|
الحق الدامغ |
لسماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي مفتي عام السلطنة |
|
المبحث الأول
الفصل الأول- في رؤية الله
المقدمة الحمد لله الذي اصطفى لعباده الدين فوحَّد به بين فئات المؤمنين ، وألَّف بنظامه بين قلوب المخلصين ، سبحانه هو الواحد في ذاته المتقدس في صفاته المتعالي في كبريائه ، الخالق لما في أرضه وسمائه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}1 ، {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وُهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ}2 ، الصادق في الوعد والوعيد ، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، لا معقِّب لحكمه ولا تبديل لكلماته ، ولا إخلاف في ميعاده ، أحمده حمد من آمن بجلاله واعترف بكماله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له {لَهُ الحَمْدُ في الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}3 ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وخيرته من خلقه وصفوته من رسله ، أرسله بأصدق البينات وأظهر الآيات وأبهر المعجزات فأكمل به الدين وأتم به النعمة على عباده المؤمنين ، صلى الله وسلم تسليماً عليه ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وعلى تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد: فإن التباين في أحوال الناس سمة من سمات البشر المعهودة ، فلذلك تجدهم متفاوتين في المدارك ، مختلفين في المشارب ، متعاكسين في الأحاسيس ، وإلى ذلك يرجع تعدد مذاهبهم في الأمر الواحد ، وتباين تصوراتهم في القضية الواحدة {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ، وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}4 ، وكثيراً ما تتأصل الحَمِيَّةُ في نفوسهم فلا تلبث مع استمرار الوقت وعوامل الزمن أن تتحول إلى عقيدة راسخة مستحكِمة في العقل والوجدان ، مستعصية على الحجة والبرهان ، لا تتزعزع لمحرك ، ولا تنقاد لداع . ولذلك كانت دعوات المرسلين عليهم السلام تستفرغ منهم الجهد الجهيد ، وتستغرق منهم الوقت الطويل ، وتظل مع ذلك أفكار أكثر الناس سادِرَة في غيِّها ، غارقة في عَمَاها ، لا تصغى إلى الحجج الصادعة ، ولا تتفتح على المعجزات الساطعة ، بل كلما ازدادت الحجة بياناً ، والمعجزة ظهوراً ، كانوا أشد تصامماً وتعامياً ، وأوغل في العناد والشقاق . وقد ابتليت كل أمة بالإفتراق فيما بينها والإنشقاق على نفسها ، ولم تَسْلَم من ذلك أمة حتى أمة محمد صلى الله عليه وسلم التي اختصت بمَبْعَث أعظم رسول إليها ، وإنزال أجلّ كتاب عليها ، وحُذِّرت أيما تحذير من الإفتراق ودواعيه ، وبُيِّنَت لها عاقبته السيئة في محكم آيات الكتاب الذي اختصت به ، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا}5 ، وقال سبحانه: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءهُمُ البَيَّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}6 ، وقال: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}7 ، وقال لنبيه عليه أفضل الصلاة والسلام: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ في شَيْء}8 ، فإنها مع ذلك كله لم تسلم من هذا الدَّاء العُضال الذي أصاب غيرها من الأمم ، غير أن الله سبحانه اختصها بأن حَفِظَ لها كتابها المُنَزَّل عليها من تحريف العابثين وتبديل المناوئين تحقيقاً لوعده الصادق {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}9 ، ومَكَّنَ لها من معرفة الصحيح الثابت من سنة رسوله عليه الصلاة والسلام ، وجعل لها مَخْلَصاً من الشقاق والنزاع بالإحتكام إلى الله ورسوله حيث قال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيْء فَرُدُّوهُ إِلى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}10 ولا يكون الإحتكام إلى الله إلا بالرجوع إلى كتابه فتُسْتَلْهَم منه الحقيقة ويُسْتَبان به الحق ، وكذلك الإحتكام إلى رسوله صلى الله عليه وسلم لا يعني إلا بالرجوع إلى سنته الثابتة الصحيحة . ومع وجود هذا المَخْلص الذي أُمرنا بأن نَفْزَع إليه من كوارث الإختلاف فإن الخِلاف لم يزل ، والشقاق لم يُسْتَأصَل ، فقد تُؤُوِّل الكتاب تأولات شتى لم تُسْتَمَد إلا من الوهم ، ولم تُستلهم إلا من الهوى ، كما أن للناس مواقف متعددة في معرفة الصحيح من غيره من سنته عليه أفضل الصلاة والسلام ، وفي معرفة نفس مقاصد السنة الثابتة باتفاق الجميع ، ومن هنا نشأ ما نراه بين الأمة من خلاف ونزاع في أصول الدين وفروعه . وإن أعظمه ضرراً ، وأفدحه خطراً ، وأعمقه أثراً ، وأسوأه عاقبة ما كان في أصول الدين ، فإنها قواعد الإسلام ؛ بها تقوم أركانه ، وعليها يُشاد بنيانه ، وبقدر ما تكون قوتها تكون متانة الدين نفسه ، ولأجل ذلك فإن الأمة كثيراً ما تتسامح في الخلاف الذي يكون بين فئاتها في فروع الشريعة ، ولكن يشتد شقاقها ، ويتعمق نزاعها عندما تختلف في الأصول ، وبقدر ما يكون من التقارب أو التباعد فيها بين طائفة وأخرى بقدر ما بينهما من التلاقي أو الإفتراق ، وما مصدر ما حدث ويحدث بين طوائف الأمة من التراشق بالتُّهَم والتنابُز بالألقاب ، والترامي بالأحكام القاسية إلا الإختلاف في أصول دينها ، والتباين في منازع استنادها في معتقداتها بين الإفراط والتفريط في التعويل على النقل أو العقل . وليس هذا النزاع في أصول الدين مع وحدة المصدر الذي تَنْهَل منه العقول المتنازعة إلا نتيجة لتباين المدارك واختلاف التصورات عند أئمة الفرق ، ثم يؤصله تعصب الجماهير لأقوال أئمتهم بحيث تجعل كلُّ طائفة قولَ إمامها أصلاً تُطوِّع له الأدلة المخالفة له بكل ما تخترعه من التأويلات المتكلفة ، فتوزعت الأمة شيعاً وأحزابا {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}11 ولستُ أبالغ إن قلتُ إن الإباضية - أهل الحق والاستقامة - تمتاز عقيدتهم وتتسم طريقتهم في فهم أصول الدين بثلاثة أمور :
أليست هذه الوحدة الإيمانية التي نادى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع لوائها بين أصحابه رضي الله عنهم وهي التي رفعت من شأن هذه الأمة فأبدلها الله بذلها عزا ، وبضعفها قوة ، وبضعتها رفعة ، فتمكنت من فتح الدنيا مع قلة عددها وعدتها ، وكثرة خصومها ، ووفرة العُدَدِ عندهم ؟ أو ليس ما بليت به من الشقاق هو الذي عكس عليها ما نشهده من آثار سلبية في أوضاعها ، فتشتتت بعد الوحدة ، وذلت بعد العزة ، وضعفت بعد القوة ، فازدرتها الأعين التي كانت تكبرها ، وطمعت فيها الأمم التي كانت لا تصطلي بنارها ؟ ليت شعري ! ألا صحوة بعد هذه السكرة ، ويقظة بعد هذه النومة التي غرقت فيها عقول هذه الأمة وفي مقدمتها علماؤها الذين ائتمنهم الله دينه وأخذ عليهم العهد أن يأخذوا بأيدي أمتهم إلى سبيل الرشد . يا
