما تخصيص وإما معارضة وإما إضمار ، واللفظ لا يدل على شيء من ذلك - قال - والذي أعتمده وجهان ، ( الأول ) إجماع المفسرين على أن الآية نزلت في كافر قتل مؤمناً ثم ذكر تلك القصة ، ( والثاني ) أن قوله : (فجزاؤه جهنم) معناه الاستقبال ، أي أنه سيجزى بجهنم ، وهذا وعيد - قال - وخلف الوعيد كرم ، وعندنا أنه يجوز أن يخلف الله وعيد المؤمنين ، فهذا حاصل كلامه الذي زعم أنه خير مما قاله غيره ) .

وبعدما أورد الفخر هذا الكلام أخذ ينقضه مع ما عرف عنه من التعصب للقول بخروج أهل الكبائر من النار ، وهذا نص كلامه :

وذلك أنه ثبت في أصول الفقه أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فإذا ثبت أن اللفظ الدال على الاستغراق حاصل فنزوله في حق الكفار لا يقدح في ذلك العموم ، فيسقط هذا بالكلية ، ثم نقول كما أن عموم اللفظ يقتضي كونه عاما في كل قاتل موصوف بالصفة المذكورة فكذا هاهنا وجه آخر يمنع من تخصيص هذه الآية بالكافر ، وبيانه من وجوه :

أنه تعالى أمر المؤمنين بالمجاهدة مع الكفار ثم علمهم ما يحتاجون إليه عند اشتغالهم بالجهاد ، فابتدأ بقوله : (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأً)22 ، فذكر في هذه الآية ثلاث كفارات ، كفارة قتل المسلم في دار الإسلام ، وكفارة قتل المسلم عند سكونه مع أهل الحرب ، وكفارة قتل المسلم عند سكونه مع أهل الذمة وأهل العهد ، ثم ذكر عقيبه حكم قتل العمد مقروناً بالوعيد ، فلما كان بيان حكم قتل الخطأ بياناً لحكم اختص بالمسلمين كان بيان حكم قتل العمد الذي هو كالضد لقتل الخطأ وجب أن يكون أيضاً مختصاً بالمؤمنين فإن لم يختص بهم فلا أقل من دخولهم فيه .

الأول

أنه تعالى قال بعد هذه الآية : (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا) وأجمع المفسرون على أن هذه الآيات إنما نزلت في حق جماعة من المسلمين لقوا قوماً فأسلموا فقتلوهم ، وزعموا أنهم إنما أسلموا من الخوف ، وعلى هذا التقدير فهذه الآية وردت في نهي المؤمنين عن قتل الذين يظهرون الإيمان ، وهذا أيضاً يقتضي أن يكون قوله : (ومن يقتل مؤمناً متعمداً) نازلاً في نهي المؤمنين عن قتل المؤمنين حتى يحصل التناسب ، فثبت بما ذكرنا أن ما قبل هذه الآية وما بعدها يمنع من كونها مخصوصة بالكفار .

الثاني

أنه ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب له يدل على كون ذلك الوصف علة لذلك الحكم ، وبهذا الطريق عرفنا أن قوله : (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما)23 ، وقوله : (والزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما)24 ، الموجب للقطع هو السرقة والموجب للجلد هو الزنى ، فكذا هاهنا وجب أن يكون الموجب لهذا الوعيد هو القتل العمد ، لأن هذا الوصف مناسب لذلك الحكم ، فلزم كون ذلك الحكم معللاً به ، وإذا كان الأمر كذلك لزم أن يقال أينما ثبت هذا المعنى فإنه يحصل هذا الحكم ، وبهذا الوجه لا يبقى لقوله : الآية مخصوصة بالكافر وجه .

الثالث
أن المنشأ لاستحقاق هذا الوعيد إما أن يكون هو الكفر أو هذا القتل المخصوص ، فإن كان منشأ هذا الوعيد هو الكفر كان الكفر حاصلاً قبل هذا القتل ، فحينئذ لا يكون لهذا القتل أثر البتة في هذا الوعيد ، وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية جارية مجرى ما يقال إن من يتعمد قتل نفس فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ، لأن القتل العمد لما لم يكن له تأثير في هذا الوعيد جرى مجرى النفس ، ومجرى سائر الأمور التي لا أثر لها في هذا الوعيد ، ومعلوم أن ذلك باطل ، وإن كان منشأ هذا الوعيد هو كونه قتلاً عمداً فحينئذ يلزم أن يقال أينما حصل القتل يحصل هذا الوعيد ، وحينئذ يسقط هذا السؤال ، فثبت بما ذكرنا أن هذا الوجه الذي ارتضاه الواحدي ليس بشيء . الرابع

 

أما الوجه الأول فضعيف

لأن الوعيد قسم من أقسام الخبر ، فإذا جوز على الله الخلف فيه ، فقد جوز الكذب على الله ، وهذا خطأ عظيم ، بل يقرب من أن يكون كفرا ، فإن العقلاء أجمعوا على أنه تعالى منزه عن الكذب ، ولأنه إذا جوز الكذب على الله في الوعيد لأجل ما قال إن الخُلف في الوعيد كرم فلم لا يجوز الخُلف أيضاً في وعيد الكفار ؟ وأيضا فإذا جاز الخُلف في الوعيد لغرض الكرم فلم لا يجوز الخلف في القصص والأخبار لغرض المصلحة ؟ ومعلوم أن فتح هذا الباب يفضي إلى الطعن في القرآن ، وكل الشريعة ، فثبت أن كل واحد من هذين الوجهين ليس بشيء .

وحكى القفال في تفسيره وجهاً آخر هو الجواب ، وقال : الآية تدل على أن جزاء القتل العمد هو ما ذكر ، لكن ليس فيها أنه تعالى يوصل هذا الجزاء إليه أم لا ، وقد يقول الرجل لعبده جزاؤك أن أفعل بك كذا وكذا إلا أني لا أفعله ، وهذا الجواب أيضاً ضعيف لأنه ثبت بهذه الآية أن جزاء القتل العمد هو ما ذكر ، وثبت بسائر الآيات أنه تعالى يوصل الجزاء إلى المستحقين ، قال تعالى : (من يعمل سوءاً يجز به)25 ، وقال : (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت)26 ، وقال : (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره . ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)27 ، بل إنه تعالى ذكر في هذه الآية ما يدل على أنه يوصل إليهم هذا الجزاء ، وهو قوله : (وأعد له عذابا عظيما) فإن بيان أن هذا جزاؤه حصل بقوله : (فجزاؤه جهنم خالدا فيها) فلو كان قوله : (وأعد له عذابا عظيما) إخباراً عن الإستحقاق كان تكرارا ، فلو حملناه على الإخبار عن أنه تعالى سيفعل لم يلزم التكرار ، فكـان ذلك أولى )28

