|
الحق الدامغ |
لسماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي مفتي عام السلطنة |
|
المبحث الثالث
في خلود أهل الكبائر في النار
مقدمة المبحث الثالث تعريف الخلود والكبائر أما الخلود فهو البقاء الدائم ، قال صاحب اللسان : (الخلد دوام البقاء في دار لا يخرج منها ، خَلَدَ / يَخْلُد / خُلْداً وخلوداً بقي وأقام ، ودار الخلد الآخرة لبقاء أهلها فيها ، وخلده الله وأخلده تخليداً وقد أخلد الله أهل دار الخلد فيها وخلدهم )1. ومنه قوله تعالى : (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مِتَّ فهم الخالدون)2 وكلام صاحب اللسان يدل على أن الخلد موضوع لغة للدوام الأبدي ، وهو مذهب الزمخشري وابن عطية والقرطبي والشوكاني من المفسرين ، وانتصر له أتم الإنتصار العلامة البطاشي رحمة الله تعالى عليه. واستعمال الخلود في المكث الطويل ، كقول لبيد في معلقته : صُمًّا خوالد مـا يبين كلامها وقول الأعشى : لن تزالوا كذالكم ثم لا زلـ ت لكم خالداً خلود الجبال محمول عند هؤلاء على التجوز . وذهب الفخر الرازي وأبو حيان وأبو السعود وقطب الأئمة إلى أنه موضوع للمكث الطويل ؛ مع قطع النظر عن دوامه أو انقطاعه ، فهو عند هؤلاء من باب المشترك الذي يتعين ما يراد به بالقرينة الدالة عليه ، وجعل هؤلاء دوام الثواب والعقاب بالدلائل الأخرى من الكتاب والسنة غير لفظة الخلود ، كاقترانه بالأبد في قوله تعالى - في اللذين آمنوا وعملوا الصالحات - : (جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا)3 ، وقوله : (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا)4 ، وما يستفاد من الأحاديث الصحيحة الصريحة في خلود أهل الدارين فيهما ، وإجماع الأمة - إلا من لا يعتد به - على عدم فنائهما . وهؤلاء نظروا إلى إطلاق الخلود على المكث المنقطع في كلام العرب كبيتي لبيد والأعشى ، وأن الحقيقة هي الأصل في الاستعمال . وتعقبهم العلامة البطاشي بقوله : (كما أخذت العرب من الخلد قولهم للأحجار ( خوالد ) فقد أخذوا من الأبد قولهم للوحوش ( أوابد )5 وقال أيضاً : (إن العرب كما أخذت أيضاً من الخلد خوالد الأحجار فقد أخذت من الأبد أوابد وحوش القفار ، وهذه الأوابد أقل بقاء من تلك الخوالد في الاعتبار)6 وحمل العلامة البطاشي ما جاء في الشعر العربي من إطلاق وصف الخلود على الجمادات ذات العمر المديد ، على عقيدة الجاهلية في اعتقاد عدم فناء الكون ، واستدل له بقول زهير بن أبي سلمى : ألا لا أرى على
الحوادث باقياً ولا خالداً إلا
الجبال الرواسيا قال : (فلو لم يكن مراده من الخلود معنى الدوام لما غالى حتى أشركها في الدوام مع الله سبحانه ، بخلاف القول في التأبيد ؛ فإن انقطاعه بالإضافة إلى الدنيا ليس عنه محيد)7 وبحسب هذا المفهوم - وهو الدوام الأبدي - كان اختلاف الأمة في خلود المجرمين في النار كما سيأتي بيانه إن شاء الله . وأما الكبائر فهي جمع كبيرة ، وهي كل ما عظم من المعصية ، فترتب على ارتكابها وعيد في القرآن أو السنة الصحيحة ، سواء شرع لها حد في الدنيا كالزنا والسرقة وقذف المحصنات ، أم لم يشرع كأكل الربا والميتة والدم ولحم الخنزير .