ساسة الدين عـلام وهنكـم وأنتـم
في عـدة وعـــدِّ ؟ ولعله مما يفاجئ كثيراً من القراء أن يطلعوا لأول مرة على عناية قادة الفكر من الإباضية بلمِّ شعث هذه الأمة وجمع شتاتها بعدما أثخنتها الخلافات المذهبية ، ومزقتها النزعات العصبية ، وكم تمنوا أن يحس سائر أعلام الأمة بمثل أحاسيسهم ، ويشاركوهم في هذه الهموم التي تنوء بها صدورهم ، وتؤرق ليلهم ، وتقض مضجعهم ، وقد كانت منهم محاولات ، للخطو في هذا الطريق والاستعداد لهذه المهمة بنفقات مالية يرصدونها من جيوبهم وجيوب المخلصين من سائر أبناء الأمة ، وأصدق مثال على ذلك ما يجده القارئ في هذا السؤال الذي صدر من عالم مفكر وقائد محنك ، ذلكم هو الشيخ سليمان بن عبدالله بن يحيى الباروني ، عضو مجلس المبعوثان بالدولة العثمانية ، المشهور بسليمان باشا الباروني ، وهو من إباضية جبل نفوسة بالقطر الليبي ، وقد توجه بسؤاله هذا إلى عالم الإباضية بالمشرق ، ومرجعهم في أمور الدين ، الإمام عبدالله بن حميد السالمي ، ونص السؤال : هل توافقون على أن من أقوى أسباب اختلاف المسلمين تعدد المذاهب وتباينها ؟ على فرض عدم الموافقة على ذلك فما هو الأمر الآخر الموجب للتفرق ؟ على فرض الموافقة فهل يمكن توحيدها بالجمع بين أقوالها المتباينة وإلغاء التعدد في هذا الزمن الذي نحن فيه أحوج إلى الاتحاد من كل شيء ؟ وعلى فرض عدم إمكان التوحيد فما الأمر القوي المانع منه في نظركم ، وهل لإزالته من وجه ؟ على فرض إمكان التوحيد فأي طريق يسهل الحصول على النتيجة المطلوبة ؟ وأي بلد يليق فيه إبراز هذا الأمر ؟ وفي كم سنة ينتج ؟ وكم يلزم من المال تقريباً ؟ وكيف يكون ترتيب العمل فيه ؟ وعلى كل حال فما الحكم في الساعي في هذا الأمر شرعاً وسياسة ؟ مصلح أم مفسد ؟ .. وكان هذا السؤال في عام 1326هـ . فكان من جواب ذلك الإمام له : نعم
نوافق أن منشأ التشتيت اختلاف المذاهب
وتشعب الآراء ، وهو السبب الأعظم في
افتراق الأمة على حسب ما اقتضاه نظركم
الواسع . وهذا كلام غني عن التعليق بشيء فإنه إن لم يكن شاهداً عادلاً ومعلماً واضحاً على نبل قصد السائل والمجيب وسمو فكرهما ، وحسن أنشودتهما ، فليس يصح في الأذهان شيء. وإذا كان الأدب مرآة تعكس ما في نفس الأديب من كوامن الأحاسيس فإن الأدب الإباضي قديمه وحديثه طافح بعصارات مشاعر الألم الذي يحسون به بسبب تشتت الأمة وانحلال عقد نظامها ، وإذا كنت أخي القارئ شاهدت صورة من ذلك فيما نقلته لك من قول أديب معاصر فإليك صورة أخرى تعكس مشاعر أديب بارع وعالم جامع من أدباء هذه الطائفة وعلماءها الغابرين ، وهو العلامة الكبير شاعر الإسلام والمسلمين أبو مسلم ناصر بن سالم البهلاني الرواحي الذي طالما انساب يراعه الموهوب ليصور لنا بعبارته الإيمانية همومه وأحاسيسه تجاه أمته ودينه ودونك هذا المقطع من قصيدة له بعنوان ( أفيقوا بني القرآن ) : 29 فيا
لبني القرآن أين عقولكــــم وقد
عصفت هذي الرياح الزعازع ؟ * * * فليت
بني الإسلام قرَّت صفاتهــم فما
زعزعتها للغرور الزعـازع * * * فما
بيعنا الحسنى ومرضاة ربـنا بها
بيعة يَمنى بها الربح بائــع * * * ولو
أشربت منا النفوس تبصراً لما
كان منها للشرارة ناقــع وقد كان من بشائر الخير التي لاحت للأمة مع تباشير إشراقة الصحوة الإسلامية المعاصرة ما كان - بادئ ذي بدء - من التعاطف والتواد والتراحم بين الشباب المسلم الذي أشرقت عليه أنوار هذه الصحوة ، فقد كانوا في بادئ أمرهم لا يلتفتون إلى الخلافات المذهبية ، ولا يشتغلون بالنعرات الطائفية إلا قليلاً منهم ، وهم الذين لم تصقل آثار تلك الصحوة ما تراكم على قلوبهم من الصدأ ، وهؤلاء كانوا مغمورين بالكثرة الكاثرة التي ينصب همها في محيط الإسلام الواسع الذي يجمع ولا يفرق ، ويُوَحِّد ولا يشتت ، وكادت القضايا الخلافية تُلقى في زوايا الإهمال لتصبح في خبر كان ، حتى إذا نضرت هذه الألفة وكادت تؤتي ثمارها الطيبة هاجت عليها أعاصير العصبية العمياء - بعدما حركتها أحقاد غصت بها نفوس ساءتها وحد الأمة - فلفحتها بسمومها التي أذبلت نضارتها ، وقضت على رونقها ، فإذا بالتواد تباغض ، وبالتعاطف تباعد ، وبالترابط تقاطع ، وبالرحمة عذاب . وكان أول ضحية لهذا التآمر البغيض هو الإسلام الحنيف ثم الشبيبة المسلمة التي كادت تقلب مجرى التأريخ ، وتعيد إلى حاضر الأمة المشرق ماضيها العريق بضربها أروع الأمثال في الوحدة الإسلامية والترابط الديني ، فقد انتزعت انتزاعاً من حظيرة الوفاق الإسلامي ليدفع بها إلى متاهات من الخلاف والشقاق كان لها بد وأي بد من الدخول فيها والهيام في أرجائها . وليت الأمر وقف عند حدود الجدل والمناظرات ، ولم يصل إلى التكفير وإصدار الأحكام التعسفية الجائرة على كثير من المسلمين ، بإخراجهم من الملة ، وتعريتهم من لباس الإسلام . وقد لُزَّ الإباضية فيمن لُزَّ إلى مضائق هذه الفتنة على كره منهم ، فقد كانوا في مقدمة المستبشرين بطلائع الوحدة الإيمانية بين الأمة ، المرتاحين إلى روح الإخاء التي كانت تسود الشباب المسلم على اختلاف فئاته ، فما شعروا إلا ويُكفأ على رؤوسهم وقود هذه الفتنة وتضرم عليهم نيرانها بما صدر فيهم من أحكام التضليل والتبديع والتكفير ، واعتبارهم داءً عضالاً في جسم الأمة يجب استئصاله ولو ببتر الأعضاء التي أصيبت به (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد)30 ، إذ لم ينقموا منهم إلا تنزيههم الخالق تبارك وتعالى ، وتصديقهم بما نزل في كتابه الكريم وما ثبت من سنة نبيه عليه أفضل الصلاة والتسليم. وكثيراً ما تعرض طلبتهم في بلاد الإسلام وغيرها لأنواع المضايقات من قبل إخوانهم وزملائهم - مع ملاحظة ما يكنونه لهم من الود ويضمرونه لهم من الصفاء والخير - حتى بلغ الأمر ببعض سفهاء الأحلام أنهم كانوا يدعون الطلبة الإباضيين إلى إعلان الشهادتين ليكونوا في عداد المسلمين ، كأنهم - في نظر أولئك - من الملاحدة والمشركين . وهو أمر يستدعي أسف كل ذي لب ، وحسرة كل من كان له قلب ، كيف ينزل الإباضية أهل الحق والإستقامة هذه المنزلة مع رسوخ قدمهم في التوحيد ، وصفاء مصدرهم في العقيدة ، وما عُرِفوا به بين الخاص والعام من الورع في الدين والخشية من بأس الله ، وما الذي ارتكبه الإباضية حتى ينزل بهم هذا الحكم ، ويُعاملوا بهذه الطريقة ؟؟ إن أهم ما تذرع به أولئك الذين أصدروا فيهم تلك الأحكام الرهيبة ، وعاملوهم بهاتيك المعاملة النكراء ثلاث قضايا كان للإباضية فيها موقف لم يتفق مع رغبات أولئك الحاقدين ، فعدوا كل قضية منها مبررة للحكم عليهم بالكفر وقطع حبال الصلة بينهم وبين سائر الأمة مع أن الإباضية لم ينفردوا بموقفهم دون سائر طوائف الأمة ، فثم الكثير من الذين رأوا في هذه القضايا رأيهم وأيدوا موقفهم كما سيتضح ذلك من خلال هذه الدراسة إن شاء الله ، على أنهم في كل قضية منها أخذوا بحجز النصوص القرآنية والسنة الثابتة عن الرسولعليه أفضل الصلاة والسلام .. والقضايا الثلاث هي :