وأما الوجه الثاني من الوجهين الذين اختارهما فهو في غاية الفساد

وبعد هذا التقرير الذي قرره الفخر في هذا المقام انثنى من الواضح إلى المشكل ، ومن اليقين إلى الشك حيث قال : " واعلم أنا نقول هذه الآية مخصوصة في موضعين ، أحدهما أن يكون القتل العمد غير عدوان ، كما في القصاص فإنه لا يحصل فيه هذا الوعيد البتة ، والثاني القتل العمد العدوان إذا تاب عنه فإنه لا يحصل فيه هذا الوعيد ، وإذا ما ثبت دخول التخصيص فيه في هاتين الصورتين فنحن نخصص هذا العموم فيما إذا حصل العفو ، بدليل قوله تعالى : (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)29 ، وأيضاً في هذه الآية إحدى عمومات الوعيد ، وعمومات الوعد آكد من عمومات الوعيد "30

ونحن لا ننازع الفخر في كون هذا الوعيد لا يشمل القاتل غير المعتدي كالمقتص ، ولا التائب من قتله مع استيفاء شروط التوبة ، ولكننا ننازعه في تخصيصه بحصول العفو لغير التائب ، وبطلان ذلك ظاهر من وجهين :

إن هذا التخصيص إما أن يكون مقتضيا إبطال وعيد قاتل العمد بالخلود في النار رأساً ، ويترتب عليه ما ذكره الفخر بنفسه ، وهو دخول الكذب في أخبار الله تعالى ، وقد نقل نفسه أن العقلاء مجمعون على عدم جوازه ، وإما أن يكون يقتضي حصول العفو عن بعض القتلة دون بعض ، وعليه فلا بد من أن يخلد في النار بعض الموحدين ، وإقرار ذلك يوقعهم في ما فروا منه ، فإن هذه المحاولات المختلفة في تأويل هذه الآية وأمثالها لم يقصدوا بها إلا التهرب مما تدل عليه من خلود عصاة الموحدين غير التائبين في النار ، على أن العفو عن بعض العصاة دون بعضهم مع اتحاد جريمتهم منافٍ لعدل الله تعالى وحكمته ، كما أنه يستلزم إقرار ما نفاه الفخر من إخلاف الله خبره لأن الوعيد لم يخص بعضاً دون بعض .

أولهما

أن قوله تعالى : (ويغفر مادون ذلك لمن يشاء) لا يدل بحال على العفو عن أصحاب الكبائر دون الشرك مع الإصرار عليها ، ذلك لأن هذه الآية جاءت في موضعين من سورة النساء في مقام التحضيض على دخول من لم يسلم في الإسلام ، فهي في الموضع الأول مسبوقة بقوله تعالى : (يا أيها الذين أُوتوا الكتاب آمنوا بما نزَّلنا مصدقاً لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنَّا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا)31 ، ثم تلا ذلك قوله سبحانه : (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء) فيفهم من هذا السياق أن المراد بالآية أن الله لا يغفر لمن بقي على شِركه غير نازع عنه إلى التوحيد ، ولو تاب من سائر آثامه فإن توبة المشرك لا تكون إلا بالتوحيد الذي هو أساس الصالحات ، ومحور البرّ ، كما أن الشرك أم الفجور ، وقوله : (ويغفر مادون ذلك لمن يشاء) أي مادون الشرك من معاصي المشركين لمن شاء أن يوفقه للتوبة من شركه منهم ، فإن الإسلام جب لما قبله ، وكل من أسلم مخلصاً لله تعالى خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، ولم تلحقه تبعة ، ولا يعلق به إثم مما قارفه في جاهليته من أنواع المعصية ، وهو معنى قوله تعالى : (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف)32 ، ولا خلاف بين الأمة في ذلك ، وتفسير هذه الآية بغير هذا يخرجها عما يقتضيه سياقها .

وأما الموضع الثاني فقد سُبِقَت فيه بقوله تعالى : (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نُوَلِّه ما تولَّى ونصله جهنم وساءت مصيرا)33 ، فحملها على غير ما ذكرته من تفسيرها مخرج لها عما يدل عليه أيضاً سياق ما قبلها ، فإن قوله تعالى : (إن الله لا يغفر أن يشرك به) تقرير فيه معنى التعليل لقوله : (ومن يشاقق الرسول .. الخ الآية ) وقوله : (ويغفر مادون ذلك لمن يشاء) وعد لمن أسلم من المشركين بغفران ما تقدم من خطاياهم بعد ما تقدمه من وعيد لمن أصر على شركه ، وبهذا يتبين وجه إعادة لفظ الآية مرة أخرى مع عدم اختلاف إلا في الفاصلة ، فقد فصلت أولاً بقوله تعالى : بـ (ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً)34 ، وفصلت ثانيا بقوله : (ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيدا)35 ، وبهذا يمكن الجمع ما بينهما وبين آيات الوعيد القاطعة بإنجازه كالوعد .

ثانيهما

وأما ما ذكره الفخر من أن آية قتل العمد هي إحدى عمومات الوعيد وعمومات الوعد أكثر من عمومات الوعيد . فجوابه أنه لا تنافي بين هذه وتلك حتى يرجح جانب منها على جانب ، لأن عمومات الوعيد في المصرّين ، وعمومات الوعد في التائبين ، والكل من عند الله تعالى الذي لا إخلاف لميعاده ، ولا تبديل لكلماته ، ولا معنى لترجيح بعض أخبار الله على بعض مع استحالة الكذب في جميع أخباره تعالى ، وإنما يجب أن يوضع كل موضعه ، ويؤول بتأويله .

وقال صاحب المنار - بعدما تحدث في تفسير الآية - : ( قد استكبر الجمهور خلود القاتل في النار ، وأوله بعضهم بطول المكث فيها ، وهذا يفتح باب التأويل لخلود الكفار ، فيقال إن المراد به طول المكث أيضاً ، وقال بعضهم إن هذا جزاؤه الذي يستحقه إن جازاه الله تعالى ، وقد يعفو عنه فلا يجازيه ، رواه ابن جرير عن أبي مجلز ، وفيه أن الأصل في كل جزاء أن يقع لاستحالة كذب الوعيد كالوعد ، وأن العفو والتجاوز قد يقع عن بعض الأفراد لأسباب يعلمها الله تعالى ، فليس في هذا التأويل تفص من خلود بعض القاتلين في النار ، والظاهر أنهم يكونون الأكثرين ، لأن الاستثناء إنما يكون في الغالب للأقلين ، وقال بعضهم إن هذا الوعيد مقيد بقيد الاستحلال ، والمعنى ومن يقتل مؤمنا متعمدا لقتله مستحلا ، له فجزاؤه جهنم خالداً فيها .. الخ ، وفيه أن الآية ليس فيها هذا القيد ، ولو أراده الله تعالى لذكره كما ذكر قيد العمد وأن الاستحلال كفر ، فيكون الجزاء متعلقا به لا بالقتل ، والسياق يأبى هذا ، وقال بعضهم إن هذا نزل في رجل بعينه فهو خاص به ، وهذا أضعف التأويلات لا لأن العبرة بعموم اللفظ دون خصوص السبب فقط ، بل لأن نص الآية على مجيئه بصيغة العموم ( من الشرطية ) جاء بفعل الاستقبال فقال : (ومن يقتل) ، ولم يقل : (ومن قتل) ، وقال آخرون : إن هذا الجزاء حتمٌ إلا من تاب وعمل من الصالحات ما يستحق به العفو عن هذا الجزاء كله أو بعضه ، وفيه أنه اعتراف بخلود غير التائب المقبول التوبة في النار )36

