الحق الدامغ
لسماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي مفتي عام السلطنة

المبحث الثاني

في خلق القرآن

 

مقدمة المبحث الثاني

التعريف بالخلق وبالقرآن
والتفرقة بين القرآن وسائر الكتب المنزلة وبين الكلام النفسي

الخلق هو الإبداع على غير سبق مثال ، وفي اصطلاح أصحاب الديانات هو إخراج الشيء من العدم إلى الوجود ، وبهذا المفهوم هو فعل من أفعال الله تعالى الخاصة به التي لا يجوز أن تصدر عن غيره ، وما ورد في القرآن الكريم من نحو ( وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير )1 ، فهو حكاية لقصة طرأت قبل تخصيص العرف الشرعي معنى الخالقية بالله عز وجل .

والقرآن هو الكلام المنزل بحروفه وكلماته على النبي محمد صلى الله عليه وسلم المعجز بتراكيبه ومعانيه المنقول عنه بالتواتر القطعي . فالكلام جنس وما عداه فصل مخرج لغير المقصود ، فخرج ( بالمنزل ) كلام البشر المعتاد منثوراً كان أو منظوماً ، فإن الله يخلقه في أدمغتهم ويجريه على ألسنتهم ، وخرج بقيد ( بحروفه وكلماته ) ما كان من الأحاديث النبوية فإن صوغه من الحروف والكلمات راجع إلى الأنبياء الناطقين بتلك الأحاديث ، إذ لم تنزل عليهم ألفاظها وإنما أُنزلت عليهم معانيها ، وخرج بقيد تنزيله على النبي محمد صلى الله عليه وسلم سائر الكتب السماوية التي أُنزلت على غيره من النبيين ، كصحف إبراهيم وصحف موسى والتوراة والإنجيل والزبور ، وخرج بقيد الإعجاز الأحاديث القدسية الربانية على فرض نقلها بالتواتر فإنها لم تنزل للإعجاز كالقرآن ، وخرج بقيد النقل التواتري القراءات الشاذة فإنها لا تعطى أحكام القرآن .

وأما الفرق بين الكلام النفسي وبين القرآن وسائر الكتب المنزلة فهو أن الكلام النفسي صفة ذاتية لله تعالى يثبت بها كماله عز وجل ، وينفي بها عنه النقص ، ذلك لأن إثبات الكلام نفي لضده وهو الخرس ، كما أن إثبات العلم نفي للجهل وإثبات القدرة نفي للعجز ، وإثبات السمع نفي للصمم ، وإثبات البصر نفي للعمى ، وإثبات الحياة نفي للموت .

وذهبت المعتزلة إلى عدم الضرورة إلى إثبات صفة أزلية لله تسمى كلاماً إكتفاء منهم في نفي الخرس عنه سبحانه بصفة القدرة ، ولعل بعض أصحابنا يرون هذا الرأي ، وأصحابنا الذين أثبتوا الكلام النفسي اتفقوا مع الأشعرية في كونه يختلف عن سائر الكلام فهو ليس حروفاً ولا أصواتاً ، ولا جملاً ولا كلمات تقوم بذاته عز وجل ، إذ ليس المراد به إلا انتفاء صفة الخرس عنه سبحانه .

والمعتزلة الذين اكتفوا بإثبات صفة القدرة له تعالى عن إثبات الكلام الأزلي راعوا أن الصفات الذاتية لا يراد بها إلا نفي أضدادها ، وليس الكلام ضداًّ للخرس حتى ينتفي الخرس بإثباته ، وإنما ضده السكوت فقد يكون غير المتكلم غير أخرس ولا يكون غير ساكت .

وقد أجاد الإمام ابن أبي نبهان رحمهما الله في تقرير معنى الكلام العاري عن الأصوات والحروف بما تستسيغه الأفهام وتستمرئه الأفكار ، حيث قال ما حاصله:2 إذا أردت أن تدرك حقيقة هذا الكلام فانظر إلى سلطان جوارحك وحاكم جسدك ، وهو الجهاز العصبي الذي هو مركز العقل والتدبير - تجده يأمر وينهي في مملكته - وهي سائر جسدك - بكلام تؤديه الوسائط التي جعلها الله بينه وبين أعضاء الجسم وغُدده وخلاياه . ولا تكاد حجيرة في الجسم يصل إليها شيء من الأوامر والنواهي إلا وتبادر فوراً إلى الامتثال ، وذلك لما أودع الله في هذا السلطان من قوة غيبية وسرٍّ خفي ، فإذا كانت هذه الآية تتجلى في مخلوقات الله سبحانه فما بالك بالخلاق العليم الذي لا ينفلت شيء في الكون من قبضته ، ولا تخرج صغيرة ولا كبيرة عن قهره وتدبيره ، وذلك هو المراد بقوله سبحانه : (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون)3

وإطلاق الكلام على مثله مما لم يكن مسموعا ولا مقروءا معهود عند العرب ، ومنه قول الأخطل

لا يعجبنك من خطيب خطبة     حتى يكون مع الكلام أصيلا
إن الكلام لفي الفؤاد وإنمـا    جعل اللسان على الفؤاد دليلا

وأما الكتب المنزلة فهي كلام منتظم من الحروف الهجائية ، مقروء بالألسن ، مكتوب في الألواح ، محفوظ في الصدور ، مسموع بالآذان ، أوحاه الله بواسطة الملك إلى من اصطفاه من عباده ، ويتميز عن سائر الكلام بكونه لم ينشأ عن ملكات البشر ، وإن كان متألفاً من نفس الحروف التي يتألف منها كلامهم ، ومتركباً من نفس الكلمات التي يتناولونها في خطابهم ، لكل جزء منه بداية ونهاية ، وقد أودع الله فيهم القدرة على تلاوته وسماعه وكتابته وحفظه ، غير أنه لا يجوز مع ذلك كله أن يضاف إليهم أو إلى أحد منهم ، لأن الله وحده أخرجه بقدرته من العدم إلى الوجود ، ثم أنزله بعلمه من اللوح المحفوظ إلى قلوب أنبيائه وأذهان الذين أكرمهم بحفظه من عباده.

وقد اختص الله بعضه - وهو القرآن - بما نفخ فيه من روح غيبية ، فحارت فيه الألباب ، بما تجلى لها فيه من سر ربوبيته تعالى ، كما هو شأن الله تعالى في خلقه الإنسان من تراب ، وجعل صحته تحار منها الألباب ، بما أودعه الله من ملكات حسية ومعنوية ترجع إلى هذا السر الغيبي وهو نفخ الله فيه من روحه.

وقد أجاد الإمام ابن أبي نبهان رحمهما الله ببيانه وجه إضافة هذا الكلام إليه تعالى ، حيث قال ما معناه : "أرأيتم لو أن الله تعالى أراد أن يخاطب عباده بأبلغ الكلام وأصدقه ، من غير هذا الذي أنزله عليهم ، أليس بقادر على أن يخلقه مكتوبا بقلم قدرته في اللوح المحفوظ ، ويأمر أحد ملائكته في السماء أن ينزل به على قلب أحد عباده في الأرض ، ليبلغه إلى الناس ويأمرهم بتلاوته وكتابته والعمل بمحتواه ، لا ريب أن كل من آمن بالله لا يشك في قدرته على ذلك ، وإذ تبين لكم إمكان هذا ، أرأيتم إلى من يضاف هذا الكلام ؟ أيقال هو كلام الناس الذين يتلونه أم كلام الرسول الذي بلغه إليهم أم كلام الملك الذي نزل به ، أم كلام اللوح الذي سطر فيه ، أم كلام القلم الذي كتبه ، أم كلام الخالق العظيم الذي أخرجه من العدم إلى الوجود ؟ إنه لمما يتبادر لكل عاقل أنه لا يجوز أن يضاف حقيقة إلا إليه تعالى"4

وجاء شيخ الإسلام المحقق الخليلي رحمه الله تعالى بنحو هذا البيان ، وقال في آخره : وأما نسبته إلى الله تعالى مع كونه متلوًّا لنا من نطق ألسنتنا ، بأصوات وألحان ونغمات ، بأحرف وكلمات من ألفاظنا ، فالأصل فيه أن كل قول ينسب إلى من قاله لا إلى من قرأه ولحن به ، وبيانه لو أن أحدا قال في معلقة امرئ القيس أو قصائد أبي تمام أو البحتري أو غيرهم إنها من كلامه ، ونسبها إلى نفسه إذ قرأها ، لكان ذلك منه خطاً فاحشا . أو كما تجد الآثار المنسوبة إلى أهل العلم فتنسبها لقائلها منهم ، ولو لم تسمع نطقه بها ، ويحتمل في كاتبها أنه لم يلفظ بها أصلا ، أو كما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل : (أنشدني أبياتك التي قلتها البارحة ولم ينطق بها لسانك ولا سمعتها أذناك) فقال الرجل : أنا أشهد أنك رسول الله ، ولقد قلتها ولم ينطق بها لساني ولا سمعتها أذناي ثم أنشده إياها ، فالقرآن على أي وجه كان قد أنشأه الله إنشاءاً تحدىّ به البلغاء وأعجز به المصاقع الخطباء فلا ينسب إلا إليه"5.

ونحن عندما نتحدث عن خلق القرآن ، فإنما نتحدث عن هذا القرآن المتلو بالألسن المكتوب في المصاحف السابق تعريفه ، ولسنا نتحدث عن الكلام النفسي ، إذ لم يقم شاهد من الكتاب نفسه ولا من السنة على تسميته قرآنا ، وإنما اصطلحت الأشاعرة على تسميته بذلك ، ولا مشاحة في الاصطلاح ، غير أنهم لم يستندوا في اصطلاحهم هذا على شيء ثابت سماعه ، فلذلك لم نعول عليه ، ونحن نثبت لله صفة الكلام كما قال الإمام ضياء الدين عبد العزيز الثميني رحمه الله في معالمه : "إعلم أن الكلام يضاف تارة إلى الله تعالى على معنى نفي الخرس فيكون صفة ذات على ما أمر في الصفات ، وتارة يضاف إليه على معنى أنه فعل له ، فيكون فعلاً من أفعاله سبحانه ، فمعنى كونه متكلما على الأول أنه ليس بأخرس ، وعلى الثاني أنه خالق الكلام "6.