وقد انهالت عليَّ أسئلة الطلبة من هنا وهناك عن موقف أصحابنا في هذه القضايا الثلاث ، وما يستندون إليه من دليل ، ونظرتهم إلى أدلة من يقولون بخلاف قولهم ، ولم يكن لطلبتنا من قبل أي اهتمام بالقضايا الخلافية وبحثها ماعدا المتخصصين منهم في دراستها ، وإنما دعاهم إلى هذا الإلحاح في طلب كشف النقاب عن وجه الحقيقة فيها ما يلقونه من عنت ويواجهونه من إحراج من قوم لا يهمهم إلا إثارة شحناء كانت نائمة ، وتسعير فتنة كانت خامدة ، فدعاني ذلك إلى تحرير هذه العجالة التي سوف يجد فيها القارئ الكريم إن شاء الله دراسة وافية لكل قضية من هذه القضايا بتلخيص أدلة كل فريق وبحثها على ضوء قول الله عز وجل وقول رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام ، مع استلهام فهم مقاصدهما بالرجوع إلى قواعد اللسان العربي المبين ، الذي شرّفه الله بأن جعله وعاءً للقرآن الكريم وطبع عليه لسان نبيه الخاتم عليه أفضل الصلاة والتسليم ، وستدرك أخي القارئ - إن شاء الله - من خلال دراستك لما أقدمه إليك ، أن الإباضية لم يستمدوا عقيدتهم من فلسفة اليونان وغيرها من أساطير الأولين كما يحلو زعم ذلك للذين يهرفون بما لا يعرفون ، وإنما استمدوه من أصفى ينابيع الحق ، وأَنْوَر أشعة الحقيقة ، فقد احتكموا إلى الكتاب العزيز والسنة المطهرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ، عملاً بقوله تعالى : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا )31 وإذا خفيت عن الغبي فعاذر أن لا تراني مقلة عمياء وقد كنت حريصاً من قبل على عدم الخوض في مثل هذه القضايا الجانبية وعدم اتخاذ موقف من هذه المهاترات إلا الصمت ، فالحق أصفى وأبين من أن تكدر الشُّبَهُ صَفْوَه أو تحجب نوره . وفي تعب من يحسد الشمس ضوءها ويجهد أن يأتي لها بضريب ولن يضر هجر المقال إلا قائله دون من قيل فيه ، فما الذي ضر المرسلين وأتباعهم مما قيل فيهم من الإفك ، ورموا به من التهم ، وهذه هي سنة الله في خلقه ( إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون ، وإذا مروا بهم يتغامزون ، وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين ، وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون وما أرسلوا عليهم حافظين ) 32 وإنا وما تلقى لنا من هجاءنا لكالبحر مهما يلق في البحر يغرق ولكني رجَّحت جانب الرد على الصمت تبياناً للحث ودفاعاً عن الحقيقة ، ووقوفاً في وجوه الذين يضرمون الفتن ويؤججون الأحقاد بهذه المحاولات ، لتمزيق شمل الأمة وتفتيت وحدتها ، إذ لا يعلم إلا الله عاقبة هذه الفتنة إذا اضطرمت نارها وحَمِيَ أوارها والعياذ بالله . ولعمر الحق إن ما تعانيه اليوم أمة الإسلام من محن وفتن وتشتت وضياع لجدير بأن يستدر لها عطف عدوها اللدود ، ويعتصر لها الرحمة من قلوب خصومها القاسية ، فكيف تسمح بمضاعفة بلائها وإنكاء جروحها من جديد ، بأمثال هذه المهاترات من غير أن نتصدى لها بالرد المقنع بالحجة والبرهان ، لذلك قمت ، مع اشتغال البال وتراكم الأعمال - بتحرير هذه العجالة تبياناً لحجة ( الحق الدامغ ) واستئصالاً لشبهة الباطل الزاهق ، والله هو الذي يحق الحق ويبطل الباطل ( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) 33 .. وقد لخصت هذا الرد في ثلاثة مباحث : المبحث
الأول : في رؤية الله
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مقدمة المبحث الأول مدلول الرؤية لغةً جاء في القاموس وشرحه للزبيدي ما نصه : ( الرؤية ) بالضم إدراك المرئي ، وذلك أضرُب بحسب قوى النفس
وقال ابن سيده : الرؤية النظر بالعين والقلب 7، وهو تفسير للأخص بالأعم فقد تنظر العين مع عدم تحقق الرؤية مثال ذلك : نظرت الهلال فلم أره ، فإن النظر هنا هو محاولة للرؤية وليس إياها . والخلاصة : أن الرؤية تكون بصرية وغير بصرية ، والبصرية تكون بحاسة الإبصار المعهودة وهي العين فيما كانت فيه عين ، وفسرها الإمام السالمي رحمه الله بقوله : ( وهي اتصال شعاع الباصرة بالمرئي أو انطباع صورة المرئي في الحدقة ) 8 ، وإلى هذا المعنى ذهب أكثر القائلين برؤية الله تعالى ، سواء الذين أثبتوا رؤيته في الدنيا والآخرة أو الذين أثبتوها في الآخرة دون الدنيا ، كما قال الشيباني : ومن قال في الدنيا
يراه بعينه فذلك زنـديق طغـى
وتمـردا وقال آخر : ولله أبصار ترى الله جهرة فلا الضيم يغشاها ولا هي تسأم 9
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفصل الأول إختلاف الأمة في إمكان رؤية الله تعالى إشتد النزاع بين طوائف الأمة في إمكان رؤيته تعالى ووقوعها ، فذهبت الطوائف المنتسبة إلى السنة من السلفية والأشعرية والماتريدية والظاهرية وغيرهم إلى أنها ممكنة في الدنيا والآخرة ، غير أن جمهورهم يثبت وقوعها في الآخرة لا في الدنيا. وذهبت طائفة إلى أنها واقعة في الدنيا والآخرة ، وهم مختلفون كذلك ، هل هي خاصة في الدنيا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو هي عامة له وللمؤمنين ؟ فأكثرهم على أنها خاصة به ، وهو قول الأشعري وغالب أتباعه ، نقله عنهم الحافظ ابن حجر1 وبه قال النووي ولم يقل بوقوعها لغيره صلى الله عليه وسلم في الدنيا إلا غلاة الصوفية ، وظاهر كلام الألوسي يدل على جنوحه إليه ، وقد غالى حتى أجاز له الكيفية تعالى الله عن ذلك ، ونص كلامه : " نقل المناوي أن الكمال بن الهمام سئل عما رواه الدارقطني وغيره عن أنس من قوله صلى الله عليه وسلم : (رأيت ربي في أحسن صورة) بناءً على حمل الرؤية على الرؤية في اليقظة " فأجاب بأن هذا حجاب الصورة. انتهى ، قال : وهو التجلي الصوري الشائع عند الصوفية ، ومنه عندهم تجلى الله تعالى في الشجرة لموسى عليه السلام وتجليه جل وعلا للخلق يوم يكشف عن ساق ، وهو سبحانه وإن تجلى بالصورة لكنه غير متقيد بها ( والله من ورائهم محيط). والرؤية التي طلبها موسى عليه السلام غير هذه الرؤية ، قال : وذكر بعضهم أن موسى كان يرى الله تعالى إلا أنه لم يعلم أن ما رآه هو هـو وعلى هذا الطراز يحمل ما جاء في بعض الروايات المطعون بها (رأيت ربي في صورة شاب - وفي بعضها زيادة - له نعلان من ذهب) ، ومن الناس من حمل الرؤية في رواية الدارقطنى على الرؤية المنامية ، وظاهر كلام السيوطي أن الكيفية فيها لا تضر ، وهو الذي سمعته من المشايخ قدس الله تعالى أسرارهم ، والمسألة خلافية. قال : وإذا صح ما قاله المشايخ وأفهمه كلام السيوطي فأنا ولله تعالى الحمد قد رأيت ربي مناما ثلاث مرات ، وكانت المرة الثالثة في السنة السادسة والأربعين والمائتين والألف بعد الهجرة ، رأيته جل شأنه وله من النور ما له متوجها جهة المشرق فكلمني بكلمات أنسيتها حين استيقظت ، ورأيت مرة في منام طويل كأني في الجنة بين يديه تعالى وبيني وبينه ستر حبيك بلؤلؤ مختلف ألوانه ، فأمر سبحانه أن يذهب بي إلى مقام عيسى عليه السلام ثم إلى مقام محمد صلى الله عليه وسلم فذهب بي إليهما فرأيت ما رأيت ولله تعالى الفضل والمنة. 