وبعدما قطع شوطاً في الكلام على توبة قاتل العمد : نقل عن الإمام محمد عبده ما يؤكد أن عقيدته في قاتل العمد إذا لم يتب أنه مخلد في النار والعياذ بالله37.

-5

قوله تعالى : (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أُولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ، والذين كسبوا السيئاتِ جزاء سيئةٍ بمثلها وترهقهم ذلة مالهم من الله من عاصم كأنما أُغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلما أُولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)38 ، والاستدلال به من وجوه :

أن الله وعد بالجنة الذين أحسنوا وحصرها فيهم بقوله : (أولئك أصحاب الجنة) فعرَّف المسند والمسند إليه ، ووسَّط بينهما ضمير الفصل لتأكيد الحصر

أولها

أنه أخبر عنهم أنهم لا يصيبهم قتر ولا ذله ، ولا يعقل أن يصلى أحد النار ولو لمدة ثواني فلا يرهقه فيها قتر ولا ذله

ثانيهما

أنه توعد الذين عملوا السيئات بالنار مخلدين فيها ، وهذا الحكم يصدق على من أتى أي سيئة ، فإن السيئات جنس غير محصورة أفراده ، وما كان كذلك فحكمه يصدق على كل فرد من أفراده سلباً وإيجاباً ، ألا ترى أن قول القائل تزوجت النساء لا يعني أنه تزوج جميع أفراد النساء ، بل يصدق على ما لو تزوج ولو واحدة منهن ، ولو حلف أنه لم يتزوج النساء ، وقد تزوج واحدة كان في قَسمه حانثاً

ثالثهما

فإن قيل : إن الله وعد المحسنين بالجنة ، وكل من أتى حسنة فقد أحسن ، على أن المفسرين من فسر المحسنين هنا بالموحدين لأن التوحيد أس الحسنات . فجوابه لو كان الأمر كذلك لم يكن داع إلى أمر أو نهي في كتاب أو سنة ما دام المطلوب هو التوحيد وحده ، ولتساقطت جميع آيات الوعيد على ما دون الشرك من المعصية ، كترك الصلاة ، ومنع الزكاة ، وأكل الربا ، وعقوق الوالدين ، وقطيعة الرحم ، وقتل النفس المحرمة بغير حق ، والزنى ، وسائر أعمال الفجور ، ولاستلزم ذلك أن يكون القتلة ، والزناة ، واللصوص ، وسائر أهل الكبائر في تعداد المحسنين ماداموا يلوكون كلمة التوحيد بألسنتهم ، وإن من أعجب العجب أن يُفسَّر الإحسان بما ذكر ولو مع مقارفة هذه الفواحش وأمثالها ، والنبي صلى الله عليه وسلم يفسر الإحسان بقوله : (أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).

-6

قوله تعالى : (والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غـراما)39 ، فإن وصفه بالغرام يدل على عدم انقطاعه ، قال في اللسان: ( والغرام : اللازم من العذاب والشر الدائم والبلاء ، والحب والعشق وما لا يستطاع أن يُتفصّى منه ) . وقال الزجاج : هو أشد العذاب في اللغة ، قال الله عز وجل : (إن عذابها كان غرام) وقال الطرماح :

ويوم النسار ويوم الفجا     ر كان عذابا وكان غراما

وقوله عز وجل : (إن عذابها كان غراما) أي ملحا دائما ملازما ، وقال أبـو عبيدة : ( أي هلاكاً ولزاماً لهم )40 . وقال شارح القاموس : ( والغرام مالا يستطاع أن يُتفصَّى منه ، وأيضاً المُلِح الدائم المـلازم )41

-7

قوله تعالى : (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما ، يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلـد فيه مهانا)42 ، فقد توعد الله فيه قاتل النفس المحرَّمة بغير الحق ، والزاني بما توعد به من دعا مع الله إلها آخر من الخلود في النار .

واعترض بأن هذا الوعيد خاص بمن جمع بين الكبائر الثلاث دون من أتى واحـدة منها .

وأجيب بأن هذا يعني أن من أشرك مع الله إلها آخر ولم يجمع مع شركه بين الزنا وقتل النفس المحرمة لم يَصْدُق عليه هذا الوعيد ، وهذا لا يقوله أحد منكم ، فإن قيل إن خلود المشرك ثبت بنصوص أخرى دلت على أن شِركه كافٍ في استحقاقه هذا العذاب ، فالجواب أن النصوص لم تفرق بين الشرك وغيره في الخلود ، بل دلت على خلود غير المشرك بالنص على بعض الكبائر كالقتل تارة والتوعد به على مطلق المعصية تارة أخرى كمـا في الآية الآتية .

-8

قوله تعالى : (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنـم خالدين فيها أبدا)43 ، ولا يماري أحد يؤمن بما أنزل الله أن مقارفة الكبيرة معصية لله ولرسوله ، فإن قيل إن هذا الوعيد خاص بالمعصية الكبرى وهي الإشراك بالله تعالى .

قلنا هذه مخالفة لصريح اللفظ بدون داع . فإن قيل إن الداعي إلى ذلك حمل هذا الوعيد على ما جاء من وعيد المشركين بهذا الجزاء .

قلنا : إن ورود الحكم العام في بعض أفراد مدلولاته لا يخصص عمومه ، وكما تُوعِّد المشركون بهذا الجزاء توعد سائر أصحاب الكبائر به في نصوص أُخرى كما سبق بيانه .