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفصل الأول إختلاف الناس في خلود الجنة والنار إقتضت مشيئة الله سبحانه أن تكون الحياة في الدار الدنيا حياة محدودة حتى لا يشارك الخالق في صفة البقاء ، ولم يخالف في ذلك أحد من الناس لأن تناهي الأعمار فيها أمر لا يتفاوت الناس في معرفته ، وقد جعلها الله سبحانه مرحلة من مراحل العبور التي يجتازها الإنسان ، والناس فيها متفاوتون في الراحة والتعب والنعيم والبؤس ، ولا يعود تفاوتهم هذا إلى قدر تفاوتهم في النفع والضر ، والإستقامة والانحراف ، والطاعة والعصيان ، فرُبَّ ذي سريرة طاهرة وخلق مستقيم ، ومسارعة إلى الخير يقضي حياته كلها في نكد وبؤس ، ومعاناة وحرمان ، ورُبَّ ذي سريرة خبيثة ، وشراسة في الأخلاق ، وسوء في المعاملة يتسنَّى له ما يريده ، وتتوفر له أسباب الراحة ، وتجتمع له أنواع الملاذَ ، وفي هذا ما يجعل الإنسان يعتقد اعتقاداً جازماً أن النعمة والبؤس في الدنيا ليسا جزاءً على ما يقدمه العبد من خير أو شر ، مع القطع بأن الناقد بصير ، والحاكم عدل ، فلذلك كانت النفوس تتطلع بفطرتها إلى حياة بعد هذه الحياة يجني فيها كل عبد ما غرس ، ويحصد ما زرع ، ويجد ما قدَّم ، وقد تعاقبت الرسالات الإلهية مبشرة ومنذرة بتلك الحياة ، ولم يختلف المؤمنون بها في كونها تختلف عن الحياة الدنيوية المنصرمة ، فهي حياة خلود ودوام إلا من شذ فزعم أنها متناهية وإن كانت أطول مدة وأوسع أمداً من الحياة الأولى . وهؤلاء الشاذون طائفتان :
وبهذا تعلم أخي القارئ أن القول بتحول الفجار من العذاب إلى الثواب ما هو إلا أثر من آثار الغزو اليهودي للفكر الإسلامي ، وقد تنبه لذلك العلاّمة الجليل السيد محمد رشيد رضا ، فقال في مقدمة تفسيره لسورة البقرة من المنار : " القاعدة السادسة أن الجزاء على الإيمان والعمل معاً لأن الدين إيمان وعمل ، ومن الغرور أن يظن المنتمي إلى دين نبي من الأنبياء أن ينجو من الخلود في النار بمجرد الانتماء ، والشاهد عليه ما حكاه الله لنا عن بني إسرائيل من غرورهم بدينهم ، وما رد به عليهم حتى لا نتبع سننهم فيه ، وهو : (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة)2 ، وما حكاه عن اليهود والنصارى جميعاً من قولهم : (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم .. )3 الخ الآيتين ، ولكننا قد اتبعنا سننهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع ، مصداقاً لما ورد في الحديث الصحيح ، وإنما نمتاز عليهم بأن المتبعين لهم بعض الأمة لا كلها ، وبحفظ نص كتابنا كله ، وضبط سنة نبينا في بيانه ، وبأن حجة أهل العلم والهدى منا قائمة إلى يوم القيامة "4 وإذا كنا نُسَرُّ بإماطة هذا العلامة الكبير لحجاب التقليد عن عينيه حتى أبصر الحقيقة واضحة ، فأرسل لِقَلمه العنان لتسجيلها بهذه العبارة الواضحة هنا ، وتقريرها مرة بعد مرة في تفسيره لآيات من سورة البقرة وآل عمران وهود ، فإنا نأسف على وقوعه نفسه في هذه الأحبولة حتى تردد في هذه المسألة ، فقال تارة