ومما يجب أن يستقر في الأذهان عند الحديث عن خلق القرآن ، أنه لا يقصد بالقرآن علم الله بما أنزله من كتبه على رسله ، فإنه لا يماري أحد في قِدم علمه تعالى بهذه الكتب ، إلا الذين قالوا بحدوث صفاته سبحانه ، ولا يعبأ بهم ، غير أن قِدم العلم لا يقتضي قِدم المعلوم ، فالله سبحانه عليم بكلام البشر علما أزليا ، كما أنه عليم بكلامه ، وعليم بكل مخلوقاته ، فهو عليم بما كان وما يكون وما لم يكن أن لو كان كيف يكون ، ولكن لا يستلزم ذلك قِدم شيء من هذه المعلومات بحال ، ولذلك قال بعض السلف القرآن حادث ، وعلم الله به قديم ، وفي هذا يقول المحقق الخليلي رحمه الله7 : "وقد كان علم الله الذي هو من صفات ذاته ولا توراة معه ولا إنجيل ، ولا زبور ولا صحف ولا قرآن ، وهو الآن على ما هو عليه كان ، لأن الصفات الذاتية لا يجوز عليها التكثر ولا التبديل ، ولا التغير أصلا ، وإنما تختلف آثارها ومدلولاتها وتكثر أو تقل بحسب التجدد والحدوث معلوماتها ، والآثار كلها مخلوقة ، قال الله تعالى بـ (فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيى الأرض بعد موتها)8

فالكتب المنزلة إنما هي في الحقيقة مدلولات علمه الذي هو من صفات ذاته سبحانه وتعالى ، لا هي نفس صفة العلم الذي هو صفة لذاته القديمة وإلا لكان التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى والقرآن وجميع الوحي كله قديما موجودا في الأزل مع الله تعالى بهذه الألفاظ المخلوقة المحدثة على كثرتها ، فيكون كثير من المخلوقات قديما موجودا في الأزل مع الله القديم الأزلي ، وهذا باطل إذ لا قديم سواه ، وكل شيء غيره حادث ولا يمكن أن يكون القرآن مثلا قديما معه بلا وجدان صورته مكتوبا أو متلوا بألفاظه وكلماته ، لأنه من القول بوجدان حقيقة لم توجد ، وهو محال ، فعلم ضرورة أن القديم الذاتي علمه بالقرآن والتوراة والإنجيل ، كما أن علمه بغيرهن من الكائنات قديم أيضا ، لأنه صفة ذاتية للقديم الأزلي الواجب الوجود سبحانه وتعالى ، وهذا ما لا يجوز الاختلاف فيه أبدا"9.

ومما تقدم يتضح للقارئ الكريم الفرق بين الكلام النفسي والكلام الموحى به إلى العباد ، كما يتضح الفرق بين الوحي وعلم الله به ، ويتضح كذلك وجه إضافة هذا الكلام الموحى إلى الله تعالى وحده ، وعدم جواز إضافته ، إلى غيره تعالى ، اللهم إلا أن يكون ذلك تجوزا كما أضافه سبحانه إلى جبريل في قوله : (إنه لقول رسول كريم)10


الهوامش والتعليقات

الآية 110 من سورة المائدة

1
قاموس الشريعة ج3 ص239 ، ط2 وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان ، بتصرف وإيضاح 2

الآية 40 من سورة النحل

3

المرجع السابق بتصرف وإيضاح

4

تمهيد قواعد الإيمان ج2 ص10/11 ، ط1 وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان

5

معالم الدين ج2 ص9 ، ط1 وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان

6

تمهيد قواعد الإيمان ص 9 و 10 ، ط1 وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان

7

الآية 50 من سورة الروم

8

تمهيد قواعد الإيمان ص 9 و 10 ، ط1 وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان

9

الآية 40 من سورة الحاقة و الآية 19 من سورة التكوير

10

الفصل الأول

إختلاف الأمة في قِدَمِ الكلام أو حدوثه

من القضايا التي شغلت بال الأمة وأحدثت بينها شقاقاً كبيرا ، ووزعت طوائفها عزين ، قضية كلام الله تعالى المنزل ، هل هو حادث أو قديم ؟ وقد جرَّهم هذا الخلاف إلى الحديث عن الكلام النفسي والخوض فيه ، والتنازع بين إثباته ونفيه ، ولست أريد في هذه العجالة أن أحشر أقوال المختلفين ، وأسرد ما لكل قول أو عليه من حجة وبرهان ، اللهم إلا ما يضطرني إليه التمهيد لشرح ما نقمه الناقمون على الإباضية من القول بخلق القرآن المنزل على سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.

وقد مر بك أيها القارئ الكريم في مقدمة هذا المبحث ، أن من طوائف هذه الأمة من ينكر الكلام النفسي رأسا - وهم المعتزلة - اكتفاءً في نفي الخرس عن الله بإثبات صفة القدرة ، كما مر بك أن أصحابنا والأشعرية وجمهور الأمة متفقون على إثباته ، ولعلك استوضحت تفرقة أصحابنا بينه وبين القرآن وسائر الكتب المنزلة ، مما نقلته عن صاحب المعالم وعن الإمام ابن أبي نبهان ، كما أرجو أن تكون قد استوضحت الفرق بينه وبين علم الله به ، مما نقلته لك عن المحقق الخليلي.

هذا وقد التبست هذه الفروق على كثير من الناس ، فأدى بهم ذلك إلى النزاع والشقاق في القرآن ، هل هو مخلوق أو غير مخلوق ؟ وقد أشعل نار هذه الفتنة بعض الدخلاء في الأمة الذين تقمَّصوا الإسلام لحاجات في نفوسهم أرادوا قضاءها ، أهمها إذكاء نار الفتنة بين طوائف الأمة ، وتقسيمها إلى شيع وأحزاب (كل حزب بما لديهم فرحون) ولعل على رأس هؤلاء أبا شاكر الديصاني الذي قيل عنه إنه يهودي تظاهر بالإسلام كما كان من سلفه بولس اليهودي الذي مزق أتباع المسيح عليه السلام بما أججه بينهم من نار الخلاف.

وكان الرعيل الأول من السلف الصالح مضى إلى ربه قبل أن تسمع آذانهم طنينا من القول في هذا الموضوع ، وإنما كانوا مجمعين على أن الله خالق كل شيء وأن ما سواه مخلوق ، وأن القرآن - كسائر الكتب المنزلة - كلام الله ووحيه وتنزيله ، وهذا الذي اتفقت عليه كلمة علماء المسلمين بعمان في عهد الإمام المهنا بن جيفر ، بعدما غشيتهم موجة من الخلاف في هذه القضية بعد أن طمي عبابه وهاجت عواصفه بمدينة البصرة الحافلة بمختلف التيارات الفكرية آنذاك وكانت للعُمانيين صلة وثيقة بها بحكم العلاقات الثقافية والاقتصادية التي تربطهم بها ، وليتهم وقفوا عند هذا الحد ، بل ليت المسلمين جميعاً اكتفوا بهذا القدر من الاعتقاد والقول في هذا الموضوع ، ولكن استحكمت في القضية أهواء وحكمت فيها العواطف الهوجاء ، التي أشعلت سعير هذه الفتنة الذي اصطلى المسلمون أواره.

ومرد ذلك كله إلى الغلو ، فإن من شأن المغالاة أن تدعوا إلى ضدها ، وكانت بداية ذلك منابذة أهل الحديث ومن سار في ركبهم لأصحاب المدرسة العقلية من المعتزلة وغيرهم ، واستعداء السلطات عليهم ، وتأليب الناس ضدهم ، وعندما دالت الدولة للمعتزلة في أواخر أيام المأمون ثم المعتصم انتهزوا فرصتهم للتشفي والانتقام من أهل الحديث ، فأسرفوا في التقتيل والتعذيب ، فامتلأت الصدور بالأحقاد ، وأخذت القضية مجرى عاطفيا في البحث ، وأخذ كل فريق يندد بالفريق الآخر ويكيل له التهم ، ويرميه بالبدعة والانحراف.

وبما أن أصحابنا أهل الاستقامة لم يشتركوا في شيء من تلك الفتن ، ولم يلتبسوا بهاتيك الإحن ، لم يقعوا تحت تأثير العواطف ، فكان بحثهم في القضية موضوعيا صرفا لأنهم انطلقوا فيه من قاعدة الحجة والدليل لا من واقع السخائم والأحقاد.

أما أهل المغرب منهم فلبعدهم عن تلك الأحداث لم يترددوا في إعلان القول الصحيح من أول الأمر ، إظهاراً للحق ، واستنادا إلى الحجة ، وأما أهل المشرق فقد حاول إمامهم الأكبر محمد بن محبوب رحمه الله أن يعلن ما أعلنه إخوانه أئمة وأعلام الجناح المغربي غير أن محمد بن هاشم اشتدت معارضته له في ذلك فانثنى عنه واتفقت كلمتهم على ما ذكرته سابقا عندما اجتمعوا في مدينة دما (السيب حاليا) وهو الاكتفاء بما كان عليه سلف الأمة ، وقصر القول عن التصريح بخلق القرآن أو عدمه.

ولا أراهم وقفوا هذا الموقف الصامت إلا سدا للذريعة وتجنبا لمشايعة الظالمين ، فإنهم رحمهم الله من أرسخ مبادئهم وأبرز سماتهم مناهضة الظلم ومصارعة الظالمين ، من غير التفات إلى من صدر منه الظلم أو من وقع عليه ، وكانت الأنباء تترادف إليهم بما يتعرض له أبناء الأمة - من أبشع الظلم وأشنع القسوة - في العاصمة العباسية التي كانوا على مقربة منها ، فكانوا كأنما يحسون بأنينهم وسياط الظالمين تلذع ظهورهم وبشهيقهم وصوارمهم ، تفصل رؤوسهم عن أجسادهم ، فلم يكن لهم - وهم دائماً ثائرون على الظلم ، منابذون للظالمين ، وقد رقق الإيمان قلوبهم وطهر مشاعرهم من الأحقاد - إلا أن يقفوا هذا الموقف لئلا تجد السلطة الظالمة من قولهم ما يبرر صنيعها ، وقد جعلت من الدين جسرا تعبر به إلى ما تهواه من سفك الدماء وإزهاق الأرواح وتعذيب الأجساد ، فلله تلك الأنظار الثاقبة ، والبصائر النيرة ، والسرائر النقية.1

وقد خفي هذا البعد في التفكير عن أبصار الذين جاءوا من بعد هؤلاء ، فحسبوا أن امتناعهم عن التصريح بخلق القرآن لأجل قدمه ، فصرحوا بخلافه وتحاملوا على من قال بخلقه ، وأدى بهم ذلك إلى تناقض عجيب ، يظهر لك عندما تقرأ ما كتب في هذا الموضوع في تلك الحقبة من الزمن ، كالجزء الأول من بيان الشرع ، والجزء الأول من الكشف والبيان ، وديوان الإمام ابن النضر .

وكثيراً ما تلمس فيما كتبوه أثر ما كان عقب تلك المحنة من ردة فعل عنيفة تبلورت فيما كتبه الكاتبون عنها ، وإظهارهم للمنكوبين فيها بأنهم أبطال الأمة وشهداء عقيدتها الحقة ، الذين حموها بدمائهم وصانوها بتضحياتهم ، وقد انعكس أثر هذا المنطق العاطفي الجياش على كل ما دونه المؤيدون لهم في تلك الوقفة التي وقفوها . سواء كان هؤلاء المؤيدون من مشارقة الإباضية أو من الأشعرية أو من غيرهم ، وقد استمرت هذه الفكرة في الوسط الإباضي المشرقي حتى برز من علماء عمان المتأخرين من فتحوا بتحريرهم أقفال الأشكال ، وأزاحوا ببيانهم أستار الشبه فإذا بالموقف المشرقي الإباضي يلتحم مع الموقف المغربي ويتحد .