2 وهذا كلام تقشعر منه الجلود ، وتتصدع به الجبال ، فإن فيه من الجرأة على الله تعالى ما ليس بعده ، كيف وقد أخذت بني إسرائيل الصاعقة بمجرد سؤال الرؤية ، ونال موسى عليه السلام ما ناله من الصعق لا لشيء غير أنه سألها ليكفكف - بما يأتي من الرد الحاسم على سؤاله - غلواءهم ، ويستأصل شافة طمعهم ، ولم يكد يفيق من الصعق حتى قال : ( سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين )3 ، ولولا أنى أردت أن أوقفك أيها القارئ على هذا الخلط العجيب الذي جرأ هؤلاء الناس عليه اعتقادهم جواز الرؤية ما نقلتُ من هذا الكلام حرفا. ولم يقف الأمر بالألوسي عند هذا الحد حتى أخذ ينقل من أقوال أقطابهم ما هو صريح في رد قوله تعالى لموسى : (لن تراني )4 ، وترجيح هذه الأقوال على هذا النص القرآني الصريح ، وإليك أيها القارئ الكريم بعض ما جاء به : قال : " وقال الشيخ الأكبر قدس سره إنه رآه بعد الصعق وذكر قدس سره أنه سأل موسى عن ذلك فأجابه بما ذكر ، والآية عندي غير ظاهرة في ذلك ، وإلى الرؤية بعد الصعق ذهب القطب الرازي في تقرير كلام للزمخشري إلا أن ذلك على احتمال أن تفسر على الانكشاف التام ، الذي لا يحصل إلا إذا كانت النفس فانية مقطوعة النظر عن وجودها فضلا عن وجود الغير ، إلى أن قال : وذهب الشيخ إبراهيم الكوراني إلى أنه عليه السلام رأى ربه سبحانه حقيقة قبل الصعق فصعق لذلك ، كما دُك الجبل للتجلي5 ... الخ كلامه المتناقض الذي آثرت الإعراض عن نقله كله ، لأنه كثير العناء ولا جدوىوالقائلون برؤيته في الآخرة مضطربون كذلك لاختلافهم في من يرونه ومتى يرونه ، فبينما أكثرهم يقولون بأن الرؤية خاصة بالمؤمنين إذ هي نعمة يمن الله بها عليهم يتضاءل معها نعيم الجنة ، نجدُهُم يهرعون إلى الاستدلال عليها بحديث (سترون ربكم) مع أنه يقتضي أن هذه الرؤية ستكون في الموقف ، وأنها غير خاصة بالمؤمنين ، بل المنافقون يشاركونهم فيها لأن من نصوصه ( وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله تعالى في صورة غير التي يعرفون ) وأغرب من هذا ما ذكره ابن كثير في تفسير قوله تعالى : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون)6 أنه يكشف الحجاب فينظر إليه المؤمنون والكافرون ، ثم يحجب عنه الكافرون وينظر إليه المؤمنون كل يوم غدوة وعشية ، وعزا إلى ابن جرير أنه رواه عن الحسن 7 ، ولم أجده في تفسير ابن جرير وإنما وجدت فيه رواية عن الحسن أنه قال : "يكشف عنه الحجاب فينظر إليه المؤمنون غدوة وعشية " أو كلاماً هذا معناه . 8 ونقل الحافظ القول باشتراك المؤمنين والكفار في رؤيته يوم القيامة عن طائفة من المتكلمين كالسالمية من أهل البصرة . وإذا قسنا هذا إلى ما نقله ابن القيم في حادي الأرواح من رواية ابن أبي حاتم عن الأوزاعي أنه قال : إني لأرجو أن يحجب الله عز وجل جهماً وأصحابه عن أفضل ثوابه الذي وعده أولياءه9 ، وجدنا تعارُضاً بعيدا بين أقوالهم ، وقد سمعت محاضرة مسجلة في شريط لأحد خطباء الجمعة المشهورين في إحدى دول الجزيرة العربية استدل فيها على ثبوت الرؤية بقوله تعالى : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) وكان مما قال في الآية " أن الإباضية هم الذين يحجبون عن ربهم فلا يرونه - عندما يراه المؤمنون - ولكنهم يرون مالكا خازن النار بسبب إنكارهم للرؤية" أعوذ بالله من نزغات أهل الجهل ، ومن عثرات أتباع الهوى. وقال ابن القيم : فقد دلت الأحاديث الصحيحة على أن المنافقين يرونه تعالى يوم القيامة ، بل والكفار أيضا كما في حديث التجلي يوم القيامة ، ثم قال : وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال لأهل السنة : أحدهما : أن لا يراه إلاً المؤمنون. والثاني : يراه جميع أهـل الموقف مؤمنهم وكافرهم ، ثم يحتجب عن الكفار فلا يرونه بعد ذلك. والثالث : يراه المنافقـون دون الكفار ، والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد وهي لأصحابه . 10 هكذا ترى - أيها القارئ الكريم - تضارب أقوال مثبتي الرؤية في هذه القضية حتى أنهم ينسبون إلى إمام واحد من أئمتهم أقوالاً متعارضة ومذاهب متباينة ، وناهيك بذلك شاهداً ودليلاً على ضعف القاعدة التي أسسوا عليها معتقدهم ، وإلاً فإن الحق لا يحتمل هذا الاختلاف لوضوح حجته واستقامة محجته وصدق الله : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) 11 وليت شِعري إذا كانت الرؤية أعظم ثواب أعده الله للمؤمنين ثم شاركهم فيها الكافرون والمنافقون ، ماذا بقى بعدئذ ؟ وكيف لا يشاركونهم في نعيم الجنة ، مع أن الجنة لا تساوي شيئاً بجانب هذا الثواب العظيم في زعم هؤلاء القائلين حتى أنهم نسبوا إلى أحد الأئمة أنه لو لم يوقن أنه سيرى ربه بوم القيامة لما عبده .12 وهو يفيد أن قائله يرى أن الله سبحانه لا يستحق من خلقه عبادة - لولا رؤيته التي يرجونها - لا لعظمته ولا لنعمته ولا لثوابه ولا لعقابه ، ولعمري ما أخطر هذا القول ونسبته إلى عالم من عُلماء المسلمين ، فما أشبهه بقول بني إسرائيل : ( لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة )13 هذا وقد صرَّح بعض الحنابلة بأن إثبات رؤية الكفار لله يوم القيامة قول باطل مخالف لإجماع الأمة ، فقد حكى ابن تيمية عن القاضي أبي يعلى وغيره من الحنابلة أن مثبتي رؤية الله في الآخرة ومنكريها اتفقوا على أن الكافرين لا يرونه - قالوا : ( فثبت بهذا إجماع الأمة - ممن يقول بجواز الرؤية وممن ينكرها - على منع رؤية الكافرين لله ، وكل قول حادث بعد الإجماع فهو باطل مردود ). وحكى عنهم أيضاً ما نصه : الأخبار الواردة في رؤية المؤمنين لله إنما هي طريق البشارة ، فلو شاركهم الكفار في ذلك بطلب البشارة ، ولا خلاف بين القائلين بالرؤية في أن رؤيته من أعظم كرامات أهل الجنة. ثم أتبع ذلك قوله . قال - أي القاضي أبو يعلى - : وقول من قال إنما يرى نفسه عقوبة لهم وتحسيراً على فوات دوام رؤيته ومنعهم من ذلك - بعد علمهم بما فيها من الكرامة والسرور - يوجب أن يدخل الجنة الكفار ويريهم ما فيها من الحور والولدان ، ويطعمهم من ثمارها ويسقيهم من شرابها ، ثم يمنعهم من ذلك ليعرفهم قدر ما منعوا منه ويكثر تحسرهم وتلهفهم على منع ذلك بعد العلم بفضيلته. ثم قال : والعمدة قوله سبحانه : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) فإنه يعم حجبهم عن ربهم في جميع ذلك اليوم ، وذلك اليوم ( يوم يقوم الناس لرب العالمين( وهو يوم القيامة ، فلو قيل إنه يحجبهم في حال دون حال لكان تخصيصاً للفظ بغير موجب ، ولكان فيه تسوية بينهم وبين المؤمنين ، فإن الرؤية لا تكون دائمة للمؤمنين والكلام خرج مخرج بيان عقوبتهم بالحجب وجزائهم به فلا يجوز أن يساويهم المؤمنون في عقاب ولا جزاء سواه … الخ 14 وكفى بهذا الكلام دحضاً لما قالوه ونقضاً لما شيدوه. وذهب إلى استحالتها في الدنيا والآخرة أصحابنا - الإباضية - وهو قول المعتزلة والجهمية والزيدية والإمامية من الشيعة ، وبه قال جماعة من المتكلمين المتحررين من أسر التقليد كالإمام الجصاص في "أحكام القرآن" ، وجنح إليه الإمام الغزالي في بعض كتبه ، بل صرح به في بعضها ، وهو الثابت عندنا عن سلف هذه الأمة ، فقد رواه الإمام الربيع رحمه الله عن أفلح ابن محمد عن أبى معمر السعدي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، ورواه عن جبير عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ورواه عنه من طريق أبي نعيم عن العباس أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن نافع بن الأزرق ، ورواه أيضا عن عائشة رضي الله عنها ومجاهد ، وإبراهيم النخعي ، ومكحول الدمشقي ، وعطاء بن يسار وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم ، وأبي صالح صاحب التفسير، وعكرمة ومحمد بن كعب ، وابن شهاب الزهري ومحمد بن المنكدر ، وهو مقتضى ما رواه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قول موسى عليه السلام : ( وأنا أول المؤمنين ) أنه لا يراك أحد ، وما رواه عن السدي أنه قال في قوله تعالى : ( لا تدركه الأبصار) لا يراه شيء وهو يرى الخلائق ، وستأتيك إن شاء الله رواية عبد بن حميد وابن جرير له عن مجاهد ، ورواية ابن مردويه له عن ابن عمر رضي الله عنهما وعن عكرمة ، ورواية ابن جرير وعبد بن حميد أيضا له عن أبى صالح ، ونسبه ابن حزم أيضا إلى مجاهد - وتعذر له في ذلك بأن الخبر لم يبلغ إليه - وعزاه أيضاً إلى الحسن البصري وعكرمة ثم قال وقد روى عن عكرمة والحسن إيجاب الرؤية له تعالى.15 وما رواه عن الحسن وعكرمة مما ظنوه إثباتاً لرؤية الله تعالى لا ينافي ما ثبت من إنكارها عند فهم مقاصدهما ، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله . الهوامش والتعليقات
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
الفصل الثاني- أدلة المثبتين للرؤية |
|
أدلة المثبتين للرؤية القسم الأول في أدلة جواز الرؤية فأما القسم الأول فمنه عقلي ومنه نقلي : أما العقلي فيتلخص في قياس وجود الحق على وجود الخلق ، وذلك أنهم قالوا إن سائر الموجودات مشتركة في جواز الرؤية عليها ، وبما أن الله موجود أيضاً فإن رؤيته ممكنة . وأجيب عن ذلك بما ملخصه أن الوجود إن كان هو العلة في رؤية الموجودات المرئية ، فلا مانع من أن يعتبر علة في خلقها ، فيترتب عليه أن يكون الله سبحانه ممكناً أن يشاركها في الخلق كمشاركته لها في الوجود ، أما إذا اعتبرنا علة خلقها الحدوث فيجب علينا أيضاً أن نعتبره علة في إمكان رؤيتها ، وأن ننزه الخالق عن قياسه عليها في الرؤية كما ننزهه عن قياسه عليها في الخلق ، على أن دعوى أن كل موجود تجوز رؤيته منتقضة بكثير من الموجودات غير المرئية ، كالروح والعقل والوجدان والإدراك ، ومثلها الأصوات والروائح ، والأثير والكهرباء ، وفتح باب القياس بين الخالق والخلق يؤدي إلى وصفه سبحانه بكثير ممَّا تواترت الرسالات واتفق العقلاء على استحالته في حقه تعالى ، فإن المخلوق لا يمكن تصور وجوده إلا بوجود الزمان والمكان ، وقد كان الخالق ولا زمان ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان ، لا يتصف بالعوارض ، ولا يدرك بالحواس ، ولا يجوز في حقه الاتصال بشيء من المخلوقات ولا الانفصال عنها ، والعقول كيفما تطاولت فمنتهاها أن تقف على عتبة ( العجز عن الإدراك هو الإدراك ) و ( ما عرف الله من شبهه بشيء من خلقه ) وإنما محط رحال الأفكار إدراكها أنه ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)1 ، وقد صرَّح السيد السند في شرح المواقف بانقطاع المسلك العقلي عن الوصول إلى حجية إمكان رؤيته تعالى.2 وأما النقلي فبعضه من الكتاب وبعضه من السنة ، أما من الكتاب فدليلان:
وأما من السنة : فما روي عن جماعة من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم من إثبات رؤيته صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء والمعراج ، ووجه استدلالهم بذلك على إمكان الرؤية أنها لو لم تكن ممكنة لما قال بوقوعها أحد من الصحابة ، وهم أوفر عقلاً ، وأغزر علماً ، وأنور بصيرة ممن جاء بعدهم ، ووجه اعتبار هذا الدليل من السنة أنهم رضي الله عنهم لا يقولون شيئاً من نحو هذا اعتباطاً ، ولكن استناداً إلى ما علموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وجوابه أن ما روي عنهم من إثبات رؤيته صلى الله عليه وسلم لربه لا يخلو إما أن يكون من كذب الرواة عنهم ، وإما أن يكون من سوء فهمهم لما رووه ، وكيف يمكن أن يقول أحد منهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه تعالى ، وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقطع عذر من قال ذلك باعتباره قد أعظم على الله الفرية ، كما جاء ذلك عنها بأصح الأسانيد وأضبطها في مسند الإمام الربيع بن حبيب ، وفي صحيحي البخاري ومسلم من طريق مسروق ، وإعظام الفرية على الله أكبر الكبائر التي يجب تنزيه المسلمين عنها ؛ فضلاً عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، الذين هم خير القرون ، وفي رواية أخرجها البخاري عن مسروق قال : قلت لعائشة رضي الله عنها : يا أمتاه هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه ؟ فقالت : " لقد قفَّ شعري مما قلت " وما هو إلا كناية عن هول ما سَمِعَتْ ، وضيق صدرها منه لاستحالة ذلك على الله سبحانه . وأشهر من رُوِيَ عنه القول بخلافها ابن عباس رضي الله عنهما ، ومن أمعن نظره في نص كلامه المروي ، يدرك أنه لم يقصد بالرؤية إلا مزيد المعرفة بالله تعالى الذي حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة المباركة بما تجلى له من آيات الله ، وانكشف له من أسراره في الملكوت الأعلى . ففي صحيح الإمام مسلم ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، وأبو بكر الأشج ، جميعاً عن وكيع ، قال الأشج حدثنا وكيع حدثنا الأعمش عن زياد الحصين أبي جهمة عن أبي العالية عن ابن عباس قال : ( ما كذب الفؤاد ما رأى ولقد رآه نزلة أخرى ) قال : رآه بفؤاده مرتين ، وفيه من طريق عطاء عنه رضي الله تعالى عنه ، قال : رآه بقلبه ، وهو من الوضوح بمكان في كون الرؤية قلبيه لا بصرية ، وأصرح من ذلك في نفي الإبصار ما أخرجه ابن مردويه عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لم يره رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينه إنما رآه بقلبه ، وقد حكى عثمان بن مندة الدارمي اتفاق الصحابة على أنه لم يره.14 فإن قيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الناس معرفة منذ أكرمه الله بالنبوة وشرَّفه بالرسالة الخاتمة ، فكيف يقال إنه عرفه مرتين إن فسرت الرؤية بالمعرفة . فجوابه أن العارف بالله تعرض له أحوال من تجليات الحق ، فيستغرق في حالة من شهود جلاله وكبريائه كأنما يراه سبحانه وتعالى ، ولا ريب أنه عليه أفضل الصلاة والسلام - وهو أوفر الناس عقلاً وأتمهم معرفة - قد أكرمه الله بما هو أبلغ وأعظم مما وصل إليه غيره في طُروِّ مثل هذه الحالات النفسية ، خصوصاً في تلك الرحلة الكريمة التي أزيحت عنه فيها الأستار ، فتجلى له من أسرار الملكوت الأعلى ما لم يتجلى لغيره ، ولعل هاتين المرتين اللتين قصدهما البحر ابن عباس كانت التجليات فيهما أكمل وأشمل ، فعبر عن ذلك ابن عباس رضى الله تعالى عنه برؤية الفؤاد أو القلب ، على أنا نرجِّح في تفسير الرؤية في آية النجم بما ثبت رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم من طريق عائشة رضي الله تعالى عنها في مسند الإمام الربيع وصحيحي البخاري ومسلم ، فقد قالت : أنا أول هذه الأمة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : ( إنما هو جبريل لم أره في صورته التي خُلِق عليها غير هاتين المرتين ، رأيته منهبطاً من السماء ساداً عظم خلقه ما بين السماء والأرض ) فإنه صلى الله عليه وسلم أدرى بمعاني القرآن ومقاصده ، ومع ثبوت المرفوع لا يلتفت إلى الموقوف . وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم نفي رؤيته لله تعالى نفياً صريحاً لا يدع للشك مجالاً . فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِل : هل رأيت ربَّك ؟ فقال : نورٌ أنَّى أراه ؟ وفي قوله : أنَّى أراه استبعاداً لأن يتمكن عليه أفضل الصلاة والسلام من رؤيته تعالى ، وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : أنا أول من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا ، فقلت : يا رسول الله هل رأيت ربك ؟ قال : لا ، إنما رأيت جبريل منهبطاً ، وكيف يظن بابن عباس رضي الله عنه أن يقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم رآه رؤية بصرية مع ما روي عنه من نفي الرؤية في الدنيا والآخرة ، كما ستقف عليه إن شاء الله . وقد نص كثير من مثبتي الرؤية في الآخرة على أنها لم تقع لأحد في الدنيا حتى للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولعل هذا هو قول الكثيرين منهم .
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أدلة المثبتين للرؤية القسم الثاني في أدلة وقوع الرؤية وأما القسم الثاني وهو : أدلة وقوعها في الآخرة ، فهو نقولٌ بعضها من الكتاب وبعضها من السنة ، فمن الكتاب :
وأما من السنة فقد أكثروا من الأحاديث التي حشروها للاستدلال بها ، وأشهر وأقوى ما اعتمدوا عليه حديث ( سترون ربكم عيانا كما ترون القمر ليلة البدر) ، وقد رووه من طريق أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وجرير بألفاظ متعددة ، وكثيرا ما يقتصرون في كتب العقيدة على هذا القدر من نصه ، وقبل أي تعقيب على الإستدلال أرى أن أنقل بعض ألفاظه وأسانيده. روى الشيخان - واللفظ للبخاري - في كتاب التوحيد ، قال حدثنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن أبن شهاب ، عن عطاء بن يزيد الليثي ، عن أبي هريرة أن الناس قالوا : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تضارون في القمر ليلة البدر؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال : فهل تضارون في الشمس ليس دونها حجاب ؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال : فإنكم ترونه كذلك ، يجمع الله الناس يوم القيامة ، فيقول من كان يعبد شيئا فليتبعه ، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمـس ، ويتبع من كان يعبد القمر القمـر ، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغـيت ، وتبقى هذه الأمة فيها شافعوها أو منافقوها - شك إبراهيم - فيأتيهم الله فيقول : أنا ربكم ، فيقولون هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا ، فإذا جاء ربنا عرفناه ، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون ، فيقول لهم : أنا ربكم ، فيقولون : أنت ربنا ، فيتبعونه ... الخ ، ورواه مسلم في كتاب الإيمان عن زهير بن حرب عن يعقوب بن إبراهيم بالإسناد المذكور ، وفي روايته جزم بقوله : ( فيها منافقوها ) من غير تردد ، وزيادة ( فيأتيهم الله تبارك وتعالى في صورة غير صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم. فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا .. الحديث ).وجاء بألفاظ مختلفة عند الشيخين وغيرهما ، ومثله في ذلك حديث أبي سعيد عند الشيخين كذلك . وأنت أيها القارئ الكريم تدرك ببصيرتك أن الأخذ بظواهر هذه النصوص يفضي إلى ما يرده العقل ويكذبه البرهان كما هو واضح فيما يلي : (1) أنه يترتب عليه تغير ذاته تعالى من صورة إلى غيرها ، والتغير سمة من سمات الحدوث فيلزم منه حدوثه تعالى. (2) كونه سبحانه مرئيا لهذه الأمة مؤمنها ومنافقها في الدنيا رؤية جلية تترك صورته منطبعة في أذهان الرائين ، حتى إذا جاءهم في صورة أخرى أنكروا أن يكون ربهم واستعاذوا بالله منه ، وإلا فبم عرفوا صورته حتى أنكروه عندما جاءهم في غيرها ، وعرفوه إذا انقلب إليها ، مع أن ذلك هو أول موقف من مواقف يوم القيامة. وقد حَصَلَتْ مناظرات بيني وبين بعض العلماء في ذلك ، ولمَّا ألزمتهم هذه الحجة أجابوا بأن هذه المعرفة بصورته ليست نتيجة رؤية سابقة ، ولكنها بسبب ما عرفوه من وصفه لنفسه في كتابه ووصف النبي صلى الله عليه وسلم له في سنته ، فألزمتهم أن يكون كل من قرأ كتاب الله ودرس سنة رسوله صلى الله عليه وسلم عارفاً بالصورة الحقيقية التي يرى بها ربه سبحانه وتعالى ، حتى إذا رآه في غيرها أنكره ، فهلمَّ إلى وصف هذه الصورة وتحديدها لنا مما عرفتموه من قراءتكم للقرآن ، ومطالعتكم لأحاديث الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام ، فأحجموا ودحضت حجتهم والحمد لله .