بالتمييز بين عصاة الموحدين وغيرهم ، كما في تفسيره لسورة يونس ، وذهب تارة أخرى إلى القول بانقطاع عذاب النار على الإطلاق متأثرأ بقول ابن القيِّم الموافق للجهمية في ذلك كما في تفسيره لسورة الأنعام .. وسأنقل إليك أخي القارئ ما يمكنني نقله من نصوص عباراته موثقة حسب اقتضاء المقام . ومن خلال هذا الذي ذكرته هنا تعلم أخي القارئ أن ابن القيم قد أخذ في هذه القضية بشطر من مذهب الجهمية كما سيأتي بيانه إن شاء الله . وذهب الأشعرية ، ومن حذا حذوهم من الطوائف المنتسبة إلى السنة ، إلى خلود الدارين ، وعدم انقطاع ثواب الأبرار ، وعذاب غير الموحدين من الفجار ، أما الموحدون ، فقالوا : إنهم يعذبون إلى أمد ثم يخرجون من النار ويدخلون الجنة فيتنعمون ويخلدون فيها مع الأبرار . وعقيدتنا معشر الإباضية أن كل من دخل النار من عصاة الموحدين والمشركين مخلدون فيها إلى غير أمد ، كما أن من دخل الجنة من عباد الله الأبرار لا يخرجون منها ، إذ الداران دارا خلود ، ووافقَنَا على ذلك المعتزلة والخوارج على اختلاف طوائفهم ، وإنما خالَفَنا الخوارج من حيث إنهم يحكمون على كل معصية تؤدي إلى العذاب بالشرك المخرج من الملة ، فخالفوا بذلك نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة .
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفصل الثاني أدلة القائلين بانقطاع العذاب وقد علمتّ أن هؤلاء طائفتان ، طائفة تقول بانقطاع عذاب كل من في النار موحد ومشرك ، وهم جهم وأصحابه ومن سار في ركابهم كابن القيِّم ، وطائفة تقول بانقطاع عذاب الموحدين دون عذاب المشركين . أما الطائفة الأولى فقد تعلقت بآيات من القرآن ، ورواية عن الرسول - عليه أفضل الصلاة والسلام - وببعض النظريات الفلسفية . أما الآيات فهي كما يلي :
وأما الرواية فحديث عبدالله بن عمرو بن العاص (ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد) ولا يتم به الاستدلال ، لأنه قبل كل شيء حديث آحادي لا تنهض به حجة في القطعيات ، فضلاً عما في متنه وإسناده من نُكاره ، ولو قدرنا صحته لكان الواجب تأويله بما يتفق مع قواطع النصوص ، وهو أن أهلها ينتقلون عنها إلى الزمهرير ، ومع ضعف الحديث لا داعي إلى مثل هذا التأويل . وأما النظريات الفلسفية فمنها ما تقدم نقله عن الجهمية ، ومنها ما أورده ابن القيم في كتابيه الصواعق المرسلة وحادي الأرواح23 ويتلخص في أن الرحمن الرحيم ، البر الكريم ، العزيز الحكيم ، أجَل من أن يخلق نَشْئاً للشر دون الخير ، وللعذاب دون الرحمة ، وأن فطرة الله في الإنسان هي التوحيد والتقوى والإخلاص غير أنها تتكدر بأكدار من العصيان متفاوتة ، منها ما تصقله الدعوة ، ومنها ما يصقله العذاب الموقوت بأمد أقل ، ومنها ما يحتاج صقله إلى فترة أطول في العذاب ، وأن الغاية من ذلك أن يدرك الإنسان ضعفه بين يدي ربه وافتقاره إلى رحمته ، واضطراره إلى لطفه ، وعدم طاقته على تحمل نقمته مع إدراكه قوة الله وبطشه ، وأنه عظيم المن والإحسان إلى خلقه ، فإذا أدرك العبد ذلك