وقد استقريت أسباب اللبس في هذه المسألة ، حتى اشتد نكير طائفة من المسلمين على من قال بخلق القرآن فوجدته يعود إلى أمرين اثنين

إلتباس القرآن المنزل في أفهامهم بالكلام النفسي الذي يراد به نفي الخرس

أولهما

إلتباسه بعلم الله سبحانه وتعالى به ، مع أن صفتي الكلام والعلم قديمتان

ثانيهما

وما مر بك في المقدمة من التفرقة بين الكلام المنزل والكلام النفسي ، وبينه وبين علم الله سبحانه كاف في رفع هذا اللبس وتبديد هذه الشبهة ، وأضيف إلى ذلك أن التكلم لغة وعرفا لا يكون إلا بمعنى إحداث الكلام ، فإذا قلت تكلم محمد لم يفد قولك هذا إلا أنه أحدث كلاما في زمن مضى ، وإذا قلت يتكلم فلا يدل إلا على إحداثه الكلام في الزمن الحاضر أو المستقبل لأن المضارع صالح لهما ، وإذا قلت : تكلم يا فلان لم يدل إلا على طلب المخاطب بإحداث الكلام .

ولا يعني قولك هذا بأي صيغة من صيغه الثلاث الإخبار عن كون الكلام صفة قائمة بذات المتكلم أو المطلوب منه التكلم ، وإلا فما معنى قولك لغيرك تكلم إن كان الكلام المطلوب قائما به ، وهل هذا إلا تحصيل حاصل ؟ وهذا لا ينافي استحضاره للكلام قبل أن يتكلم به ، لأن مفهوم الكلام النفسي يختلف عن مفهوم الكلام اللفظي ، وبجانب ذلك فإن من الواضح بداهة أنك إن أخبرت عن أحد بأنه تكلم يوم الجمعة أو سيتكلم يوم السبت ، لم يفد ذلك لغة ولا عرفا أنه كان متكلما بذلك الكلام الذي تكلم به أو سيتكلم به قبل ذلك التوقيت ، وقد خاطب الله عباده بلغتهم التي يعرفونها ومفاهيمهم التي يألفونها ، فإذا أخبرهم أنه كلم أحداً من خلقه في وقت ما ، لم يفد إخباره هذا إلا أنه أحدث التكليم في ذلك الوقت ، فلا وجه لجعل ذلك الخطاب الذي سمعه المكلم أو قرأه صفة أزلية قائمة بذات الله تعالى ، نعم هو معلوم لله سبحانه منذ الأزل كعلمه بكلام خلقه حروفه وكلماته ، جُمَلِهِ ومفرداته ، ألفاظه ومعانيه ، مخارجه ومقاطعه ، أصواته وصفاته .

وأما قول ابن القيم "وقد دل القرآن وصريح السنة ، والمعقول وكلام السلف على أن الله سبحانه يتكلم بمشيئته ، كما دل على أن كلامه صفة قائمة بذاته وهي صفة ذات وفعل" . قال تعالى : (إنما قولنا لشيءٍ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون)2 ، وقوله : (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون)3 ، فإذا تخلص الفعل للاستقبال ، وأن كذلك ، و (نقول) فعل دال على الحال والاستقبال ، و(كن) حرفان يسبق أحدهما الآخر ، فالذي اقتضته هذه الآية هو الذي في صريح العقول والفطر ، وكذلك قوله : (وإذا أردنا أن نهلك قريةً .. الآية)4 ، سواء كان الأمر هاهنا أمر تكوين أو أمر تشريع فهو موجود بعد أن لم يكن ، وكذلك قوله : (ولقد خلقناكم ثم صوَّرناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم)5 ، وإنما قال لهم (اسجدوا) بعد خلق آدم وتصويره ، وكذلك قوله تعالى : (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلَّمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني .. الآيات)6 ، فكم من برهان يدل على أن التكلم هو الخطاب وقع في ذلك الوقت ، وكذلك قوله : (فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن)7 ، والذي ناداه هو الذي قال له : (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني)8 ، وكذلك قوله : ( ويوم يناديهم فيقول)9 ، وقوله : (ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون)10 ، وقوله : (يوم نقول لجهنم .. الآية)11 ، ومحال أن يقول سبحانه لجهنم (هل امتلأت) و (تقول هل من مزيد) قبل خلقها ووجودها ، وتأمل نصوص القرآن من أوله إلى آخره ، ونصوص السنة ، ولاسيما أحاديث الشفاعة وحديث المعراج ، وغيرها كقوله : (أتدرون ماذا قال ربكم الليلة) وقوله : (إن الله يحدث من أمره ما يشاء ، وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة) وقوله : (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ولا حاجب).

وقد أخبر الصادق المصدوق أنه يكلم ملائكته في الدنيا ، فيسألهم كيف تركتم عبادي ، ويكلمهم يـوم القيامة ، ويكلم أنبياءه ورسله وعباده المؤمنين يومئذ ، ويكلم أهل الجنة في الجنة ، ويسلم عليهم في منازلهم ، وأنه كل ليلة يقول : (من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له ، من يقرض غير عديم ولا ظلوم) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الله أحيا أباك وكلمه كفاحا" ومعلوم أنه في ذلك الوقت كلمه ، وقال له تمن عليّ إلى أضعاف أضعاف ذلك من نصوص الكتاب والسنة" .. الخ كلامه12.

فهو كله حجة لنا على صحة ما قررناه ، من أن المراد بتكليم الله سبحانه إحداثه للكلام في الوقت الذي يكون فيه ، وإلا فما معنى تقييد تكليمه بالليل أو النهار أو الدنيـا أو الآخرة أو غير ذلك من الأزمنة ، لو كان هذا الكلام نفسه أزليا .

والفارق بين إحداث الله لكلامه ، وإحداث العبد لكلامه أمران

ما يفرق به بين أفعال الله وأفعال العباد من حيث إن العبد لا يستقل بإيجاد فعله استقلالا تاما ، وإنما له منه جانب الكسب والله هو الخالق له ، والثواب والعقاب مترتبان على كسب العبد لا على خلق الخالق ، فكلام المخلوق - كسائر أفعاله - مخلوق لله عز وجل ، وليس للمخلوق منه إلا الاكتساب ، ولا يستنكر أن يخلق الله للعبد كلاما في نفسه ثم يجريه باختياره على لسانه ، كما لا يستنكر أن يخلق الله في العبد حركة من الحركات ثم يجريها باختياره على العضو المتحرك منه ، أما كلام الله فهو كسائر أفعاله - من إيجاد وإعدام ، وعطاء ومنع ، ورفع وخفض ، وبسط وقبض ، وإحياء وإماتة - لا دخل لأحد من خلقه فيه

أولهما

تفاوت صفتي تكليم الحق وتكليم الخلق ، كما تباين أفعاله تعالى أفعال خلقه ، كتعليمه سبحانه لعباده ، فإنه إما أن يكون إلهاما يقذفه في صدور من اختصهم به ، ومنه (وعلم آدم الأسماء كلها)13 ، و (وعلمك ما لم تكن تعلم)14 ، (علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم)15 ، وإما أن يكون وحيا يوحيه بواسطة رسله ، وهو داخل في تعليم الإنسان ما لم يعلم ؛ وأما تعليم الناس بعضهم لبعض فهو بالتلقين والتدريب .

ثانيهما

وكذلك يتفاوت مدلول النصر إذا أسند إلى الله عما إذا أسند إلى العباد ، فإن نصر العباد بعضهم لبعض بالمؤازرة بالنفس أو المال أو الجند ، ونصر الله لعباده هو خلق أسباب انتصارهم وتهيئتها لهم ، ومنه قوله تعالى : (ولقد نصركم الله ببدر)16 ، وقوله : (ولينصرن الله من ينصره)17 ومثله العطاء فإنه يسند إلى الله وإلى العباد ، ويتفاوت مدلوله في الإسنادين .

وبهذا تدرك تفاوت صفتي التكليم باختلاف إسناده ، فإنه إن أسند إلى الخالق كان له مدلول يختلف عما إذا أسند إلى المخلوقين ، فإنه إن أسند إلى المخلوق المعهود - وهو الإنسان - دل على عملية تشترك فيها مشاعره الظاهرة والباطنة ، ودماغه ورئتاه ، وقصبته الهوائية وشعبه ، وحنجرته ، وحلقه ، ولسانه ، وأسنانه وشفتاه مع الطاقة الهوائية المرتفعة من الرئتين ، والدافعة للصوت ، وهو بهذا المفهوم مستحيل على الله سبحانه ، فلا يجوز أن يفسر تكليمه تعالى بهذا المعنى ، وقد بين لنا تعالى صفة تكليمه لعباده حيث قال : (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب ، أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء)18 ، وناهيك أن سبحانه جعل الوحي تكليما منه ، مع أنه إلهام يختص به تعالى من شاء من عباده ، وهو أمر متعذر كونه بين إنسان وإنسان آخر مثله ، إذ لا مقدرة للبشر على الإلهام ، ولو حصل مثله في الناس لما انطبق عليه معنى التكليم المعهود بينهم لغة ولا عرفا .

وإذا عرفت ذلك اتضح لك جواز أن يكون التكليم من وراء حجاب إذا أسند إلى الله ، بمعنى خلق صوت مسموع لا يصدر عن شيء ، ينبئ عن مراد الله ، ويتلقفه سمع من اختصه الله بالتكليم ، وعلى هذا يحمل تكليم الله لموسى عليه السلام ، وهو أحد الاحتمالين اللذين ذكرهما الإمام الطاهر ابن عاشور - وهو مالكي المذهب أشعري العقيدة - في تكليم الله لملائكته حيث قال :

"وكلام الله للملائكة أطلق على ما يفهمون به إرادته ، وهو المعبر عنه بالكلام النفسي ، فيحتمل أنه كلام سمعوه ، فإطلاق القول عليه حقيقة ، وإسناده إلى الله لأنه خلق ذلك القول بدون وسيلة معتادة ، ويحتمل أنه دال آخر على الإرادة فإطلاق القول عليه مجاز لأنه دلالة للعقلاء ، والمجاز فيه أقوى من المجاز الذي في نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم : (إشتكت النار إلى ربها) وقوله تعالى : (فقال لها وللأرض أتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين)19 ، ولا طائل في البحث عن تعين أحد الاحتمالين"20

ومثله قوله - في تعليم آدم الأسماء "وتعليم الله آدم الأسماء إما بطريقة التلقين بعرض المسمى عليه ، فإذا رآه لقن اسمه بصوت مخلوق يسمعه .. الخ"21

وقد اتضح لك مما نقلته سابقا من كلام الإمامين ابن أبي نبهان والخليلي رحمهما الله وجه كون القرآن الكريم وغيره من الكتب المنزلة كلام الله مع كونه مخلوقا له سبحانه ، وسقوط شبهة القائلين بقدمه المتشبثين بقوله تعالى : (فأجره حتى يسمع كلام الله)22 ، وهذا هو الذي استقر عليه اعتقاد أصحابنا الإباضية ، وقال به كثير من الأشعرية ، حتى أن المحقق الخليلي رحمة الله عليه قال : "قد اتفقنا نحن والأشعرية أنه مخلوق وصرح بذلك الشيخ أبو سعيد ، ومحمد بن محبوب رحمهما الله ، واتفق عليه أصحابنا المغاربة وفاقا للمعتزلة ، ولا منكر لذلك فيما قيل إلا بعض الحنابلة"23

وممن صرح بخلقه من الأشعرية الفخر الرازي ، وحكى غير مرة اتفاق العقلاء عليه ، ومن ذلك قوله في مقدمة تفسيره الكبير : "الكلام الذي هو متركب من الحروف والأصوات ، فإنه يمتنع في بديهة العقل كونه قديما لوجهين 24

أن الكلمة لا تكون كلمة إلا إذا كانت حروفها متوالية ، فالسابق المنقضي محدث لأن ما ثبت عدمه امتنع قدمه ، والآتي الحادث بعد انقضاء الأول لاشك أنه حادث

الأول

أن الحروف التي منها تألفت الكلمة إن حصلت دفعة واحدة لم تحصل الكلمة لأن الكلمة الثلاثية يمكن وقوعها على التقاليب الستة ، فلو حصلت الحروف معا لم يكن وقوعها على بعض تلك الوجوه أولى من وقوعها على سائرها ، ولو حصلت على التعاقب كانت حادثة"

الثاني

وقال في تفسيره سورة الأعراف : "الناس مختلفون في كلام الله تعالى ، فمنهم من قال كلامه عبارة عن الحروف المؤلفة المنتظمة ، ومنهم من قال كلامه صفة حقيقة مغايرة للحروف والأصوات ، أما القائلون بالقول الأول فالعقلاء المحصلون اتفقوا على أنه يجب كونه حادثا كائنا بعد أن لم يكن ، وزعمت الحنابلة والحشوية أن الكلام المركب من الحروف والأصوات قديم ، وهذا القول أخس من أن يلتفت العاقل إليه"25 ثم ذكر مناظرة له ستأتي بعد قليل إن شاء الله .