-9

ـ قوله تعالى : (إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين وما هـم عنها بغائبين)44 ، ووجه الاستدلال به ما فيه من تقسيم الناس إلى طائفتين ، أبرار وفجار ، وتقسيم جزائهم إلى مصيرين ، نعيم وجحيم ، مع النص على عدم غياب أصحاب الجحيم عنها ، وذلك على حد قوله تعالى : (فريق في الجنة وفريق في السعير)45

واعترض بأن المراد بالفجار الكاملون في الفجور الذين وصفهم الله بقـوله : (أولئك هم الكفرة الفجرة)46 ، حتى أن الفخر الرازي قال : (لا نسلم أن صاحب الكبيرة فاجر)47

ويرد هذا الإعتراض أنهم ملزمون على قولهم هذا أن يكون الزناة ، ومن عَمِل عَمَل قوم لوط ، وأكلة الربا ، وقتلة الأنفس بغير حق ، ومانعو الزكاة ، وسائر أهل الكبائر ماعدا الشرك في تعداد الأبرار الموعودين بالنعيم ، ورضوان من الله أكبر ، ولعمر الله ما من وسيلة لهدم قواعد الدين واستئصال الفضائل ، وإشاعة الفحشاء ، ونشر الرذائل ، أبلغ من هذا الاعتقاد ، فإنه يهدم جميع أوامر الله ونواهيه وينسف كل ما جاء في كتابه ، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من وعيد لأهل الكبائر ، وناهيك أن يكون الزنى ، واللواط ، وشرب الخمور ، والدياثة ، وسائر المنهيات من أعمال البر لأن مرتكبيها في صفوف الأبرار .

-10

وأما من السنة فكثير من الروايات الصحيحة التي لا يمكنني جمعها إلا بعد جهد جهيد ، وإنما أقتصر منها على ما يأتي :

روى البخاري ومسلم وغيرهما من طريق أبن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ثم يقوم مؤذن بينهم يا أهل النار لا موت و يا أهل الجنة لا موت كل هو خالد فيما هو فيه) وروى مثله البخاري من طريق أبي هريرة رضي الله عنه والطبراني والحاكم - وصححه من طريق معاذ رضي الله عنه ، ودلالته على صحة عقيدة القائلين بخلود أهل الكبائر في النار لا غبار عليها ، فإنه يفيد أن ذلك يعقب دخول الطائفتين في الدارين .

-1

أخرج الطبراني وأبو نعيم وابن مردويه عن أبن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لو قيل لأهل النار أنكم ماكثون في النار عدد كل حصاة في الدنيا لفرحوا بها ، ولو قيل لأهل الجنة أنكم ماكثون فيها عدد كل حصاة لحزنوا ولكن جعل لهم الأبد).

-2

روى أحمد والبزار والحاكم والنسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لا يدخل الجنة عاق ولا مدمن خمر) وفي رواية : (ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة ، مدمن الخمر ، والعاق لوالديه والديوث ، وهو الذي يقر السوء في أهله).

-3

روى الشيخان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (من شرب الخمر في الدنيا يحرمها في الآخرة) وهو كناية عن حرمانه من دخول الجنة ، لأن أهل الجنة لهم فيها ما تشتهيه أنفسهم وتلذ أعينهم فلا يحرمون من شيء .

-4

أخرج البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (من استرعاه الله رعية ثم لم يحطها بنصحه إلا حرم الله عليه الجنة).

-5

روى الإمام الربيع في مسنده الصحيح عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن أنس بن مالك رضي الله عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (من اقتطع حق مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار) فقال رجل : وإن كان قليلاً يسيراً يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (وإن كان قضيباً من أراك) ، ورواه الإمام مالك في موطئه ، ومسلم في صحيحه ، والنسائي في سننه من حديث أبي أمامة رضي الله عنه .

-6

أخرج الشيخان وغيرهما من طريق أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً فيها أبدا ، ومن قتل نفسه بسمٍّ فسمُّه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً فيها أبداً ، ومن نزل من جبل فقتل نفسه فهو ينزل في نار جهنم خالدا مُخّلداً فيها أبداً).

-7

روى مسلم في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (صنفان من أهل النار لم أرهما ، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا).

-8

روى البخاري ومسلم عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : (لا يدخل الجنة نمَّام ـ وفي رواية قتَّات).

-9

روى الشيخان عن سعد وأبي بكرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام).

-10

والروايات - كما قلت - في ذلك كثيرة ، تارة تدل على الخلود بالنص عليه ، وتارة بالجمع بينه وبين التأبيد ، وأخرى بالتوعد بحرمان الجنة أو حرمان شم ريحها ، ومحصلها واحداً وإن اختلفت ألفاظها ، فإن حرمان الجنة ينافي دخولها في أي وقت من الأوقات ، كما أن نفي دخولها يعم جميع الأزمنة ، وقد تقدم تحرير ذلك في نظيره .