وانجلت فطرته من صدأ العصيان ، وتراجع إيمانه بعدما طار به طائر الكفران لم يبق معنى لتعذيبه ، لأن الله تعالى منزهة أفعاله عن التجرد من الحكمة ، ولا حكمة في العذاب الدائم ، وقد وزع ابن القيم ما استنتجه من هذه الفلسفة وتأوله من القرآن ، واستند إليه من الآثار إلى خمسة وعشرين وجهاً . وقد أورد صاحب المنار نص كلامه في حادي الأرواح ، وأتبعه من عبارات الإعجاب والثناء ما يدل على أنه منجذب إليه ، وذلك في تفسير آية المشيئة من سورة الأنعام24 ، وهو مخالف لما سبق نقله عنه في تفسير الاستثناء بالمشيئة في آية هود ، كما أنه مخالف لما نقلناه عنه من كلامه في مقدمة تفسيره لسورة البقرة ، وما سننقله إن شاء الله عنه من النصوص الأخرى . ويدحض هذه النظريات أن الله تعالى لا تتقيد أفعاله بأنظمة تحكمها عقول البشر ، ولا ترتبط بنواميس تستوحىَ من خيالات الناس ، وإنما يفعل - جل شأنه - ما يشاء ويحكم ما يريد ، (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) وعلينا أن نعتقد أن عقولنا المحدودة أكَلَّ وأعجز وأحسر من أن تحيط بحكمه تعالى في أفعاله ، أو تكتنه أسراره في خلقه (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)25 ، وما علينا إلا أن نسلم تسليماً لأخبار الله التي لا تتبدل ، ومن بينها أخبار الوعيد لِقَطْعِنا أن الله عز وجل لا يقول إلا الصدق ، كما أنه لا يأمر إلا به (ومَن أصدق من الله قيلاً)26 ولو فتحنا هذا الباب ، وأسندنا إلى عقولنا الحكم على أخبار الله ، لما كانت لذلك نتيجة إلا رد كثير من النصوص بل أكثرها ، لأن الشيطان لايزال يوسع هذه الثغرات ويوالي ، توجيه طعنات التشكيك في النصوص ، لحمل الناس على ردها أو على تأويلها بمختلف التأويلات الباطلة المخالفة لما يراد بتلك النصوص ، على أن نصوص تأبيد عذاب النار كنصوص تأبيد نعيم الجنة ، فإذا جاز تأويل تلك فما الذي يمنع من تأويل هذه ؟ . ومن دواعي العجب أن يلجأ ابن القيم إلى المدرسة العقلية في تعليل أفعاله تعالى مستنداً إلى ما يوحي به العقل من التحسين والتقبيح ، مع أنه هو الأثري المتعصب الذي يمنع كل المنع تأويل الآيات المتشابهات بما يتفق مع معاني أمهاتها المحكمات ، ويستلزمه تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه ، وتسوغه اللغات وأعرافها ، وتقتضيه القرائن السمعية والعقلية ، فما أبعد البون ما بين الموقفين . وقد أعرضت عن سرد كلامه وتتبعه بالنقض ، مكتفياً بإيراد هذا الملخص وإتباعه بما ذكرته ، توفيراً للوقت وإراحة للقارئ من مزيد عناء ، في قضية أصبحت الآن من المسلَّمات عند الأمة ، إذ لم يبق - فيما أحسب - من يذهب مذهب ابن القيم في التفرقة بين بقاء النعيم والعذاب على الإطلاق . أما الطائفة الثانية ـ وهم الذين يفرقون بين عصاة الموحدين وغيرهم من أهل النار في مدة العذاب - فهم يستدلون كذلك بآيات من الكتاب وروايات من السنة ، واستدلال عقلي لما ذهبوا إليه ، أما الآيات فقد تعلقوا منها بما تعلقت به الطائفة الأولى ، وكفى بما سبق من النقض