وبالغ الفخر في تفسيره لسورة الشورى النكير على الحنابلة القائلين بقدم الحروف القرآنية حيث قال : "وهؤلاء أخس من أن يُذكروا في زمرة العقلاء ، واتفق أني قلت يوما لبعضهم ، لو تكلم الله بهذه الحروف ، إما أن يتكلم بها دفعة واحدة أو على التعاقب والتوالي ، والأول باطل لأن التكلم بجملة هذه الحروف دفعة واحدة لا يفيد هذا النظم المركب على التعاقب والتوالي فوجب أن لا يكون هذا النظم المركب من هذه الحروف المتوالية كلام الله تعالى ، والثاني باطل لأنه تعالى لو تكلم بها على التوالي والتعاقب كانت محدثة ، ولما سمع ذلك الرجل هذا الكلام قال الواجب علينا أن نقر ونمر ، يعني نقر بأن القرآن قديم ونمر على هذا الكلام على وفق ما سمعناه ، فتعجبت من سلامة قلب ذلك القائل"

ثم قال الفخر : "قد أطبقوا على أن هذه الحروف والأصوات كائنة بعد أن لم تكن ، حاصلة بعد أن كانت معدومة ، ثم اختلفت عباراتهم في أنها هل هي مخلوقة أو لا يقال ذلك بل يقال إنها حادثة أو يعبر عنها بعبارة أخرى ؟ "26

ونجد الإمام ابن عاشور في تفسيره لسورة النساء يقول - بعد حديثه عن كلام الله المنزل بواسطة الملك على الرسل المسمى بالقرآن ، وبالتوراة وبالإنجيل وبالزبور - وهذا لا يمتري في حدوثه من له نصيب من العلم في الدين ، ولكن أمسك بعض أئمة الإسلام عن التصريح بحدوثه أو بكونه مخلوقا في مجالس المناظرة التي غشيتها العامة أو ظلمة المكابرة ، والتحفز إلى النبز والأذى دفعا للإيهام وإبقاء على النسبة إلى الإسلام ، وتنصلا من غوغاء الطغام"27

ومن قول هذين الإمامين الأشعريين يتبين لك ثبوت ما قاله المحقق الخليلي من أن موقف الأشعرية من هذا القرآن المنزل على الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام ، المتلو بالألسن ، المحفوظ في الصدور ، المكتوب في الصحف لا يختلف عن موقفنا وموقف المعتزلة وغيرهم القائلين بخلقه ، وهذا الذي يعنيه الإمام نور الدين السالمي رحمة الله عليه حيث جعل الخلاف بيننا وبينهم لفظيا فحسب28.

ثم ظهر لي أن هذا الموقف لم تتفق عليه الأشاعرة أو أنهم لم يستقروا عليه ، فإنا نجد في كتبهم وفيما يروى عنهم أن القرآن الذي نقرؤه ، ونسمعه ، ونحفظه ، ونكتبه ليس هو عين كلام الله سبحانه وتعالى وإنما كلامه تعالى صفة قديمة قائمة بذاته عز وجل ، وما هذه الحروف والأصوات إلا عبارة عن ذلك الكلام وهي مخلوقة لأجل إيصال الأفهام بها إلى مقاصد ذلك الكلام الأزلي ، فمثلها كمثل المرآة التي تنعكس فيها صور الأشياء فيراها الناظر منها ، مع أن الذي يراه ليس إلا مجرد صورة للشبح المنعكس ، ونجد الفخر الرازي - وهو من أئمة الأشعرية - يعزو هذا القول إلى الأشعري وأصحابه بعبارة الزعم الدالة على عدم موافقته لهم ، وينص على أن من عداهم مخالفون لهم في ذلك ، ونص كلامه

أجمعت الأمة على أن الله تعالى متكلم ، ومن سوى الأشعري وأتباعه أطبقوا على أن كلام الله هو هذه الحروف المسموعة والأصوات المؤلفة ، وأما الأشعري وأتباعه فإنهـم زعموا أن كلام الله تعالى صفة قديمة يعبر عنها بهــذه الحـروف والأصوات.29

والظاهر أن الأشعرية مضطربون في هذه المسألة لأن الفخر الذي يشير إلى تنصله من قولهم في كلامه هذا ، قد قال نفسه في مقدمة تفسيره : ( إذا قلنا لهذه الحروف المتوالية والأصوات المتعاقبة إنها كلام الله تعالى ، كان المراد أنها ألفاظ دالة على الصفة القائمة بذات الله تعالى فأطلق اسم الكلام عليها على سبيل المجاز - إلى أن قال : وإذا قلنا كلام الله قديم لم نعن به إلا تلك الصفة القديمة التي هي مدلول هذه الألفاظ والعبارات ، وإذا قلنا كلام الله معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم عنينا به هذه الحروف وهذه الأصوات التي هي حادثة ، فإن القديم كان موجوداً قبل محمد عليه الصلاة والسلام فكيف يكون معجزة له ، وإذا قلنا كلام الله سور وآيات عنينا به هذه الحروف ، وإذا قلنا كلام الله فصيح عنينا به هذه الألفاظ ، وإذا شرعنا في تفسير كلام الله تعالى عنينا به أيضاً هذه الألفاظ )30.

ثم قال : ( زعمت الحشوية أن هذه الأصوات التي نسمعها من هذا الإنسان عين كلام الله تعالى ، وهذا باطل لأنا نعلم بالبديهة أن هذه الحروف والأصوات التي نسمعها من هذا الإنسان صفة قائمة بلسانه وأصواته ، فلو قلنا بأنها عين كلام الله تعالى لزمنا القول بأن الصفة الواحدة بعينها قائمة بذات الله تعالى ، وحالَّة في بدن هذا الإنسان وهذا معلوم الفساد بالضرورة ، وأيضاً فهذا عين ما يقوله النصارى ، من أن أقنوم الكلمة حلت في ناسوت صريح وزعموا أنها حالَّة في ناسوت عيسى عليه السلام ، ومع ذلك فهي صفة لله تعالى وغير زائلة عنه ، وهذا عين ما يقوله الحشوية من أن كلام الله تعالى حالٌّ في لسان هذا الإنسان مع أنه غير زائل عن ذات الله تعالى ، ولا فرق بين القولين ، إلا أن النصارى قالوا بهذا القول في حق عيسى وحده ، وهؤلاء الحمقى قالوا بهذا القول الخبيث في حق كل الناس من المشرق إلى المغرب)31.

ويفهم من هذا الكلام ونحوه من نصوص أئمة الأشعرية ، أنهم يطلقون اسم القرآن على الكلام النفسي الذي هو صفة ذاتية لله تعالى ، وهو الذي يقصدونه عندما يقولون إن القرآن غير مخلوق ، وهو الذي عوَّل عليه من قال إن الخلاف بيننا وبينهم لا يعدو أن يكون لفظيا .

غير أن هذا المذهب الأشعري تعرَّض لنقد شديد من قبل الطائفتين المتعارضتين معاً ، وهم القائلون بقدم القرآن المتلو ، والقائلون بحدوثه ، ويتلخص اعتراض الجانبين في كون الله سبحانه قد سمى هذا الكلام الذي نتلوه قرآناً وفرقاناً وكتاباً وهدىً في آيات كثيرة ، منها قوله : (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن)32 ، وقوله : ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)33 ، وقوله : (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان)34 ، وقوله : (إنا أنزلناه قرآناً عربياً)35 ، وقوله : (إنا جعلناه قرآناً عربياً)36 وقوله (تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده)37 وقوله : (تلك آيات القرآن وكتاب مبين)38 وقوله: (تلك آيات الكتاب وقرآن مبين)39 وقوله : (ذلك الكتاب لا ريب فيه)40 ، وقد وصفه الله تعالى بالإنزال كما سبق في بعض الآيات ، ونحوه قوله: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة)41 وقوله: (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور)42 وقوله: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات)43 وقوله: (إنا أنزلناه في ليلة القدر)44 ووصفه بالتفصيل في قوله: (ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم)45 ، ووصفه به وبالإحكام في قوله: (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير)46 ، وميز بين آياته فوصف بعضها بالإحكام وبعضها بالتشابه في قوله: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) .

ووصفه بأنه مقروء حيث قال : (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا)47 ، وقال: (فاقرأوا ما تيسر من القرآن)48 ، وقال : (فأقرأوا ما تيسر منه)49 ، وقال: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم)50

ووصفه بأنه محفوظ في الصدور بقوله : (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم)51 ، وبأنه مكتوب في اللوح حيث قال : (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ)52

ومن المعلوم قطعا أنه لم يُرد في شيء من هذه الآيات إلا هذا القرآن المعهود ، (إذ لم يرد سمع بتسميته غيره قرآنا ، وجاء في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسميته بذلك ، كقوله عليه أفضل الصلاة والسلام : (

خيركم من تعلم القرآن وعلمه) وقوله : (

إن هذا القرآن مأدبة الله) ونهيه صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو ، وهو لا يعني به إلا المصحف.

فتبين من ذلك كله أنه لا يقصد بالقرآن والكتاب والذكر والهدى إلا هذا الكلام المنزل ، وأنه مقروء محفوظ مكتوب منقسم إلى محكم ومتشابه ، ومجمل ومفصل ، وناسخ ومنسوخ ، فإنكار قيام هذه الصفات بالقرآن إنكار لما صرحت به النصوص ودل عليه العقل وصدقه الواقع ..

هذا وحكى ابن تيمية وابن القيم عن الأشعري أن الكلام عنده صفة قديمة ليست بصوت ولا حرف ولا يتجزأ ، فهو عين الأمر والنهي ، والخبر والاستخبار ، وهو عين التوراة والإنجيل والقرآن والزبور ، وكونه أمرا ونهيا وخبرا واستخبارا صفات لذلك المعنى الواحد ، وكونه توراة وإنجيلا وقرآنا وزبورا تقسيم لعباراته فإنه إن عبر عنه بالعربية فهو قرآن وإن عبر عنه بالعبرية فهو توراة ، وإن عبر عنه بالسريانية فهو إنجيل ، والعبارات مخلوقة والحقيقة قديمة53.