الهوامش والتعليقات

الآيتان 80 و 81 من سورة البقرة

1

الآية 123 من سورة النساء

2
جامع البيان عن تأويل آي القرآن ج1 ص386/387 ، ط دار الفكر 3

المنار ج1 ص363 ، ط4 دار المنار

4

المنار ج1 ص363/364  ، ط4 دار المنار

5

المنار ج5 ص343 ، ط4 دار المنار

6

الآية 275 من سورة البقرة

7

الآية 275 من سورة البقرة

8

المنار ج3 ص98/99  ، ط4 دار المنار

9

الآية 24 من سورة آل عمران

10

المنار ج3 ص267/268 ، ط4 دار المنار

11

الآية 24 من سورة آل عمران

12

الآيات 80-82 من سورة البقرة

13

الآية 25 من سورة آل عمران

14

المنار ج3 ص268/269  ، ط4 دار المنار

15

الآية 94 من سورة الأنبياء

16

الآية 112 من سورة طه

17
الآية 27 من سورة المائدة 18

الآية 14 من سورة النساء

19

المرجع السابق ج4 ص432/433

20

الآية 93 من سورة النساء

21
الآية 92 من سورة النساء 22

الآية 38 من سورة المائدة

23

الآية 2 من سورة النور

24

الآية 123 من سورة النساء

25

الآية 17 من سورة غافر

26

الآيتان 7 و 8 من سورة الزلزلة

27

المرجع: التفسير الكبير للفخر الرازي ج1 ص238/239

28

الآية 48 من سورة النساء

29

المرجع السابق ص342

30

الآية 47 من سورة النساء

31
الآية 38 من سورة الأنفال 32

الآية 115 من سورة النساء

33

الآية 48 من سورة النساء

34

الآية 116 من سورة النساء

35

المرجع: المنار ج5 ص341/342 الطبعة الرابعة دار المنار

36

المرجع السابق ص344/345

37

الآيتان 26 و 27 من سورة يونس

38

الآية 65 من سورة الفرقان

39

لسان العرب ج12 ص436 دار صادق

40

تاج العروس ج9 ص4 دار مكتبة الحياة

41
الآيتان 68 و 69 من سورة الفرقان 42

الآية 23 من سورة الجن

43

الآيات 13-16 من سورة الإنفطار

44

الآية 7 من سورة الشورى

45

الآية 42 من سورة عبس

46
التفسير الكبير ج31 ص84 ط2 دار الكتب العلمية - طهران 47

خاتمة

نتيجة البحث حول خلود أهل الكبائر في النار

لا ريب - أخي القارئ الكريم - أنك بعد هذا التطواف بين هذه الأدلة وفحصك إياها بعين البصيرة أدركت أن عقيدة القائلين بخلود أصحاب الكبائر في النار ، التي أنكرها من أنكرها عليهم وحكم عليهم من أجلها بالكفر ، هي العقيدة التي نطق بها القرآن ، ودعمتها الأحاديث الصحيحة الصريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فهي العقيدة التي يجب على المسلم أن يعتصم بحبلها وأن يلقى الله عليها ، كيف وقد عزا القرآن الكريم ما يخالفها إلى اليهود ، وأنكره عليهم ، وقرر أنه منشأ انحرافهم عن الحق حيث قال : (ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات)1

ومن أمعن النظر في أحوال الناس يتبين له أن اعتقاد انتهاء عذاب العصاة إلى أمد ، وانقلابهم بعده إلى النعيم جرّأ هذه الأمة - كما جرّأ اليهود من قبل - على انتهاك حرم الدين ، والتفصِّي عن قيود الفضيلة ، والاسترسال وراء شهوات النفس ، واقتحام لجج أهوائها .

ولا أدل على ذلك من ذلك الأدب الهابط الذي يصور أنواع الفحشاء ، ويجلّيها للقراء والسامعين في أقبح صورها وأبشع مظاهرها ، وقد انتشر هذا الأدب في أوساط القائلين بالعفو عن أهل الكبائر ، أو انتهاء عذابهم إلى أمد ، انتشاراً يزري بقدر أمة القرآن ، وغلب على المؤلفات الأدبية ، مطولاتها ومختصراتها ، كالأغاني ، ومحاضرات الأدباء ، والعقد الفريد ، حتى كاد الأدب يكون عنوانا على سوء الأدب .

وقد صان الله من ذلك أدب أصحاب العقيدة الحقة ، الذين رسخ في نفوسهم ما جاء به القرآن من أبدية عذاب أهل الكبائر المصرّين كأبدية المطيعين المحسنين ، كما صان الله سلوكهم ، وطهر وجدانهم ، وسلّم سرائرهم من الاستهانة بحرمات الله تعالى ، والاستخفاف بأحكامه الزاجرة ، ولو قلّبت صفحات أدبهم لوجدتهم - في شعرهم ونثرهم - كما يقول الأستاذ أحمد أمين : (لا يعرفون خمراً ولا مجوناً ، فلا تجد في أدبهم خمراً ولا مجوناً)2.

واسمح لي أخي القارئ الكريم أن أقول كلمة - والألم يعتصر قلبي والأسف يلهب وجداني - إن مما يضاعف المصيبة ويكثّف البلاء أن توجد صُوَرٌ من الخلاعة المستهترة ، والمجون الساقط مثبتة في تراجم رجال يعدّون قمما في أمة الإسلام ، هم أجدر الناس بتجسيد فضائل الدين والتحلي بمثله والاعتزاز بآدابه ، وقد ضربت صفحا عن الإشارة إلى بعض هؤلاء بالأسماء والكنى حرصاً على السلامة من مزالق القول ، وصوناً لأعراض المسلمين ، وحفاظا على حرماتهم .

وإنني لأبرأ من إقرار ما نسب إليهم ، فإن مبادئنا احترام حرمات جميع المسلمين ، خواصهم وعوامهم ، فضلاً عن علمائهم الذين زادهم الله حرمة العلم مع حرمة الإسلام ، ولكنني أقول إن نفس الاجتراء على نسبة هذه السفاسف إلى أعلام الأمة إجرام لا يستهان به في حقها وحقهم ، لم ينشأ إلا من الاستخفاف بأوامر الله الناتج عن الاستخفاف بوعيده الذي يتمثل في دعوى أن الموحد لا يعذّب ، وإن عُذب لم يخلد في العذاب .

ولست أنسى ما قاله لي الداعية الكبير العلاّمة المنصف الشيخ عبد المعز عبد الستار : (لو أن الأمة أخذت بعقيدتكم في خلود صاحب الكبيرة في العذاب ، لكان لها شأن في الصلاح والاستقامة والنزاهة والعفاف غير ما نراها عليه) ، يقول الشيخ محمد شحاته أبو الحسن المدرس بمعهد القضاء الشرعي والوعظ والإرشاد : وقال لي مثل هذا الشيخ محمد بن زكي بن إبراهيم رائد العشيرة المحمدية بمصر : ليتنا أخذنا بآرائهم في اعتبار الغيبة والنميمة مفطرة للصوم ناقضة للوضوء ، وقد أشرت إلى ذلك في كتابي " الولاية والبراءة " .


الهوامش والتعليقات

الآية 24 من سورة آل عمران

1
ضحى الإسلام ج3 ص342 2

خاتمة الكتاب

معذرة أخي القارئ الكريم ، لم يكن في حسباني أن ألتقي بك على هذه الصفحات حول هذه الموضوعات التي شغلت قلمي وأخذت من وقتك ، فإنني أحْرَصُ على أن ألتقي بك وأنا أتحدث إليك من خلال هذه السطور في موضوعات هي أحرى بأن تصرف عناية الكُتَّابِ والقراء ، فإن الوقوف في وجوه الزحوم المتنوعة المجتمعة على صعيد واحد لغزو الإسلام ، وتشتيت أمة الإسلام ، سياسيا وفكريا ، أجدر بكل مسلم داعية من الاشتغال بخلاف عقائدي بين طوائف الأمة الإسلامية الواحدة ، مضت عليه قرون وقرون ، وتناولته بالتحرير والبحث أقلام شتى هي أرسخ علما وأعمق فهما ، وأبلغ بيانا ، وأقوى حجة وبرهانا ، غير أني رأيت سكوتي في هذا الموقف قد يزيده تأزما ، فقد تروق دعيات المغرضين لمن لم يدرس أبعاد ما تتعرض له من القضايا الخلافية التي انطلقت منها في الحكم على جزء من جسم الأمة الإسلامية بفصله عنها ، ولم يطلع على ما عند هذه الفئة من هذه الأمة من أدلة تستنير بها في مواقفها من هذه القضايا ، فإن مما تداولته الألسن وتناقلته الأقلام : الحكمة التي قيلت قديما : ( المرء عدو ما جهل ) وفي معناها الشعر الذي قيل حديثا :

والجهل بالشيء في عين البصير عمى

-----------------

فمن هذا المنطلق قمت بتحرير هذه الصفحات موضحا فيها الحق بالدليل ، محكما الحجة الثابتة من الكتاب والسنة والبرهان العقلي دون الرجال .