لاستدلال أولئك رداً على دعوى هؤلاء ، على أن تلك الآيات ليس فيها ما يدل بأي وجه على تفرقة بين عصاة الموحدين وغيرهم ، وإنما هي في وعيد جميع أهل النار والعياذ بالله ، اللهم إلا ما في سورة النبأ ، فإن ما وليه من ذم المتوعدين قاض بأنهم منكرون للبعث ، وذلك قوله تعالى : (إنهم كانوا لا يرجون حسابا . وكذبوا بآياتنا كذابا) فلو كان مطمع في خروجهم يلوح من قوله : (لابثين فيها أحقابا) لكان أولى به المنكرون للبعث المكذبون بالكتاب ، ولكن أنّى ذلك وقد اختتم هذا الوعيد بقوله : (فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا)27 وتعلقوا أيضاً بما لا يشير إلى ذلك من قريب ولا من بعيد ، كقوله تعالى : (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين)28 ، ووجه تعلقهم به أن ودهم ذلك يكون عندما يرون عصاة المسلمين يخرجون من النار مع بقائهم فيها . وهذا تأويل لا يقتضيه لفظ الآية ، ولم يقم عليه شاهد من غيرها ، لأن ودهم ذلك يحتمل أن يكون عندما يرون قوة الإسلام ضاربة في الأرض وسلطانه مهيمناً على الأمم ، وكلمته نافذة بين الناس ، فيودوا لو كانوا سابقين إليه ، ويحتمل أن يكون عندما تنتزع أرواحهم ، ويشهدون من طلائع أهوال الدار الآخرة ما لم يحتسبوه ، ويحتمل أن يكون عندما يبعثون من قبورهم ويواجهون الفزع الأكبر ، ويدركون أنه لا منجاة يومئذ إلا لمن اعتصم بحبل الإسلام وآوى إلى ركنه وأمسك بعروته ، وكل واحد من هؤلاء الوجوه مروي عن جماعة من مفسري السلف والخلف ، فلم يبق مجال للاستدلال بالآية على ما لم تكن نصاً عليه ولا ظاهرة فيه . وأما الروايات فهي متعددة ولكن تقابلها روايات لا تقل عنها جودة ولا كثرة ، سأذكر بعضها إن شاء الله في آخر الفصل الآتي على أن روايات الخروج من النار معارضة لنصوص القرآن ، وروايات الخلود فيها متفقة معها ، ويتعين المصير في مثل هذه الحالة إلى ما اتفق مع القرآن لا إلى ما خالفه . وأما الإستدلال العقلي فهو أنه لو تساوى عصاة الموحدين مع المشركين في الخلود لما بقي لكلمة التوحيد أثر ، ولا لأعمال البر فائدة . وجوابه أنهم وإن تساووا في الخلود فهم غير متساوين في العذاب ، كما أن الأبرار لا يتساوون في الثواب بل يتفاوتون بتفاوت الأعمال ، والنار دركات كما أن الجنة درجات .
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفصل الثالث أدلة القائلين بخلود جميع مرتكبي الكبائر في النار وهي قسمان ، بعضها من الكتاب وبعضها من السنة : أما من الكتاب فكثيرة نذكر منها ما يلي :
وأما من السنة فكثير من الروايات الصحيحة التي لا يمكنني جمعها إلا بعد جهد جهيد ، وإنما أقتصر منها على ما يأتي :
والروايات - كما قلت - في ذلك كثيرة ، تارة تدل على الخلود بالنص عليه ، وتارة بالجمع بينه وبين التأبيد ، وأخرى بالتوعد بحرمان الجنة أو حرمان شم ريحها ، ومحصلها واحداً وإن اختلفت ألفاظها ، فإن حرمان الجنة ينافي دخولها في أي وقت من الأوقات ، كما أن نفي دخولها يعم جميع الأزمنة ، وقد تقدم تحرير ذلك في نظيره .