ولئن صح هذا الذي نقلاه فإن بطلانه أظهر من أن يحتاج إلى إظهار لما فيه من الجمع بين الأضداد كجعل الأمر هو النهي ، والخبر هو الاستخبار ، وليس ذلك جمعا بين الضدين فحسب بل هو جعل الضد عين ضده ، ويترتب عليه أن ترجمة التوراة والإنجيل إلى العربية تجعلهما قرآنا ، وترجمة القرآن إلى العبرية تجعله توراة ، وإلى السريانية تجعله إنجيلا ، وهذا عين البطلان ، وحسبك أن في القرآن من الحكم والأحكام والقصص والأمثال والعلوم والفوائد ما ليس في الكتب السابقة، كما أن تقسيمه يختلف عن تقسيمها.

وأرى أن الأشعرية لم يكن لهم موقف موحد من هذه المسألة ، فهذا إبن رسلان منهم يقول في زبده :

كلامه كوصفه القديــم     لم يحدث المسموع للكليم
يكتب في اللوح وباللسان    يقرأ كما يحفظ بالأذهان

فنجده يثبت صفة القدم للكلام المسموع المكتوب المقروء غير أن شارحه (الفِشَنِي) يحمل قوله هذا على ما يتفق مع المحكي عن الأشعري حيث يقول : "فاتصافه بهذه الأوصاف الأربعة اتصاف له باعتبار وجودات الوجود الأربعة وليس حالا في المصاحف ولا في القلوب ، ولا في الألسنة بل معنى قائم بذات الله تعالى"54

وقال قبل ذلك ، "والحق قول أهل الحق أنه تعالى متكلم بكلام قديم قائم بذاته ، فإن عبر عنه بالعربية فالقرآن أو بالعبرانية فالتوراة أو بالسريانية فالإنجيل ، إلى غير ذلك من الاختلاف في التعبير"55

وذكر قبيل قوله هذا أن كلامه تعالى ليس بحرف ولا صوت ، لأنهما عرضان حادثان56. واضطراب هذا الكلام أظهر من أن يحتاج إلى بيان وتحليل ، وقد بالغ ابن حزم وابن تيمية فحكما على قائليه بالكفر - ولا ريب أنهما يعنيان الكفر الملي - أما ابن حزم فقال : "وهذا كفر مجرد بلا تأويل ، وذلك أننا نسألهم عن القرآن أهو كلام الله أم لا ؟ فإن قالوا ليس هو كلام الله كفروا بإجماع الأمة ، وإن قالوا بل هو كلام الله سألناهم عن القرآن ، أهو الذي يتلى في المساجد ويكتب في المصاحف ويحفظ في الصدور أم لا ؟ فإن قالوا لا كفروا بإجماع الأمة ، وإن قالوا نعم تركوا قولهم الفاسد ، وأقروا أن كلام الله تعالى في المصاحف ومسموع من القراء ومحفوظ في الصدور كما يقول جميع أهل الإسلام"57

وأما ابن تيمية58 فقد نسب إلى عوامهم أنهم أسقطوا حرمة المصحف ، وربما داسوه ووطئوه ، وربما كتبوه بالعذرة أو غيرها - ثم قال فيهم - وهؤلاء أشد كفراً ونفاقاً ممن يقول : الجلد والورق كلام الله ، فإن أولئك آمنوا بالحق وبزيادة من الباطل ، وهؤلاء كذَّبوا بالكتاب وبما أرسل الله به رسله (فسوف يعلمون . إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون)59

ولست أريد هنا أن أتحدث عن هذا الحكم الذي حكما به على أصحاب هذه المقالة صحة وبطلاناً ، فإن ذلك يستلزم إطالة في البحث ما كنت أودها ، وإنما أريد أن أقول إن ما وقعا فيه من التناقض ليس بأقل شناعة مما عاباه على غيرهما ؛ أما ابن حزم - فمع تقريره أن القرآن الكريم هو كلام الله تعالى - نجده يؤكد أن كلامه سبحانه هو عين ذاته فعندما حكى عن الأشعرية قولهم إذ قال : ( وقالت الأشعرية : كلام الله صفة ذات لم تزل غير مخلوقة وهو غير الله تعالى ، وخلاف الله تعالى ، وهو غير علم الله تعالى ، وأنه ليس لله تعالى إلا كلام واحد - أردفه بقوله : واحتج أهل السنة بحجج منها أن قالوا : إن كلام الله تعالى لو كان غير الله لكان لا يخلو من أن يكون جسماً أو عرضاً … إلى آخره .

وقال أيضاً : (وأما الأشعرية فيلزمهم في قولهم إن كلام الله غير الله ما ألزمناهم في العلم وفي القدرة سواء بسواء ، مما قد تقصيناه قبل هذا والحمد لله رب العالمين)60.

ولا ريب أنه يلزم على هذا أن يكون القرآن الكريم هو عين ذات الله تعالى ، وأن يكون سبحانه بإنزاله إياه وتفصيله له وإحكامه آياته لم ينزل ويفصل ويحكم إلا ذاته سبحانه ، كما يلزمه أن يكون كاتب القرآن وتاليه وحافظه لا يكتب ولا يتلو ولا يحفظ إلا ذاته تعالى ، وأن تكون الذات العلية هي هذه الحروف والأصوات ، فتكون متجزئة بتجزء القرآن إلى سور وآيات وجمل وكلمات وحروف وأصوات ، تعالى الله عن ذلك كله علواًّ كبيراً .

وقد أتي ابن حزم في احتجاجه لقدم القرآن بسفسطة عجيبة لا يتصور العقل صدورها من مثله ، مع غزارة علمه وقوة فهمه61.

وقد آثرت ضرب الصفح عن إيرادها اكتفاءً بما نقضها به الإمام شمس الدين أبو يعقوب يوسف بن إبراهيم الوارجلاني رحمه الله في آخر كتابه العدل والإنصاف62.

وإنما يُعجب من عزو الإمام أبي يعقوب ما قاله ابن حزم إلى الإمام أحمد بن حنبل ، ولم أجده في شيء من كتب الحنابلة بل ما رأيته فيها مناقض له . وأما ابن تيمية فسترى إن شاء الله في الفصل الآتي من نصوص كلامه ما يوقفك على تناقضه واضطرابه .

هذا ويظهر لون آخر من الخلاف المعنوي بيننا وبين الأشعرية ومن قال بقدم القرآن من مشارقة الإباضية ، وهو أنهم صرَّحوا بأن ما سمعه موسى عليه السلام في مناجاته لربه هو كلام الله النفسي القديم وليس بمخلوق ، كما هو مقتضى قول ابن رسلان في زبده ، وقالوا إنه ليس صوتاً ولا حرفاً ، وقد صرَّح بهذا الإمام ابن عاشور في تفسيره لقوله تعالى : (وكلَّم الله موسى تكليماً)63

ونص قوله : (فالتكليم تعلق لصفة الكلام بالمخاطب على جعل الكلام صفة مستقلة ، أو تعلق العلم بإيصال المعلوم إلى المخاطب ، أو تعلق الإرادة بإبلاغ المراد إلى المخاطب ، فالأشاعرة قالوا : تكليم الله عبده هو أن يخلق للعبد إدراكاً من جهة السمع يتحصل به العلم بكلام الله دون حروف ولا أصوات ، وقد ورد تمثيله بأن موسى سمع مثل الرعد علم منه مدلول الكلام النفسي)64

وهو كما ترى يتناقض مع ما سبق نقله عنه ، من تفسيره لقول الله للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ، وتعليمه آدم الأسماء ، فليت شعري كيف يجمع بين ما قاله هنا وما قاله هنالك ؛ على أنه بعد هذا الكلام بما لا يزيد على صحيفة واحدة قال : ( وقوله " تكليماً " مصدر للتوكيد ، والتوكيد بالمصدر يرجع إلى تأكيد النسبة وتحقيقها مثل قد وإن ، ولا يقصد به رفع احتمال المجاز ، ولذلك أكدت العرب بالمصدر أفعالاً لم تستعمل إلا مجازاً ، كقوله تعالى : (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً)65 ، فإنه أراد أن يطهرهم الطهارة المعنوية أي الكمال النفسي ، فلم يفد التأكيد رفع المجاز ، وقالت هند بنت النعمان بن بشير تذم زوجها روح بن زنباع :

بكى الخزّ من روح وأنكر جلده     وعجَّت عجيجاً من جذام المطارف

وليس العجيج إلا مجازاً ، فالمصدر يؤكد أي يحقق حصول الفعل المؤكد على ما هو عليه من المعنى قبل التأكيد .

فمعنى قوله: (تكليماً) هنا ، أن موسى سمع كلاماً من عند الله بحيث لا يحتمل أن الله أرسل إليه جبريل بكلام ، أو أوحى إليه في نفسه ، وأما كيفية صدور هذا الكلام عن جانب الله فغرض آخر هو مجال للنظر بين الفِرَق ، ولذلك فاحتجاج كثير من الأشاعرة بهذه الآية على كون الكلام الذي سمعه موسى الصفة الذاتية القائمة بالله تعالى احتجاج ضعيف ، وقد حكى ابن عرفة أن المازري قال في شرح التلقين إن هذه الآية حجة على المعتزلة في قولهم أن الله لم يكلم موسى مباشرة بل بواسطة خلق الكلام لأنه أكده بالمصدر ، وأن ابن عبد السلام التونسي شيخ ابن عرفة رده بأن التأكيد بالمصدر لإزالة الشك عن الحديث لا عن المحدث عنه ، وتعقبه ابن عرفة بما يؤول إلى تأييد رد ابن عبد السلام)66

ولعلنا نستخلص مما قاله هنا وهناك أنه لم يستقر رأيه في هذه المسألة على شيء بعينه ، ولعله يرى جواز صحة كل واحد من الرأيين . أما نحن - معشر الإباضية القائلين بخلق القرآن ، ومن قال بقولنا من المعتزلة وغيرهم - فقد اتفقنا مع الحنابلة القائلين بقدم النصوص القرآنية ، على أن موسى عليه السلام سمع من تكليم الله كلاماً مركباً من الحروف وأنه كان صوتاً ، إلا أنا اختلفنا في قِدمه وحدوثه ، فقالوا بقدمه وقلنا بحدوثه ، وإنما قلنا إن هذا تكليم حقيقي من الله له ، لأنه لم يكن بواسطة بل خلقه الله له حيث شاء فأسمعه إياه من غير أن ينطق به ملك أو مخلوق آخر ، وقد قال كثير بأنه تعالى خلقه في الشجرة وأسمعه منها ، وهذا الذي نسبه الفخر الرازي إلى الإمام أبي منصور الماتريدي67.

ولا يتعين ذلك لعدم ما يدل عليه ، وإنما هو أحد الاحتمالات الواردة . ونستخلص مما تقدم أن الموقف الأشعري في هذه القضية يختلف عن موقف الطائفتين المتباينتين جميعاً ، وهو صريح فيما سبق نقله عن الفخر الرازي مما نسبه إلى الأشعري وأتباعه من مخالفتهم لغيرهم في مسألة الكلام .

ونقل عنهم أنهم قالوا : (وكما لا يبعد أن تُرى ذات الله مع أنه ليس بجسم ولا في حيِّز فأي بعد في أن يسمع كلام الله مع أنه لا يكون حرفاً ولا صوتاً)68.

وهذا الالزام خاص بمثبتي الرؤية ، وأما نحن فلا يطرق - والحمد لله - ساحتنا .