ومن تأمل كلامي متجرداً عن العواطف يجده منصفاً للطوائف المختلفة ، فقد حرصت على إيراد حجة كل طائفة ، ودليل كل قول ، ومناقشة هذه الأدلة نقاشا موضوعيا بعيداً عن كل المؤثرات ، ومن خلال ذلك أرجو أن يدرك اخوتي القراء صدق نيتي ، وسلامة طويتي .

ولا يفوتني - ونحن أمام قضية تتعلق بوحدة الأمة الإسلامية جمعاء - أن أناشد من وصل إليه كتابي هذا من علماء المسلمين بأن يمعن فيه نظره ، مخلصا نيته لله سبحانه ، ثم يعلن كلمة الحق غير هيَّاب من أحد ، ولا مجامل على حساب الحق والحقيقة ، ولست أعني بذلك أنني أطالب الناس بأن يرجعوا عن معتقداتهم ، وأن يوافقوني فيما قلت ، فإن العقائد لا يملك أحد أن يفرضها على العقول فرضا ، وإنما هي نتيجة اقتناع بالفكرة سواء كان ناشئا عن اجتهاد ونظر ، أو عن تقليد واتباع ، وإنما مرادي أن على علماء المسلمين - وهم مسئولون عن هذا الدين الحنيف وعن أمة الإسلام - أن تكون لهم في مثل هذه المواقف التي تهدد بانصداع الأمة - وقفة إيجابية في وجه الذين يحبون إثارة الشغب والمهاترات التي لا تعقبها إلا المصائب والويلات بين أمتنا الإسلامية وأن يرشدوا جمهور الناس إلى ما يفرضه الإسلام من التسامح ، والتعاطف ، والتعاضد بين المسلمين .

وأُعلن للذين لا يرون إلا حسم الخلاف في هذه القضايا حتى تتفق فيها عقيدة الأمة ، بأنني لا أستنكف من الحوار الموضوعي الهادئ الهادف ، الذي لا ينشد به إلا الحق ، ولا يفضي إلا إلى تجلي الحقيقة وظهور برهانها ، ثم لا يؤدي إلا إلى الألفة والمودة بين المسلمين ، وإنما أشترط أن يكون هذا الحوار مدروساً من كل الجوانب لتفادي التشنج والانفعالات التي لا تؤدي إلا إلى عاقبة سيئة ، وليس من شأنها إلا تشويه وجه الحقيقة ، وطمس نور الحق ، ومحاولة تغطية محاسنه ، والحيلولة بينه وبين البصائر .


شكر وعرفان

إن الواجب ليفرض عليَّ والوفاء ليقتضيني أن لا أنسى - في وسط هذه الضجة التي أثارتها تلك الأصوات الصَّاخبة ضد الإباضية - أصواتاً هادئة ارتفعت من ألسنة صادقة ، وانبعثت من نوايا طيبة ، لتسجل ثناءها الصادق على هذه الطائفة التي حافظت على الإسلام الحق ، ودافعت عنه بأعز ما تملك من نفس ومال ، واستقامت على الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخلفاؤه الراشدون ، وأصحابه المهديون رضي الله تعالى عنهم ، ولم تختلبهم الدنيا بزهرتها الفاتنة عندما كان الجم الغفير من الناس يتهالكون عليها فيتساقطون في أشراكها . لقد قيض الله هذه الأصوات لتنير درب الحقيقة لطلابها ، وتمزق ما نسجته الأحقاد من الافتراءات التي لم تقم على أساس من الواقع ، ضد هذه الفئة المؤمنة التي اشتهرت في أوساط المؤمنين وغيرهم بلقب الإباضية ، ولست الآن في مقام الإحصاء لهاتيك الأصوات ومصادرها ، فإن الفرصة لا تسمح لي بذلك ، وإنما أكتفي بأن أسجل لأصحابها عموما أجمل الثناء وأطيب الدعاء ، وأود أن أشير إلى بعض هؤلاء المنصفين لأعرض على القارئ الكريم صورا من إنصافهم لهذا المذهب ورجاله ، وإلى القارئ مشاهد من هذه الصور :

عضو المجمع العلمي بدمشق سابقاً ، الذي سجل بيراعه المنصف صفحات مشرقة بفضائل أهل الإستقامة ، حتى قال في متهميهم بالزيغ : (كل من يتهم الإباضي بالزيغ والضلال فهو ممن فرَّقوا دينهم وكانوا شيعاً ، ومن الظالمين الجهَّال)1

 

العلامة الجليل عز الدين التنوخي

من علماء الأزهر الشريف ، جاء في كلامه عن الإباضية : (لقد استنبطوا مذهبهم من القرآن الكريم ، واقتبسوه من السنة المطهرة ، وسلكوا في مسيرتهم إلى عبادة الله نفس الطريق التي سلكها الصحابة ، وارتضاها الإجماع ، وحرصوا كل الحرص على أن تكون خطواتهم على ذات الدرب ، وفي نفس الطريق ، وفوق " إفريز " الشارع ، ومع السبيل التي قطعها الرسول صلوات الله وسلامه عليه في مشواره الطويل وشوطه البعيد جيئة وذهابا ، على مدى مسيرته المباركة ، ورسالته الميمونة عبر الثلاثة والعشرين عاماً ، ومع تحريهم الصدق ، وحتمية الحق ، ومجاهدة النفس ، وريادة المعاناة ، والرياضة والترويض على المشقة والمقاساة حتى استبان لهم الأمر ، ووضح أمامهم الطريق ، وتبيَّن للعَالم أجمع - أو المخلصين المنصفين - أن هؤلاء هم ( أهل الإستقامة ) أو هم في الواقع - وعلى الحقيقة ( الفرقة الناجية ) التي أخبر عنها الصادق المعصوم ، والتي أمر الله رسولَه أن يختارها وينتهجها سبيلاً يوصل إلى عبادته ومرضاته في قوله تعالى : (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين)2

والمذهب الإباضي ليس عجيباً في الدنيا ولا غريباً عن الحياة ، وإنما هو العملة الصحيحة التي يجب تداولها وتناولها ، والتعامل بها في شتى الأنحاء ، وفي جميع المناخات والأجواء ، وهي بعون الله عملة لا ينالها التزييف أو التلبيس ، ولا يطولها الوضع أو التدليس ، ولا يجوز في منطقها العمل بين بين ، ولا التنكر في وجهين ، ولا المشي على الحبلين ، فالحق عندها واحد لا يتجزأ ، وكل لا يتوزع)3

وقال أيضاً : (وعموماً - وبعد استقصاء واستحصاء ، ودرس وبحث ، وتحليل وتعليل - تبيّن أن الإباضية هي الطريقة المثلى في الأداء الإسلامي ، وفي تعاطي الحياة ، وفي التعامل مع الناس ... وأئمتها ودعاتها هم الذين واجهوا مواكب النفاق ، وناهضوا أعاصير الشرك وعواصف الإلحاد ، وتحدوا - بكل صرامة وشدة وبأس - تلك الأفاعيل الهوجاء النكراء التي تتبدّى في سلوك المبطلين أو المستهترين من الحكام والباطشين سواء على المستوى الديني أو التعامل الدنيوي بين أفراد وجماعات الأمم والشعوب تمشيا مع منطق الدين ، واستجابة لدعاءاته ، ونداءاته ، ومتطلباته .