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خاتمة نتيجة البحث حول خلود أهل الكبائر في النار لا ريب - أخي القارئ الكريم - أنك بعد هذا التطواف بين هذه الأدلة وفحصك إياها بعين البصيرة أدركت أن عقيدة القائلين بخلود أصحاب الكبائر في النار ، التي أنكرها من أنكرها عليهم وحكم عليهم من أجلها بالكفر ، هي العقيدة التي نطق بها القرآن ، ودعمتها الأحاديث الصحيحة الصريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فهي العقيدة التي يجب على المسلم أن يعتصم بحبلها وأن يلقى الله عليها ، كيف وقد عزا القرآن الكريم ما يخالفها إلى اليهود ، وأنكره عليهم ، وقرر أنه منشأ انحرافهم عن الحق حيث قال : (ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات)1 ومن أمعن النظر في أحوال الناس يتبين له أن اعتقاد انتهاء عذاب العصاة إلى أمد ، وانقلابهم بعده إلى النعيم جرّأ هذه الأمة - كما جرّأ اليهود من قبل - على انتهاك حرم الدين ، والتفصِّي عن قيود الفضيلة ، والاسترسال وراء شهوات النفس ، واقتحام لجج أهوائها . ولا أدل على ذلك من ذلك الأدب الهابط الذي يصور أنواع الفحشاء ، ويجلّيها للقراء والسامعين في أقبح صورها وأبشع مظاهرها ، وقد انتشر هذا الأدب في أوساط القائلين بالعفو عن أهل الكبائر ، أو انتهاء عذابهم إلى أمد ، انتشاراً يزري بقدر أمة القرآن ، وغلب على المؤلفات الأدبية ، مطولاتها ومختصراتها ، كالأغاني ، ومحاضرات الأدباء ، والعقد الفريد ، حتى كاد الأدب يكون عنوانا على سوء الأدب . وقد صان الله من ذلك أدب أصحاب العقيدة الحقة ، الذين رسخ في نفوسهم ما جاء به القرآن من أبدية عذاب أهل الكبائر المصرّين كأبدية المطيعين المحسنين ، كما صان الله سلوكهم ، وطهر وجدانهم ، وسلّم سرائرهم من الاستهانة بحرمات الله تعالى ، والاستخفاف بأحكامه الزاجرة ، ولو قلّبت صفحات أدبهم لوجدتهم - في شعرهم ونثرهم - كما يقول الأستاذ أحمد أمين : (لا يعرفون خمراً ولا مجوناً ، فلا تجد في أدبهم خمراً ولا مجوناً)2. واسمح لي أخي القارئ الكريم أن أقول كلمة - والألم يعتصر قلبي والأسف يلهب وجداني - إن مما يضاعف المصيبة ويكثّف البلاء أن توجد صُوَرٌ من الخلاعة المستهترة ، والمجون الساقط مثبتة في تراجم رجال يعدّون قمما في أمة الإسلام ، هم أجدر الناس بتجسيد فضائل الدين والتحلي بمثله والاعتزاز بآدابه ، وقد ضربت صفحا عن الإشارة إلى بعض هؤلاء بالأسماء والكنى حرصاً على السلامة من مزالق القول ، وصوناً لأعراض المسلمين ، وحفاظا على حرماتهم . وإنني لأبرأ من إقرار ما نسب إليهم ، فإن مبادئنا احترام حرمات جميع المسلمين ، خواصهم وعوامهم ، فضلاً عن علمائهم الذين زادهم الله حرمة العلم مع حرمة الإسلام ، ولكنني أقول إن نفس الاجتراء على نسبة هذه السفاسف إلى أعلام الأمة إجرام لا يستهان به في حقها وحقهم ، لم ينشأ إلا من الاستخفاف بأوامر الله الناتج عن الاستخفاف بوعيده الذي يتمثل في دعوى أن الموحد لا يعذّب ، وإن عُذب لم يخلد في العذاب . ولست أنسى ما قاله لي الداعية الكبير العلاّمة المنصف الشيخ عبد المعز عبد الستار : (لو أن الأمة أخذت بعقيدتكم في خلود صاحب الكبيرة في العذاب ، لكان لها شأن في الصلاح والاستقامة والنزاهة والعفاف غير ما نراها عليه) ، يقول الشيخ محمد شحاته أبو الحسن المدرس بمعهد القضاء الشرعي والوعظ والإرشاد : وقال لي مثل هذا الشيخ محمد بن زكي بن إبراهيم رائد العشيرة المحمدية بمصر : ليتنا أخذنا بآرائهم في اعتبار الغيبة والنميمة مفطرة للصوم ناقضة للوضوء ، وقد أشرت إلى ذلك في كتابي " الولاية والبراءة " .