الهوامش والتعليقات

يرى الإمام نور الدين السالمي أن عدم تصريح سلف أئمة الإباضية المشارقة بخلق القرآن وسائر الكتب المنزلة راجع إلى فرارهم من مقالة الجهمية بحدوث صفات الله تعالى الذاتية لخوفهم أن تكون هذه المسألة مفرعة على هذا الاعتقاد " تحفة الأعيان ج1 ص156/157 ط ، وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان " ) وهو لا ينافي ما ذكرته فلا يبعد أن يكون إمساكهم عن التصريح بخلقه للاعتبارين معاً

1

الآية 40 من سورة النحل

2

الآية 82 من سورة يس

3

الآية 16 من سورة الإسراء

4

الآية 11 من سورة الأعراف

5

الآيات 143-147 من سورة الأعراف

6

الآية 30 من سورة القصص

7

الآية 14 من سورة طه

8

الآيات 62 و 65 و 74 من سورة القصص

9

الآية 40 من سورة سبأ

10

الآية 30 من سورة ق

11

الصواعق المرسلة ص429/430 ، مطبعة الإمام 13 شارع قرقول ، المنشية بمصر ، وانظر فتاوى ابن تيمية ج12 ص239/240 ط1 - مطابع الرياض

12

الآية 31 من سورة البقرة

13

الآية 113 من سورة النساء

14

الآيات 4 و 5 من سورة العلق

15

الآية 123 من سورة آل عمران

16

الآية 40 من سورة الحج

17

الآية 51 من سورة الشورى

18

الآية 11 من سورة فصلت

19

التحرير والتنوير ج1 ص397 ط بالدار التونسية للنشر

20

المرجع السابق ص411

21

الآية 6 من سورة التوبة

22

تمهيد قواعد الإيمان ج2 ص6 ، ط1 وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان

23
التفسير الكبير ج1 ص30 ط2 ، دار الكتب العلمية بطهران 24

المرجع السابق ج14 ص228

25

المرجع السابق ج27 ص187/188

26

التحرير والتنوير ج6 ص38 ط1 الدار التونسية للنشر

27

مشارق الأنوار ص245

28

التفسير الكبير ج27 ص187 ط2 دار الكتب العلمية بطهران

29

التفسير الكبير ج1 ص31 دار الكتب العلمية بطهران

30

المرجع السابق ص31/32

31

الآية 3 من سورة يوسف

32

الآية 9 من سورة الإسراء

33

الآية 185 من سورة البقرة

34

الآية 2 من سورة يوسف

35

الآية 3 من سورة الزخرف

36

الآية 1 من سورة الفرقان

37

الآية 1 من سورة النمل

38

الآية 1 من سورة الحجر

39

الآية 2 من سورة البقرة

40

الآية 3 من سورة الدخان

41

الآية 1 من سورة إبراهيم

42

الآية 7 من سورة آل عمران

43

الآية 1 من سورة القدر

44

الآية 52 من سورة الأعراف

45

الآية 1 من سورة هود

46

الآية 45 من سورة الإسراء

47

الآية 20 من سورة المزمل

48

الآية 20 من سورة المزمل

49

الآية 98 من سورة النحل

50

الآية 49 من سورة العنكبوت

51
الآيتان 22 و 23 من سورة البروج 52

الصواعق المرسلة ص426 ، وتكرر ذلك في المجلد الثاني عشر من فتاوى ابن تيمية

53

مواهب الصمد في حل ألفاظ الزبد ج1 ص27 ط الشؤون الدينية القطرية

54

المرجع السابق ص26

55

المرجع السابق

56

الفصل في الملل والأهواء والنحل ج3 ص25 مكتبة السلام العالمية

57

فتاوى ابن تيمية ، المجلد الثاني عشر ص382 ط مطابع الرياض ، وقد أتى في الرد عليهم بأقذع العبارات التي نزَّهت هذا الكتاب عن ذكرها فيه ولا يعقل صدور ما نسبه إليهم من أحد يدين بالإسلام

58

الآيات 70-72 من سورة غافر

59

الفصل في الملل والأهواء والنحل ج3 ص4 ، مكتبة السلام العالمية

60

المرجع السابق ج3 ص6/8

61

أنظر الكتاب المذكور ج2 ص147/156 ، ط1 وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان

62

الآية 164 من سورة النساء

63

التحرير والتنوير ج6 ص37

64

الآية 33 من سورة الأحزاب

65

التحرير والتنوير ج6 ص38 و 39

66

التفسير الكبير ج14 ص238 ط دار الكتب العلمية بطهران ، ونفس المرجع ج27 ص188

67

المرجع السابق ج27 ص188

68

الفصل الثاني

تضارب أقوال القائلين بقِدَمِ القرآن

 

إن القول بقِدم القرآن - وإن تباينت مفاهيمه وتشعبت مسالكه باختلاف أصحابه فيما بينهم - ينبجس من نبع واحد ، وهو عدم التفرقة بين صفة الكلام الذاتية لله تعالى وبين أثرها ، وهو ما أنزل من كتبه على رسله ، وأصحاب هذا القول كلهم ملزمون بأن يقولوا بقِدم الحوادث كلها فإنها آثار لصفات الله تعالى ، إذ المخلوقات على اختلافها ما هي إلا آثار لقدرته تعالى ولإرادته ولعلمه ، وكل من هذه صفة ذاتية قديمة لاستحالة اتصاف الله بأضدادها . ومع اتحاد مصدر هذا القول ، تجد بين أصحابه من التنازع والتدافع ما يقضي العجب العجاب ، بحيث لا يمكن أن تجتمع أقوالهم في طريق واحد ولا تنتهي إلى غاية واحدة ، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تجاوزوه إلى التراشق فيما بينهم بالتجهيل والتبديع ، والتقاذف بالتضليل والتكفير كما مـر بك ما يدلك على ذلك.

وإذا سكتنا عن طوائفهم المتعددة وأصغينا إلى ما تقوله طائفة واحدة فحسب - وهي الحنابلة - وجدنا من ذلك أمراً عجباً ، فقد سلكوا في إثبات وتفسير معتقدهم هذا طرائق قِدداً ، كل أصحاب طريقة منها يدَّعون أنهم أسعد بالحق وأتبع لقول إمامهم أحمد بن حنبل ، ومن أمثلة ما اختلفوا فيه

صوت قارئ القرآن وتلاوته

الحروف الهجائية التي تتركب منها كلمات القرآن وغيره

تكلم الله هل هو بمشيئته أو بدونها

وبما أن خلافهم في الحروف والأصوات والتلاوة متداخل ، نجمع بينها في عرض أقوالهم فيها ونقدها.

ذهب فريق منهم إلى قِدم صوت القارئ واعتقاد أنه قائم بذات الله تعالى ، ومن هؤلاء محمد بن داود البصيصي وابن حامد ، وأبو نصر السجزي ، والقاضي أبو يعلى ، وأنكر عليهم ذلك أبو بكر المروذي وآخرون ، وحكوا عن أحمد قوله : (من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ، ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع )1

وفي هذا النص الذي رووه من التناقض ما لا يخفى على عاقل ، فإنه لا توسط بين الخلق وعدمه ، فالشيء إما أن يكون مخلوقاً أو غير مخلوق ، فإن كان مخلوقاً فلماذا يضلل من قال بخلقه ؟ وإن كان غير مخلوق فلماذا يبدع من قال بعدم خلقه ؟ .

وقال ابن تيمية : ( لما تكلموا - أي الحنابلة - في حروف المعجم صاروا بين قولين ، طائفة فرقت بين المتماثلين فقالت الحرف حرفان ، هذا قديم وهذا مخلوق ، كما قال ابن حامد والقاضي أبو يعلى وابن عقيل وغيرهم ، فأنكر ذلك عليهم الأكثرون ، وقالوا : هذا مخالفة للحس والعقل ، فإن حقيقة هذا الحرف هي حقيقة هذا الحرف ، وقالوا الحرف حرف واحد ، وصنَّف في ذلك القاضي يعقوب البرزيني مصنَّفاً خالف به شيخه القاضي أبا يعلى - إلى أن قال - وذكر القاضي يعقوب في مصنَّفه أن ما قاله قول أبي بكر أحمد بن المسيب الطبري ، وحكاه عن جماعة من أفضل أهل طبرستان ، وأنه سمع الفقيه عبد الوهاب بن حلبة قاضي حران يقول : هو مذهب العلوي الحراني وجماعة من أهل حران ، وذكره أبو عبدالله بن حامد عن جماعة من أهل طبرستان ممن ينتمي إلى مذهبنا كأبي محمد الكشفل ، وإسماعيل الكاوذري ، في خلق من أتباعهم أنها قديمة ) . ( قال القاضي أبو يعلى وكذلك حكى لي عن طائفة بالشام أنها تذهب إلى ذلك منهم النابلسي وغيره ، وذكر القاضي حسين أن أباه رجع في آخر عمره إلى هذا ، وذكروه عن الشريف أبي علي بن أبي موسى ، وتبعهم في ذلك الشيخ أبو الفرج المقدسي وابنه عبد الوهاب ، وأبو الحسن بن الزاغوني وأمثاله ) . ( وذكر القاضي يعقوب أن كلام أحمد يحتمل القولين ، وهؤلاء تعلقوا بقوله لما قيل له إن سريا السقطي قال : لما خلق الله الأحرف سجدت له إلا الألف فقالت لا أسجد حتى أؤمر ، فقال أحمد : هذا كفر ، وهؤلاء تعلقوا من قول أحمد : ( كل شيء من المخلوقين على لسان المخلوقين فهو مخلوق ) وبقوله : لو كان كذلك لما تمت صلاته بالقرآن كما لا تتم بغيره من كلام الناس ، وبقول أحمد لأحمد بن حسن الترمذي : ألست مخلوقاً ) قال : بلى ، قال : أليس كل شيء منك مخلوقاً ؟ قال : بلى ، قال : فكلامك منك وهو مخلـوق)2

وفي هذه الروايات من التناقض ما ليس بعده - وإن ادعى ابن تيمية عدم تناقضها - فانظر إليها أخي القارئ الكريم بعين الإستقلال الفكري التي تستجلي الحقائق وتكتشف الدقائق ، لا بعين التقليد الأعمى التي تجعل من السراب ماءً ، ومن الخيال حقيقة ، تجد أولاها تدل على منتهى الإنكار على القول بخلق الحروف الهجائية ، التي يتركب منها الكلام ، ويتخاطب بها الناس ، حتى بلغ إلى إلحاقه بالكفر والعياذ بالله ، ومقتضى ذلك أنها في القدم كالذات العلية ، وتجد في أخراها ما يدل على أن كل شيء من المخلوقين على لسان المخلوقين فهو مخلوق ، فأي القولين أحق بالحق وأسعد بالصواب ، فإن كان الأول لزم أن يكون الثاني كفراً ، وإن كان الآخر فكذلك ، لما في حديث أبي ذر رضي الله عنه عند مسلم (ومن دعا رَجُلاً بالكفر أو قال عدو الله ، وليس كذلك إلا حار عليه).