وإن مما يبطل تأويلهم الذي لجأوا إليه - فراراً من هذا الإلزام - مخالفته لصريح ما نص عليه حديث أبي سعيد عند الشيخين ، ففي البخاري عنه بلفظ ( فيأتيهم الجبار في صورة غير الصورة التي رأوه فيها أول مرَّةٍ ) وأما لفظ مسلم فهو ( حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من برٍّ وفاجر أتاهم رب العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها ) واللفظان صريحان في أن معرفتهم بصورته ما كانت إلا عن رؤية سابقة ، ولا محيص - لمن أخذ بهذا الظاهر - عن القول بأنه مرئي في الدنيا - وقد أنكره أكثرهم ، ومن قال به حصر رؤيته في مخصوصين ، ولم يقل بشمولها الأبرار والفجار من هذه الأمة - أو القول برؤيته في البرزخ ، وهو ما لم يقله قائل من قبل ، فضلاً عن وجود مستند له .وبعد هذا الذي قررته ، رأيت في فتح الباري ما نصه ( وقال غيره - أي غير الخطابي - في قوله : ( في الصورة التي يعرفونها ) يحتمل أن يشير بذلك إلى ما عرفوه حين أخرج ذرية آدم من صلبه ثم أنساهم ذلك في الدنيا ، ثم يذكرهم بها في الآخرة ! ) 40وهذا القول يحتمل أمرين إما أن يريد به قائله أنهم عندما أخرجوا من صلب آدم رأوا ذات الحق تعالى ، وإما أن يريد أنهم حصلت لهم معرفة ما كانت لهم من بعد ، والأول باطل لأمرين :
والثاني غير معقول إذ لا يُتصور أن يكونوا في تلك اللحظة العابرة أعرف بالله منهم بعد نشأتهم في الدنيا ، وما من الله به عليهم من العلم والعقل ، على أن التصريح بأنهم رأوه في حديث أبي سعيد يسقط هذا الاحتمال ، اللهم إلا أن تفسر الرؤية بالعلم ، ويلزم منه أن تكون رؤيته تعالى المقصودة في الحديث هي زيادة المعرفة به . ( 3 ) كون رؤيته تعالى شاملة للبر والفاجر والمؤمن والمنافق ، وهو مخالف لما نص عليه أكثرهم ، من كونها ثواباُ خاصاً بأهل الإيمان . (4) معارضته لحديث صهيب الذي استدلوا به كذلك على الرؤية - بناء على حملهم النظر فيه عليها - فإنه ناصٌّ على أن حصول ذلك بعد دخول الجنة ، وأنه زيادة على ما حصل لهم من النعيم كما سبق بيانه . ( 5 ) أن غالب معتقدي الرؤية يقولون أنها تحصل بلا كيف ، وتشبيهها برؤية القمر في الحديث في قوله : ( كذلك ترونه ) ينافي هذا القول ، وكذلك ما فيه من ذكر الصورة وإنكارهم لها عندما تتغير عما عهدوها . ولأجل هذا الإشكال في الحديث ، هام القائلون بثبوت الرؤية في فهمه ، حتى أن ابن بطَّال نقل عن المهلب قوله : ( إن الله يبعث لهم ملكاً ليختبرهم في اعتقاد صفات ربهم الذي ليس كمثله شيء ، فإذا قال لهم : أنا ربكم ، ردّوا عليه لما رأوا عليه من صفات المخلوقين بقولهم : فإذا جاء ربنا عرفناه ؛ أي إذا ظهر لنا في ملك لا ينبغي لغيره ، وعظمة لا تشبه شيئاً من مخلوقاته ، فحينئذ يقولون : أنت ربنا )41. وهذا كلام إن دل على شيء فإنما يدل على الحيرة مع الإصرار على تأييد فكرة معينة ثبتت أو لم تثبت ، ويرده أمران :
وإذا حُملت الرؤية في الحديث على المعرفة انحلّ الإشكال ، وانجلى اللبس ، وزال التعارض ، اللهم إلا ما يكون من الإشكال في قولهم : ( نعوذ بالله منك ) فإن العياذ من الله لا يتصور أن يكون من مؤمن في أي موقف ، ولذلك كانت هذه الزيادة بحاجة إلى مزيد من التأمل ، ولعله من باب التمثيل لدهشتهم من هول ما يرونه في الموقف العظيم ، كما جاء في حديث التوبة ( اللهـم أنت عبدي وأنا ربك ) ، وتجدد معرفة العبد بربه بما يترآى له من الآيات التي لم يكن على بال منها من قبل أمر لا ينكر ، فغير بعيد أن يكون الحديث تمثيلاً لما يتفاعل في نفوسهم من الخواطر وهم يشاهدون مشاهد لم يألفوها ، وتنجلي لهم حقائق لم يعرفوها ، فلا غرو إذا طرأ عليهم من الاضطراب ما يطير ألبابهم ، حتى تحط على دوخة الحقيقة ، وتقر في قرار اليقين ، وما المشاهد التي يرونها والتجليات التي يعاينوها إلا من قبله سبحانه ، فهو يقلب الأحوال كما يشاء ، وفي كل حال منها تجليات لجلاله ، ومشاهد لكبريائه ، عبر عنها بالصور مضافة إليه سبحانه لأنها منه وإليه . وقد قارب هذا التفسير جماعة من مثبتي الرؤية ، ومن ذلك ما نقله الحافظ ابن حجر بقوله : ( واختلف من أثبت الرؤية في معناها ، فقال قوم : يحصل للرائي العلم بالله تعالى برؤية العين كما في غيره من المرئيات ) وهو على وفق قوله في حديث الباب ( كما ترون القمر ) إلا أنه منزه عن الجهة والكيفية ، وذلك أمر زائد على العلم . وقال بعضهم : إن المراد بالرؤية العلم ، وعبر عنها بعضهم بأنه حصول حالة في الإنسان نسبتها إلى ذاته المخصوصة نسبة الأبصار إلى المرئيات . وقال بعضهم : رؤية المؤمن لله نوع كشف وعلم إلا أنه أتم وأوضح من العلم ، وهذا أقرب إلى الصواب من الأول .. 42 وقريب من هذا تفسير الإمام الغزالي للرؤية في بعض كتبه : ومجيء الرؤية بمعنى العلم معهود لغة كما سبق نقله عن صاحب القاموس وشارحه ، ومن شواهده قوله تعالى : (ألم تر إلى ربك كيف مدَّ الظل)43 ، وقوله :(ألم تر كيف فعل ربك بعاد)ودعوى أن الرؤية لا تكون بمعنى العلم إلا إذا تعدت إلى مفعولين ، مردودة بقوله تعالى : ( فقد رأيتموه وأنتم تنظرون)48 ، وقوله : (ألم يرو كم أهلكنا من قبلهم من قرن) .ولا ريب أن في الجنة من التجليات الربانية لأصحاب السعادة ما يفوق ما يكون في مواقف القيامة ، فلا غرو إذا عبر عنها أصدق الإنس والجن ، وأبلغ العرب والعجم بالرؤية ، أو نحوها من العبارات تقريباً للأفهام ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يخاطب العرب باللسان العربي المبين الذي نشأوا عليه ، فعرفوا معانيه ، وأدركوا مراميه ، فلا تعجبوا إذا لم يشكل عليهم هذا الخطاب . وإذا كان العبد إذا أخلص لله تعالى في هذه الدار الدنيا - مع كثافة حجب طبائعها المادية المظلمة - تتراأى له في ذكره ودعائه مشاهد العظمة ، ويتكشف له من آيات الجلال ما يجعله يغيب عن وجوده ، غارقاً في عالم شهوده ، مشغولاً عن نفسه بما يمده به الحق تعالى من ألطاف الإنس ، المتراسلة من حظائر القدس ، خصوصاً في بعض الأحوال كخلوات العبادة ، وفي بعض الأزمان ، كليالي رمضان ، وفي بعض البقاع كالحرمين الشريفين ، فما بالكم بالدار الآخرة التي أعدت للمتقين ، حيث ترقى نفوسهم إلى أوج الكمال الإنساني . ولا ينكر هذه المشاهد الأُنسية في هذه الدار الدنيا إلا من حُرِم شفافية الروح ، ورقة الشعور والوجدان التي يشعر بها العبد وهو ماثل بين يدي الله تعالى ، داعيا أو ذاكرا ، حتى يكون كأنه من أنسه بربه يرى ذاته تعالى بأم عينيه ، من غير أن يتحول تعالى عن صفته الذاتية ، وهي عدم إدراكه بالأبصار ، وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المرتبة بالإحسان ، وذلك في قوله ( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) فأي عجب إذا حصل للمؤمنين الصادقين في إيمانهم ، المخلصين في عملهم ، ما هو أبلغ في الدار الآخرة من ذلك من التجليات الجلالية لعقولهم وقلوبهم ؟ وأي بدع إن عبر عن ذلك بالرؤية مع ورود مثله في اللسان العربي ؟ وبهذا يتضح المراد بالرؤية في الأحاديث ، وبه يمكن الجمع بينها وبين آيات التنزيه الناصة على منعها ، ومهما يكن فإن هذه الأحاديث آحادية ، والآحادي لا تنهض به حجة في الأمور الإعتقادية لأن الإعتقاد ثمرة اليقين ، واليقين لا يقوم إلا على الأدلة القطعية المتواترة نقلا ، النصية دلالة بحيث لا تحتمل تأويلا آخر ، والحديث الآحادي لا يتجاوز ثبوت متنه الظن ، فلذلك قال المحققون إنه يوجب العمل ولا يفيد العلم ، وإذا كانت هذه درجة الآحادي في الحجية فكيف إذا عُورض بالنصوص القطعية من القرآن ، ولذلك نحكم بسقوط الروايات الصريحة في تشبيه الخالق بالخلق إذا لم تحتمل التأويل ، لاستحالة أن يصدر ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى ، وذلك كحديث ( إذا كان يوم الجمعة نزل على كرسيه ثم حف الكرسي بمنابر من نور ، فيجئ النبيون حتى يجلسوا عليها .. الخ) فإنه مصادم للعقل والنقل ، بل هو مصادم لما يقوله معتقدوا الرؤية أنفسهم من أنه يرى بدون إحاطة ، فإنه يلزم أن يكون محاطا به قطعا إذا كان النبيون تحف منابرهم بكرسيه الذي يستوي عليه.وإذا كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم لم يقبل بعضهم ما رواه بعض منهم مما رآه مخالفا لما فهمه من مدلول الكتاب العزيز ، كما كان من عمر في رواية فاطمة بنت قيس ، وما كان من عائشة فيما رواه ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين - مع كونهم في خير القرون وأفضل العصور - فما بالكم بمن بعدهم ، وقد اختلط الحابل بالنابل ، وفشا اللبس ، وكثر التدليس ، وانتشرت البدع ، وتعددت الدسائس ، وتباعدت العصور عن العصر الكريم. هذا وقد سمعت فيما سمعت من المحاضرة المسجلة في الشريط ، التي أشرت إليها من قبل ، سخرية من المحاضر بالإباضية لعدم اعتمادهم على الأحاديث المروية في الرؤية لآحاديتها ، كأنه لم يقل بعدم الأخذ بالأحاديث الآحادية في الاعتقاد غيرهم ، وما هذه إلا سخرية من نفسه ، فإنه قد أثبت بذلك عدم معرفته بما قاله المحققون من علمائه ، ولا أريد إلا أن أنقل هنا بعض نصوصهم في ذلك ، من غير أن أشرك نصا لأحد من علماء الإباضية:
وإذا كان هذا موقف حجية الآحادي في الأمور الفرعية العملية فكيف بالاعتقاد ، بل كيف تكون حجيته مع معارضته للقطعي المتواتر ، وقد قال هذا الإمام نفسه "وإذا كان من علل الحديث المانعة من وصفه بالصحة مخالفة راويه لغيره من الثقات فمخالفة القطعي من القرآن المتواتر أولى بسلب وصف الصحة عنه"57. وما قاله هنا هو الذي يقتضيه كلام علماء المصطلح في الاستدلال على وضع الحديث ، بل هو الذي يستفاد من صنيع الصحابة رضوان الله عليهم في قبول الروايات أو رفضها كما تقدم ، ومع مبالغة أهل الحديث في التعويل على أخبار الآحاد في أمور الدين وإنكارهم على من لم يأخذ بها ، نجد البخاري يقيد ذلك بالفروع حيث يقول : " باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام"58.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الفصل الثالث- في أدلة النافين لرؤية الله سبحانه وتعالى | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أدلة النافين للرؤية القسم الأول : الأدلة العقلية أما العقلية : فتتلخص في أن الله سبحانه كان قبل خلق الوجود كله ، ولم تتحول ذاته ، أو تتبدل صفاته بعد الخلق عما كانت عليه قبله ، فلا تتصل ذاته سبحانه بشيء من مخلوقاته كما أنها لا تنفصل عنها ، لأن كل ذلك من صفات الحوادث ، ومن ثم كان إدراك كنهها مستحيلا عقلاً ونقلاً ، وإنما غاية المعرفة بها الشعور بالعجز عن إدراك كنهها ، كما قيل "العجز عن الإدراك هو الإدراك". والرؤية البصرية المعهودة هي انطباع صورة المرئي في حدقة الرائي بقوة الذبذبات الضوئية الملتقطة للصور ، ولها شروط 1
وقد اعترض على هذا الاستدلال بأن هذه الشروط إنما هي في رؤية الشاهد ، ولا يجوز أن تحمل عليها رؤية الغائب. وأجيب بأن الرؤية المعهودة عند الناس هي هذه ، ولا فرق في ذلك بين الشاهد والغائب ، على أن مثبتي الرؤية أنفسهم قاسوا الغائب على الشاهد في باب الصفات ، فما بالهم يفرُّون هنا مما لجأوا إليه هنالك. ولا يرد على هذا أن الله يرى مخلوقاته من غير أن تكون رؤيته مقيدة بشيء مما ذكر ، لأنه سبحانه مخالف لمخلوقاته في كل شيء فهو يرى لا كما يرون . كما أنه يسمع لا كما يسمعون ، ويعلم لا كما يعلمون ، ويقدر لا كما يقدرون ، ويفعل لا كما يفعلون ، والمخلوقون وإن اختلفت أحوالهم لا يتجاوزون حدود المخلوقية ، ولا يتصفون بشيء من صفات الخالق دنيا ولا أخرى.
الفصل الثالث أدلة النافين للرؤية القسم الثاني : الأدلة النقلية وأما النقلية : فبعضها من الكتاب ، وبعضها من السنة. أما من الكتاب فهي كما يلي :
وأما من السنة فيما يلي
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
خاتمة بعد هذا العرض لموضوع رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة ، واستعراض أدلة النافين والمثبتين ، وما يتوجه إليها من اعتراض ، وما يعقبه من جواب ، لا أظنك أيها القارئ الكريم تشك في أن نفاتها لم يأخذوا إلا بالأقوى والأسلم والأحزم ، فإن ذلك واضح بوضوح حججهم ، وسلامة قولهم من التأثر بالذين سألوا الرؤية من اليهود والمشركين ، وناهيك أن ذلك أسعد بمقتضى القاعدة الأصيلة في صفات الله تعالى ، وهي عدم مشابهته لمخلوقاته ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) وإن كنت لم تقتنع بما ذكرته ، فلا أقل من تقتنع بأن أصحاب هذا القول متمسكون بأصل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فلا وجه لتكفيرهم أو تضليلهم وقطع الحبال الواصلة بينهم وبين الأمة الإسلامية ، وقبل أن أغادر هذا الموضوع أود أن أضع بين يديك أمرين اثنين لعلهما يحظيان بتفكيرك وتأملك :
لا أظنك أخي القارئ إذا تأملت هذين الأمرين ، مع ما سبق تحريره في هذا البحث ، تشك في استحالة رؤيته تعالى وسلامة معتقد منكريها ، ولا أريد أن أطيل عليك فوق هذا ، فإن اللبيب يستجلي الحقائق من ومضاتها ( ومن لم ينفعه قليل الحكمة ضره كثيرها ) .. |