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خاتمة الكتاب معذرة أخي القارئ الكريم ، لم يكن في حسباني أن ألتقي بك على هذه الصفحات حول هذه الموضوعات التي شغلت قلمي وأخذت من وقتك ، فإنني أحْرَصُ على أن ألتقي بك وأنا أتحدث إليك من خلال هذه السطور في موضوعات هي أحرى بأن تصرف عناية الكُتَّابِ والقراء ، فإن الوقوف في وجوه الزحوم المتنوعة المجتمعة على صعيد واحد لغزو الإسلام ، وتشتيت أمة الإسلام ، سياسيا وفكريا ، أجدر بكل مسلم داعية من الاشتغال بخلاف عقائدي بين طوائف الأمة الإسلامية الواحدة ، مضت عليه قرون وقرون ، وتناولته بالتحرير والبحث أقلام شتى هي أرسخ علما وأعمق فهما ، وأبلغ بيانا ، وأقوى حجة وبرهانا ، غير أني رأيت سكوتي في هذا الموقف قد يزيده تأزما ، فقد تروق دعيات المغرضين لمن لم يدرس أبعاد ما تتعرض له من القضايا الخلافية التي انطلقت منها في الحكم على جزء من جسم الأمة الإسلامية بفصله عنها ، ولم يطلع على ما عند هذه الفئة من هذه الأمة من أدلة تستنير بها في مواقفها من هذه القضايا ، فإن مما تداولته الألسن وتناقلته الأقلام : الحكمة التي قيلت قديما : ( المرء عدو ما جهل ) وفي معناها الشعر الذي قيل حديثا :
فمن هذا المنطلق قمت بتحرير هذه الصفحات موضحا فيها الحق بالدليل ، محكما الحجة الثابتة من الكتاب والسنة والبرهان العقلي دون الرجال . ومن تأمل كلامي متجرداً عن العواطف يجده منصفاً للطوائف المختلفة ، فقد حرصت على إيراد حجة كل طائفة ، ودليل كل قول ، ومناقشة هذه الأدلة نقاشا موضوعيا بعيداً عن كل المؤثرات ، ومن خلال ذلك أرجو أن يدرك اخوتي القراء صدق نيتي ، وسلامة طويتي . ولا يفوتني - ونحن أمام قضية تتعلق بوحدة الأمة الإسلامية جمعاء - أن أناشد من وصل إليه كتابي هذا من علماء المسلمين بأن يمعن فيه نظره ، مخلصا نيته لله سبحانه ، ثم يعلن كلمة الحق غير هيَّاب من أحد ، ولا مجامل على حساب الحق والحقيقة ، ولست أعني بذلك أنني أطالب الناس بأن يرجعوا عن معتقداتهم ، وأن يوافقوني فيما قلت ، فإن العقائد لا يملك أحد أن يفرضها على العقول فرضا ، وإنما هي نتيجة اقتناع بالفكرة سواء كان ناشئا عن اجتهاد ونظر ، أو عن تقليد واتباع ، وإنما مرادي أن على علماء المسلمين - وهم مسئولون عن هذا الدين الحنيف وعن أمة الإسلام - أن تكون لهم في مثل هذه المواقف التي تهدد بانصداع الأمة - وقفة إيجابية في وجه الذين يحبون إثارة الشغب والمهاترات التي لا تعقبها إلا المصائب والويلات بين أمتنا الإسلامية وأن يرشدوا جمهور الناس إلى ما يفرضه الإسلام من التسامح ، والتعاطف ، والتعاضد بين المسلمين . وأُعلن للذين لا يرون إلا حسم الخلاف في هذه القضايا حتى تتفق فيها عقيدة الأمة ، بأنني