وأما اعتذار ابن تيمية عنه بقوله : ( وأحمد أنكر قول القائل ، إن الله لما خلق الحروف أنه قال : من قال أن حرفاً من حروف المعجم مخلوق فهو جهمي ، لأنه سلك طريقاً إلى البدعة ، ومن قال : إن ذلك مخلوق ، فقد قال إن القرآن مخلوق )3 ، فهو اعتذار لا يجدي فتيلاً ، فإن إنكار خلق ما علم أنه مخلوق بضرورة العقل وتواتر النقل وإلحاقه بالله تعالى في القدم - مع الإعراض عن النصوص القرآنية القاطعة بأن كل شيء سوى الله مخلوق ، كقوله تعالى : (خالق كل شيء)4 ، وقوله : (وخلق كل شيء فقدَّره تقديراً)5 ، لا يسوغ بحال ، فكيف والدافع إليه ليس إلا خشية سطوع شمس الحقيقة وتبخر ضباب الأوهام ، التي أرادوها أن تكون ستاراً بين العقول ودركها الحقائق ، والأشد من ذلك ، عدم الاكتفاء بإنكار الحقيقة فحسب بل تجاوزا ذلك إلى الحكم على من قالها بالجهمية والتبديع والتكفير ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ما أضيع الإسلام إذا فُسِّر بهذه المفاهيم المتناقضة !! وما أحير أصحابه إن لم يعرفوه إلا بها !!

وإن أردت المزيد من تناقضهم فاسمع إلى ما يقوله ابن تيمية أيضاً : ( أما القول بأن المداد المكتوب قديم ، فما علمنا قائلاً معروفاً قال به ، وما رأينا ذلك في كتاب أحد من المصنفين ، لا من أصحاب أبي حنيفة ولا مالك ولا الشافعي ولا أحمد ، بل رأينا في كتب طائفة من المصنفين من أصحاب مالك والشافعي وأحمد إنكار القول بأن المداد قديم وتكذيب من نقل ذلك ، وفي كلام بعضهم ما يدل على أن في المصحف حرفاً قديماً ليس هو المداد ).

( ثم منهم من يقول ، هو ظاهر فيه ليس بحالّ ، ومنهم من يقول هو حالّ ، وفي كلام بعضهم ما يقتضي أن يكون ذلك هو الشكل ، شكل الحرف وصورته ، لا مادته التي هي مداده ، ، وهذا القول أيضاً باطل ، كما أن القول بأن شيئاً من أصوات الآدميين قديم هو قول باطل ، وهو قول قاله طائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد ، وجمهور هؤلاء ينكرون هذا القول، وكلام أحمد وجمهور أصحابه في إنكار هذا القول مشهور .

ولا ريب أن من قال إن أصوات العباد قديمة فهو مفترٍ مبتدع له حكم أمثاله ، كما أن من قال إن هذا القرآن ليس هو كلام الله فهو مفترٍ مبتدع له حكم أمثاله )6

أنظر إلى هذا التضارب في الأقوال والتحزب في الآراء ، من غير دليل يستند إليه إلا تبرير ما يتصوره كل من هؤلاء القائلين أنه الحق، وإلا فما هي الحجة على ذلك من برهان العقل أو صحيح النقل ؟

واضْمُمْ إلى ما تقدم قوله أيضا - بعد أن ذكر كلام المثبتين لخلق القرآن - ( فقابلهم قوم أرادوا تقويم السنة فوقعوا في البدعة ، وردوا باطلا بباطل ، وقابلوا الفاسد بالفاسد، فقالوا تلاوتنا للقرآن غير مخلوقه، وألفاظنا به غير مخلوقة، لأن هذا هو القرآن ، والقرآن غير مخلوق، ولم يفرقوا بين الاسم المطلق والاسم المقيد في الدلالة، وبين حال المسمى إذا كان مجردا وحاله إذا كان مقرونا مقيدا ، فأنكر الإمام احمد أيضا على من قال إن تلاوة العباد وقراءتهم وألفاظهم وأصواتهم غير مخلوقة ، وأمر بهجران هؤلاء ، كما جهَّم الأولين وبدَّعهم ، والنقل عنه بذلك من رواية ابنه عبدالله وصالح والمروذي وفوران وأبي طالب وأبي بكر بن صدقه ، وخلق كثير من أصحابه وأتباعه )

( وقد قام أخص أتباعه أبو بكر المروذي بعد مماته في ذلك ، وجمع كلامه وكلام الأئمة من أصحابه وغيرهم مثل عبد الوهاب الوراق ، والأثرم ، وأبي داود السجستاني ، والفضل بن زياد ، ومثنى بن جامع الأنباري ، ومحمد بن إسحاق الصنعاني ، ومحمد بن سهل بن عسكر ، وغير هؤلاء من علماء الإسلام ، وبيَّن بدعة هؤلاء الذين يقولون إن تلاوة العباد وألفاظهم بالقرآن غير مخلوقة ) ( وقد ذكر ذلك الخلاَّل في كتاب السنة وبسط القول في ذلك ، قال الخلاَّل : أخبرني أبو بكر المروذي قال : بلغ أبا عبدالله عن أبي طالب أنه كتب إلى أهل نصيبين : ( إن لفظي بالقرآن غير مخلوق ) ، قال أبو بكر : فجاءنا صالح بن أحمد فقال : قوموا إلى أبي فجئنا فدخلنا على أبي عبدالله فإذا هو غضبان شديد الغضب قد تبين الغضب في وجهه ، قال : اذهب فجئني بأبي طالب ، فجئت به فقعد بين يدي أبي عبدالله وهو يرعد ، فقال : كتبت إلى أهل نصيبين تخبرهم عني أني قلت لفظي بالقرآن غير مخلوق ؟ فقال : إنما حكيت عن نفسي ، قال فلا يحل هذا عنك ولا عن نفسي ، فما سمعت عالماً قال هذا ، قال أبو عبدالله القرآن كلام الله غير مخلوق كيف تصرف ؟ فقيل لأبي طالب : أخرج وأخبر أن أبا عبدالله قد نهى أن يقال لفظي بالقرآن غير مخلوق ، فخرج أبو طالب فلقي جماعة من المحدثين فأخبرهم أن أبا عبدالله نهاه أن يقول لفظي بالقرآن غير مخلوق ) ( ومع هذا فكل واحدة من الطائفتين الذين يقولون لفظنا بالقرآن غير مخلوق ،

والذين يقولون لفظنا وتلاوتنا مخلوقة تنتحل أبا عبدالله وتحكي قولها عنه ، وتزعم أنه كان على مقالتها ، لأنه إمام مقبول عند الجميع ، ولأن الحق الذي مع كل طائفة يقوله أحمد ، والباطل الذي تنكره كل طائفة على الأخرى يرده أحمد ، فمحمد بن داود المصيصي - أحد علماء الحديث وأحد شيوخ أبي داود - وجماعة في زمانه كأبي حاتم الرازي وغيره يقولون : لفظنا بالقرآن غير مخلوق ، وتبعهم طائفة على ذلك ، كأبي عبدالله بن حامد وأبي نصر السجزي ، وأبي عبدالله بن منده ، وشيخ الإسلام أبي إسماعيل الأنصاري ، وأبي العلاء الهمداني ، وأبي الفرج المقدسي ، وغير هؤلاء يقولون إن ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقة ، ويروون ذلك عن أحمد ، وأنه رجع إلى ذلك كما ذكره أبو نصر في كتابه الإبانة ، وهي روايات ضعيفة بأسانيد مجهولة ، لا تعارض ما تواتر عنه عند خواص أصحابه وأهل بيته والعلماء الثقات ، لاسيما وقد علم أنه في حياته خطأ أبا طالب في النقل عنه حتى رده أحمد عن ذلك ، وغضب عليه غضباً شديداً ) .

وقد رأيت بعض هؤلاء طعن في تلك النقول الثابتة عنه ، ومنهم من حرَّفها لفظاً ، وأما تحريف معانيها فذهب إليه طوائف ، فأما الذين أثبتوا النقل عنه ووافقوه على إنكاره الأمرين ، وهم جمهور أهل السنة ومن انتسب إليهم من أهل الكلام كأبي الحسن الأشعري وأمثاله ، فإنه ذكر في مقالات أهل السنة والحديث أنهم ينكرون على من قال لفظي بالقرآن مخلوق ، ومن قال لفظي به غير مخلوق ، وأنه يقول بذلك ) ( لكن من هؤلاء من تأول كلام أحمد وغيره في ذلك ، بأنه منع أن يقال إن القرآن يلفظ به ، وهذا قاله الأشعري وابن الباقلاني ، والقاضي أبو يعلى وأتباعه كأبي الحسن بن الزاغوني وأمثاله ) ( ثم هؤلاء الذين تأولوا كلامه على ذلك ، منهم من قال : المعنى الذي أنكره أحمد على من قال لفظي بالقرآن مخلوق كما فعل ذلك الأشعري وأتباعه ، ومنهم من قال : بل المعنى الذي أنكره أحمد على من قال لفظي به غير مخلوق كما فعل ذلك القاضي وابن الزاغوني وأمثالهما ، فإن أحمد وسائر الأئمة ينكرون أن يكون شيء من كلام الله مخلوقاً حروفه أو معانيه ، أو أن يكون معنى التوراة هو معنى القرآن ، وأن كلام الله إذا عبر عنه بالعربية يكون قرآناً ، وإذا عبر عنه بالعبرانية يكون هو التوراة ، وينكرون أن يكون القرآن المنزل ليس هو كلام الله ، أو أن يطلق القول على ما هو كلام الله بأنه مخلوق ، وأحمد والأئمة ينكرون على من يجعل شيئاً من أفعال العباد أو أصواتهم غير مخلوق فضلاً عن أن يكون قديماً ، وكلام أحمد في مسألة التلاوة والإيمان والقرآن من نمط واحد ، منع إطلاق القول بأن ذلك مخلوق ، لأنه يتضمن القول بأن من صفات الله ما هو مخلوق ، ولما فيه من الذريعة ، ومنع أيضاً إطلاق القول بأنه غير مخلوق لما في ذلك من البدعة والضلال )7

نقلت لك أخي القارئ الكريم هذه الفقرات بنصها وفصها من كلام ابن تيمية ، لتقف أولاً على ما بينهم من خلاف في هذه المسألة يفضي إلى التبديع ، ثم خلو كلامهم مما يجوز الاستناد إليه من أدلة القرآن أو السنة أو براهين العقل ، ماعدا ما ينقلونه عن الإمام أحمد ويتصرَّفون في تأويله بحسب ما يحلو لكل فريق من المتأولين ، وتجدهم ينزلون كلام الإمام أحمد في الحجية منزلة كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ، بحيث يجعلونه الأصل الذي يرجع إليه كل فريق منهم ، مع أنهم دائماً يرددون بألسنتهم وأقلامهم دعوى عدم التقليد وإتباع أقوال الأئمة من غير دليل ، وتأمل ما جاء في آخر هذه الفقرات ، من اعتبار التلاوة والإيمان فضلاً عن القرآن من صفات الله تعالى ، وكيف يتقبل عقل أحد آتاه الله نوراً في عقله ، بأن يكون الإيمان الذي في قلوب المؤمنين والتلاوة الجارية على ألسنة التالين من صفاته تعالى الأزلية .