وما أحوج الدنيا اليوم إلى هذا اللون المتميز في الفقه الإسلامي . وما أحوج الدنيا إلى دعاة الإباضية وأئمتها الذين من مهمتهم - ومن أولى وظائفهم إصلاح المسار الديني ، ومؤاخذة التسيّب والقبض بشدة على خناق الاستهتار والانحراف واللا أخلاقيات ، وإعادة الانضباط في شتى السلوكيات إلى هذه الحياة)4

وقال أيضاً : (فالإباضية أصبحوا في الواقع - وفي نفس الأمر - وعلى الحقيقة هم اللغة الصحيحة - الفصيحة ، والصيغة المشرقة الوضاءة بين الله والناس ، والغُدَّةِ النشطة السليمة التي تُفرز للدنيا ماهيات الدين ، وتُقدم على موائد الإنسانية ما لذ وطاب من طعوم الحق ، وطيّبات اليقين ، فهم الفرقة الناجية التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم في كل أحاديثه ومروياته ، وكان وجود هذا الصِّنف - أو النوع - من البشر ضرورة ملحة أو حتمية مقتضية استقطبت رحمة الله بعباده ، واستوجبت منهم مقابلة هذه الرحمة بألوان شتى من العبادات والقربات ، وأولها الشكر الخاص ، والعبودية الصافية ، والاحتفاء بنعم الله ، والاحتفال بآلائه ، وترجمة ذلك كله إلى السلوك الذي يحبه الله ورسوله ، وكان من مظاهر رحمة الله الفياَضة الحانية إنه لم يترك عباده هكذا - في هذه الدنيا - ضياعاً أوزاعاً ، أو هملاً ، أو كميات هابطة ساقطة تحت ركامات الشك ، وأنقاض الفتنة ، وخرائب التيه ، وأطلال الحيرة والقلق ، والتخبط والاضطراب .

ولما كان من حتمية الوجود الإنساني - لتتأكد فاعليته وينمو وجوده وتستمر معه الحياة - أن يعبر الطريق ، ويجتاز الجسر من الحاضر إلى الماضي ، ويصاحب التاريخ ، ويرافقه في كل خطواته ، ومع أبرز العناصر التي أثرت في الإيجاب والسلب ، والثبوت والنفي ، كان حتما مقضيا أن يصطحب الإنسان مع التاريخ تلك الفئة الهادئة المهدية التي حملت أرواحها على راحاتها ، وحياتها على أسلحتها ، وهبّت وقت الفزع والروع مطالبة بإنسانية الإنسان ، وكينونته البشرية في نطاق ما شرع الله ، وفي الإطار الذي خطته يد القدرة ، وحبك نسيجه الشرع ، وتكفلت به عناية الإسلام ، وعمل على ترجمته وتطبيقه سلوك محمد - عليه الصلاة والسلام - .

وهل هناك من هو أتقى وأنقى ، وأبرّ وأوفى ، في تأدية هذا الدور العظيم ، والقيام بهذه الرسالة الكبيرة الخطيرة غير الإباضيين ؟ .

وهل هناك مذهب يتلاحم في هذا الترقي الروحي أو يتلائم مع ذلك السمو التشريعي الفقهي غير المذهب الإباضي ، والإباضية عموماً ؟ .

وهل هناك فوق ظهر الأرض وفي جيوب وبين طيَّات وطبقات الحياة من يمكنه أن يستوعب هذه التعاليم الإلهية ، أو يستطيع أن يستقطب تلك المواجيد الكونية السماوية غير الإنسان الإباضي - صادق الإباضية - مصدره من الله ومورده إلى الله ، وحياته بين المصدر والمورد ، ودائما مع الله ؟)5

العلاّمة الكبير السيد عبد الحافظ عبد ربّه 

جاء في كلامه عن الإباضية : (وأبرز ما يتصف به الإباضيون تمسكهم الشديد بالدين ، بأداء فروضه وتجنب نواهيه - إلى حد الغلو - وبُغظهم المفرط لأصحاب الظلم والفساد ، وبفضل هاتين الصفتين استطاعوا أن يحققوا لأنفسهم عزًّا دينيا ، ومجداً سياسيًّا ، خلَّد ذكرهم في التاريخ)6

وقال أيضاً : (حافَظوا على صفاء الرسالة المحمدية في أصول مذهبهم ، ولم ينحرفوا عن النهج القويم الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته البررة في سلوكهم وأمور معاشهم ، ولا اقترف ولاتهم إثماً ، ولا مارسوا في قيادتهم ظلماً ، ولا أي لون من ألوان العسف التي لم يبرأ منها إلا القليل من الولاة سواهم .

بل إن الظلم في حقهم كان مستحيلاً ، لا لكونهم معصومين ، بل لأن رجل الدين عندهم ورجل السياسة واحد ، والقائم بأمر الناس فيهم هو الإمام نفسه ، وتلك هي قاعدة الإسلام في الحكم التي سار عليها الخلفاء الراشدون ، وعليها حافظوا ودونها نافحوا ، فمن الطبيعي أن ينتشر مذهب هذا شأنه ، وأن يُقبل على أتباعه الناس ببلاد المغرب ليجدوا في أكنافه الأمن والكرامة ، وهم من سئموا حياة الاضطراب والظلم على أيدي الكثير من عمَّال بني أمية وبني العبَّاس)7

ثم قال : (ولعلَّ أولَّ داعية إباضي قدِم هذه البلاد .. هو سلمة بن سعد الذي عَرف كيف ينتقل بالبلاد وأي الشعاب يسلك حتى يأمن ظلم الظالمين ، ويضمن لعمله التوفيق ولرسالته الانتشار ، فاختار الطرق الجبلية البعيدة عن الصحراء القاحلة وأهوالها ، وعن المناطق الساحلية الخاضعة لسلطة الولاة ، وبجبال نفوسة ودمّر ، ونفزاوة وما والاها من المرتفعات والجبال ، وكلها مناطق آهلة بالسكان كثيرة العمران ، أمكن له أن يستقر ، ويقوم في صفوف البربر بالدعوة ، موضحاً للأذهان الصورة الصحيحة للإسلام في الاعتقاد والعبادة والمعاملة ، وهي غير الصورة التي شاهدها الناس في الحاكمين وأتباعهم في ذلك الوقت ، فالتف من حوله الناس مستجيبين لدعوته ، وراح يتنقَّل من مكان إلى آخر ، وما ارتحل من موضع إلا خلَّف فيه أتباعاً تكاثروا مع مرور الأيام والأعوام ، حتى صار لهم شأن ، وأضحوا يمثلون قوة يقرأ لها ألف حساب .