لا أستنكف من الحوار الموضوعي الهادئ الهادف ، الذي لا ينشد به إلا الحق ، ولا يفضي إلا إلى تجلي الحقيقة وظهور برهانها ، ثم لا يؤدي إلا إلى الألفة والمودة بين المسلمين ، وإنما أشترط أن يكون هذا الحوار مدروساً من كل الجوانب لتفادي التشنج والانفعالات التي لا تؤدي إلا إلى عاقبة سيئة ، وليس من شأنها إلا تشويه وجه الحقيقة ، وطمس نور الحق ، ومحاولة تغطية محاسنه ، والحيلولة بينه وبين البصائر . |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
شكر وعرفان إن الواجب ليفرض عليَّ والوفاء ليقتضيني أن لا أنسى - في وسط هذه الضجة التي أثارتها تلك الأصوات الصَّاخبة ضد الإباضية - أصواتاً هادئة ارتفعت من ألسنة صادقة ، وانبعثت من نوايا طيبة ، لتسجل ثناءها الصادق على هذه الطائفة التي حافظت على الإسلام الحق ، ودافعت عنه بأعز ما تملك من نفس ومال ، واستقامت على الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخلفاؤه الراشدون ، وأصحابه المهديون رضي الله تعالى عنهم ، ولم تختلبهم الدنيا بزهرتها الفاتنة عندما كان الجم الغفير من الناس يتهالكون عليها فيتساقطون في أشراكها . لقد قيض الله هذه الأصوات لتنير درب الحقيقة لطلابها ، وتمزق ما نسجته الأحقاد من الافتراءات التي لم تقم على أساس من الواقع ، ضد هذه الفئة المؤمنة التي اشتهرت في أوساط المؤمنين وغيرهم بلقب الإباضية ، ولست الآن في مقام الإحصاء لهاتيك الأصوات ومصادرها ، فإن الفرصة لا تسمح لي بذلك ، وإنما أكتفي بأن أسجل لأصحابها عموما أجمل الثناء وأطيب الدعاء ، وأود أن أشير إلى بعض هؤلاء المنصفين لأعرض على القارئ الكريم صورا من إنصافهم لهذا المذهب ورجاله ، وإلى القارئ مشاهد من هذه الصور :
وبعد هذه الجولة التي قضيتها معي أخي القارئ الكريم - في هذه الصفحات بين أنحاء هذه القضايا - بحكم الظروف التي فرضتها علينا ، وتطوافنا بين هذه المعالم التي أرجو أن تكون الحقيقة طالعتك منها فشاهدتها رأي العين ، أستودعك الله تعالى مبتهلاً إلى الله سبحانه أن يوفقنا للِّقاء مرات ومرات تحت مظلة الإسلام الحنيف ، وقد التأم شمل المسلمين ، وتوحدت كلمتهم ، وتلاشت فقاقيع الخلاف التي تبدو فوق صفاء وحدتهم ، كما أبتهل إليه سبحانه أن يأخذ بأيدينا وأيدي هذه الأمة كلها إلى ما يحبه ويرضاه من صالح العمل وخالصه ، وصادق القول وزاكيه ، وأن ينوّر بصائرنا ، ويطهِّر سرائرنا ، ويكتب لنا السعادة ويباعدنا عن أسباب الشقاء ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ( سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ) والسلام عليك أيها القارئ الكريم ورحمة الله وبركاته ؛؛ أخوك
في الله
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||