ومن أفريقية انطلق شابان إباضيان - بعد أن تلقيا المبادئ الأولى للدين والمذهب على يد سلمة بن سعد - انطلقا إلى العراق ضمن بعثة تضم عدداً من الإباضيين سواهما ، فقضيا سنين في طلب العلم على يد إمام المذهب في ذلك الوقت ، أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة ، فالطالب الأول من القيروان وهو عبد الرحمن بن رستم ، أما الثاني فهو أبو داود من الجنوب ، ولما أتما الطلب واكتمل عندهما العلم ، واطمأن لنباهتهما إمامهما أوصاهما خيراً ثم سرَّحهما عائدين إلى موطنهما ، فكان لأبي داود شأن في عالم الإصلاح ، إذ تفرَّغ للجهاد الديني والعلمي فأنشأ بجهة نفزاوة وسواها من جهة الجنوب جيلاً إسلاميًّا فاضلاً في خُلقه ودينه ، كان البذرة الصالحة لما تبعته من أجيال تمسكت بالسنة والفضيلة ، وقاومت البدع والرذيلة)8

وعندما تكلم عن مقاومة الإباضية بقيادة إمامهم أبي الخطاب المعافري لظلم قبيلة ورفجومة الصفرية التي كانت متمكنة في القيروان ، وانتزاعهم مدينة القيروان منها قال : (هذا هو أبو الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافري وجه إليه عبد الرحمن بن رستم من صوَّر له بشاعة ما يجري بالقيروان فهبَّ لأداء الواجب الذي يفرضه عليه التعاطف الأخوي ، ويحتِّمه مبدأ من أهم المبادئ لمذهبه ، ألا وهو مقاومة أولي الأمر بالسيف واستباحة دمائهم إذ تعدُّوا حدود الله ، ومالوا في أحكامهم إلى الهوى ، وقدِم أبو الخطاب في جيش عظيم تطوَّع لإقامة العدل ومحق الفساد والظلم الذي اقترفه عاصم الورفجومي وأتباعه ، فكان له النصر .

ثم بعد أن أمَّن الناس حافظاً أرزاقهم وأعراضهم ، ولَّى على القيروان عبد الرحمن بن رستم ورجع إلى طرابلس ، ودامت ولاية ابن رستم سنتين اثنتين ذاق المسلمون فيهما بالقيروان وبأفريقية كلها طُعم الأمن ، وعرفوا معنى العدل ، وأدركوا لأول مرة تقريباً طعم العيش الكريم في ظل الحكم الإسلامي النظيف)9

ثم تحدَّث عن دور الإباضية عموماً في بلاد المغرب فقال : (والواقع أن الإباضية قد تمكنت من فرض وجودها التاريخي فحقَّقت عزًّا دينيا ذا بال بقيت آثاره إلى اليوم في أتباعه الذين يعيشون بيننا ، التزموا خدمة الدين ومقاومة البدع والرذيلة ، حازمين في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ، كما حققت مجداً سياسيا كان له شأن في تاريخ الإسلام بالمغرب العربي)10

الكاتب المنصف العالم الزيتوني الأستاذ عبد العزيز المجذوب

الذي يقول : (

أنا لا أحابي أحداً في موقفي هذا ، ولكني أقول إن أصحاب هذا المذهب الذي تجنَّى عليه البعض ، أكثر منَّا تسامحاً واستجابة لأمر الله سبحانه بالتآلف ، فقد عشت بين أظهرهم ، أقوم بتدريس مادة التفسير في معهد القضاء الشرعي ما يزيد على اثني عشر عاماً لم أجد ما يكدِّر الصفو ، ولا ما يحملني على قولٍ بعينه دون دليل ، رغم الاختلاف في بعض المسائل ، وكنا أنا وطلابي والعلماء الأجلاء في المذهب نتبع الدليل الأقوى)11

 

الأستاذ الفاضل الشيخ محمد شحاته أبو الحسن

وبعد هذه الجولة التي قضيتها معي أخي القارئ الكريم - في هذه الصفحات بين أنحاء هذه القضايا - بحكم الظروف التي فرضتها علينا ، وتطوافنا بين هذه المعالم التي أرجو أن تكون الحقيقة طالعتك منها فشاهدتها رأي العين ، أستودعك الله تعالى مبتهلاً إلى الله سبحانه أن يوفقنا للِّقاء مرات ومرات تحت مظلة الإسلام الحنيف ، وقد التأم شمل المسلمين ، وتوحدت كلمتهم ، وتلاشت فقاقيع الخلاف التي تبدو فوق صفاء وحدتهم ، كما أبتهل إليه سبحانه أن يأخذ بأيدينا وأيدي هذه الأمة كلها إلى ما يحبه ويرضاه من صالح العمل وخالصه ، وصادق القول وزاكيه ، وأن ينوّر بصائرنا ، ويطهِّر سرائرنا ، ويكتب لنا السعادة ويباعدنا عن أسباب الشقاء ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ( سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ) والسلام عليك أيها القارئ الكريم ورحمة الله وبركاته ؛؛

أخوك في الله
أحمد بن حمد الخليلي
سلطنة عمان ، مسقط ، 29 شعبان 1407 هـ


الهوامش والتعليقات

عز الدين التنوخي ، مقدمة " خلاصة الوسائل في ترتيب المسائل " ص ح ، ط1 . المطبعة العمومية بدمشق

1

الآية 108 من سورة يوسف

2

السيد عبد الحافظ عبد ربه - الإباضية مذهب وسلوك ، ط1 ، القاهرة ص22/23

3

المرجع السابق ص237

4

المرجع السابق ص246/247

5

الصراع المذهبي بإفريقية إلى قيام الدولة الزبيرية ص104 ، الدار التونسية للنشر

6

المرجع السابق ص104/105

7

المرجع السابق ص105/106

8

المرجع السابق ص108/109

9
نفس المصدر ص110 10
رسالة بعنوان " بيان للناس " لم تزل بخط المؤلف لم تطبع بعد ص4 11