ونجد ابن تيمية ينقل عن أحمد والبخاري وجماعة من أصحاب أحمد كعبد الوهاب الوراق ، والأثرم ، والمروذي ، ومحمد بن بشار ، وأبي الحسين الطوسي ، وغيرهم ، أنهم كانوا ينكرون أشد الإنكار على من قال إن لفظ العبد بالقرآن أو صوته به أو غير ذلك من صفات العباد المتعلقة بالقرآن غير مخلوقة ، ويأمرون بعقوبته بالهجر وغيره )8 . وأتبع ذلك نقل بعض القصص التي وقعت لأصحاب أحمد عنده ، بسبب نسبتهم إليه أن لفظ العبد بالقرآن غير مخلوق )9 . فانظر كيف يمكن جعل التلاوة تارة من صفات العبد فيمتنع القول بقدمها ، وتارة من صفات الله فيمتنع القول بخلقها ، مع أن الكائنات بأسرها أجسامها وأعراضها إما أن تكون محدثة ، وكل محدث مخلوق ، وإما أن تكون قديمة ، وذلك مالا يجوز أن يوصف به غير الله تعالى الأول والآخر ، الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً ، والحدوث والقِدم نقيضان لا يمكن ارتفاعهما عن موجود بعينه كما لا يمكن اجتماعهما ، فكيف ينفيان معاً عن شيء بعينه ويضلل من قال فيه بأحدهما .

وقد بلغت بهم الحيرة إلى الوقوف عن القول في المداد بخلقه أو قِدمه ، إن كتب به القرآن.10

ثم تراجع ابن تيمية عن ذلك إلى التصريح بخلقه حيث قال: ( وكذلك ما يكتب في المصاحف من كلامه فهو كلامه مكتوباً في المصاحف ، وكلامه غير مخلوق ، والمداد يكتب به كلامه وغير كلامه مخلوق )11

ثم إن ابن تيمية فرَّق بين الحروف التي يتألف منها القرآن ، والحروف التي يتألف منها سائر الكلام ، حيث قال : ( من قال إن حروف المعجم كلها مخلوقة وأن كلام الله مخلوق فقد قال قولاً مخالفاً للقول المعقول الصريح والمنقول الصحيح ، ومن قال : نفس أصوات العباد أو مدادهم ، أو شيئاً من ذلك قديم فقد خالف أيضاً أقوال السلف وكان فساد قوله ظاهراً لكل أحد ، وكان مبتدعاً قولاً لم يقله أحد من المسلمين ولا قالته طائفة كبيرة من طوائف المسلمين ، بل الأئمة الأربعة وجمهور أصحابهم بريئون من ذلك ، ومن قال : إن الحرف المعين أو الكلمة المعينة قديمة العين فقد ابتدع قولاً باطلاً في الشرع والعقل ، ومن قال إن جنس الحروف التي تكلم الله بها بالقرآن وغيره ليست مخلوقة ، وأن الكلام العربي الذي تكلم به ليس مخلوقاً ، والحروف المنتظمة منه جزء منه ولازمة له ، وقد تكلم الله بها فلا تكون مخلوقة فقد أصاب )12

وتجد في هذا الكلام من الغرابة أنك بينما تجد فيه أن من قال إن الحرف المعين أو الكلمة المعينة قديمة العين فقد ابتدع قولاً باطلاً في الشرع والعقل - وهو حق في ذاته - تجد بعده ما ينقضه وهو أن الحروف التي انتظم منها القرآن والكلمات التي تركب منها ليست مخلوقة فكيف يكون الشيء الواحد مخلوقاً وغير مخلوق ، وبجانب ذلك ينقل ابن تيمية نفسه عن الإمام أحمد أن من قال إن حرفاً من حروف المعجم مخلوق فهو جهمي13 على أن الظاهر من كلامه التفرقة بين الحروف والكلمات إن جاءت في كلام الله أو جاءت في كلام الخلق فهي - بحسب هذا الظاهر - في كلام الله غير مخلوقة وفي كلام خلقه مخلوقة ، فيلزم من ذلك أن تكون أسماء النبيين وغيرهم وسائر الأسماء المذكورة في القرآن إن وردت في القرآن فهي قديمة وإن وردت في غيره فهي حادثة ، ويترتب على ذلك أن يكون لكل منها حكمان متضادان . وأصرح من كلام ابن تيمية قول تلميذه ابن القيم : ( وإذا قيل إن حروف المعجم مخلوقة أو غير مخلوقة ، فجوابه أن الحرف حرفان ، فالحرف الواقع في كلام المخلوقين مخلوق ، وحروف القرآن غير مخلوقة)14

ومع ما سبق نقله من كلام ابن تيمية الذي ينص بأن موقف الإمام أحمد وأكثر أصحابه أنهم اشتد إنكارهم على الذين قالوا بأن تلاوة العباد وألفاظهم بالقرآن غير مخلوقة ، وحكموا عليهم بالبدعة ، وأمروا بهجرهم ، نجد ما يخالف ذلك في كلامه بنفسه حيث يقول : ( وأما الحروف هل هي مخلوقة أو غير مخلوقة؟ فالخلاف في ذلك بين الخَلَف مشهور ، فأما السلف فلم ينقل عن أحد منهم أن حروف القرآن وألفاظه وتلاوته مخلوقة ، ولا ما يدل على ذلك ، بل قد ثبت عن غير واحد منهم الرد على من قال إن ألفاظنا بالقرآن مخلوقة وقالوا هو جهمي ، ومنهم من كفره ، وفي لفظ بعضهم تلاوة القرآن ، ولفظ بعضهم الحروف ، وممن ثبت عنه ذلك أحمد بن حنبل وأبو الوليد الجارودي صاحب الشافعي ، وإسحاق بن راهويه ، والحميدي ، ومحمد ابن أسلم الطوسي ، وهشام بن عمر ، وأحمد بن صالح المصري)15

ولا داعي إلى التعليق على هذا الكلام ، فإذا كانت تلاوة التالي للقرآن غير مخلوقة مع أنها فعل من أفعاله ، والتالي نفسه مخلوق ، وكل أفعاله كائنة بعد أن لم تكن فحسبي الله ، آمنت به سبحانه ربا لا شريك له في خلقه ، ولا ند له في ربوبيته ، ولا مشابه له في صفاته .

وقال ابن تيمية أيضاً .. وهناك ثلاثة أشياء

حروف القرآن التي هي لفظه قبل أن ينزل بها جبريل ، وبعد ما نزل بها ، فمن قال إن هذه مخلوقة فقد خالف إجماع السلف فإنه لم يكن في زمانهم من يقول هذا إلا الذين قالوا إن القرآن مخلوق ، فإن أولئك قالوا بالخلق للألفاظ ألفاظ القرآن ، وأما ما سوى ذلك فهم لا يقرّون بثبوته لا مخلوقاً ولا غير مخلوق ، وقد اعترف غير واحد من فحول أهل الكلام بهذا ، منهم عبد الكريم الشهرستاني مع خبرته بالملل والنحل ، فإنه ذكر أن السلف مطلقاً ذهبوا إلى أن حروف القرآن غير مخلوقة ، وقال : ظهور القول بحدوث القرآن محدث ، وقرر مذهب السلف في كتابه المسمى بنهاية الكلام

أولهما

أفعال العباد ، وهي حركاتهم التي تظهر عليها التلاوة ، فلا خلاف بين السلف أن أفعال العباد مخلوقة ، ولهذا قيل أنه بدَّع أكثرهم من قال لفظي بالقرآن مخلوق16 لأن ذلك قد يدخل فيه فعله

الثاني

التلاوة الظاهرة من العبد عقيب حركة الآية ، فهذه منهم من يصفها بالخلق ، وأول من قال ذلك - فيما بلغنا - حسين الكرابيسي وتلميذه داود الأصبهاني17 وطائفة ، فأنكر ذلك عليهم علماء السنة في ذلك الوقت ، وقالوا فيهم كلاماً غليظاً ، وجمهورهم - وهم اللفظية عند السلف - الذين يقولون لفظنا بالقرآن مخلوق ، أو القرآن بألفاظنا مخلوق ، ونحو ذلك

الثالث

وعارضهـم طائفة من أهل الحديث والسنة كثيرون ، فقالوا : لفظنا بالقرآن غير مخلوق ، والذي استقرت عليه نصوص الإمام أحمد وطبقته من أهل العلم أن من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ، ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع ، هذا هو الصواب عند جماهير أهل السنة أن لا يطلق واحد منهما كما عليه الإمام أحمد وجمهور السلف ، لأن كل واحد من الإطلاقين يقتضي إيهاماً لخطأ ، فإن أصوات العباد محدثة بلا شك ، وإن كان بعض من نصر السنة ينفي الخلق عن الصوت المسموع من العبد بالقرآن ، وهو مقدار ما يكون من القرآن المبلغ.

فإن جمهور أهل السنة أنكروا ذلك وعابوه جرياً على منهاج أحمد وغيره من أئمة الهدى ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( زينوا القرآن بأصواتكم ) . ( وأما التلاوة في نفسها التي هي حروف القرآن وألفاظه فهي غير مخلوقة ، والعبد إنما يقرأ كلام الله بصوته ، كما أنه إذا قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات .. ) فهذا الكلام لفظه ومعناه إنما هو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو قد بلغه بحركته وصوته ، كذلك القرآن لفظه ومعناه كلام الله تعالى ، ليس للمخلوق فيه إلا تبليغه وتأديته وصوته ، وما يخفى على لبيب الفرق بين التلاوة في نفسها قبل أن يتكلم بها الخلق وبعد أن يتكلموا بها ، وبين ما للعبد في تلاوة القرآن من عمل وكسب ، وإنما غلط بعض الموافقين والمخالفين فجعلوا البابين باباً واحداً وأرادوا أن يستدلوا على نفس حدوث حروف القرآن بما دل على حدوث أفعال العباد ، وما تولد عنها ، وهذا أقبح الغلط ، وليس في الحجج العقلية ولا السمعية ما يدل على حدوث نفس حروف القرآن إلا من جنس ما يحتج به على حدوث معانيه ، والجواب عن الحجج مثل الجواب عن هذه لمن استهدى الله فهداه )18

وكلامه هذا لا يختلف عن سائر ما سبق نقله عنه ، مما يدل على تضارب أقوالهم وتناقض حججهم ، فهو لا يحتاج إلى تعليق من هذه الحيثية ، وإنما أردت أن أضع بين يدي القارئ الكريم النقاط التالية

أن ابن تيمية حكى في صدر هذا الكلام المنقول أنّ من قال بأن حروف القرآن مخلوقة فهو مخالف للإجماع ، وأي إجماع هذا ؟ فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين لم يثيروا مسألة خلق القرآن ، وإنما اكتفوا باعتقاد أنه تنزيل من حكيم حميد ، وأن الله خالق كل شيء ، وما سواه مخلوق كائناً ما كان ، أما بعد ما أثيرت المسألة ونجم الخلاف فيها بين طوائف الأمة فلا وجه لأن يُعَدَّ قول طائفة منها إجماعاً ، اللهم إلا قول المستندين إلى الأدلة القاطعة من الكتاب أو السنة الصحيحة المتواترة ، أو الأصول المجمع عليها ، وهذا إنما يعرف بتمحيص الأقوال وبحث أدلتها ، وسيأتيك إن شاء الله من ذلك في هذا المبحث ما يثلج صدرك ويشرحه بالحق الذي لا مرية فيه

-1

أنه فرق بين أفعال العباد - وهي حركاتهم التي تظهر عليها التلاوة - فحكى أنه لا خلاف بين السلف أن أفعال العباد مخلوقة ، وبين التلاوة الظاهرة من العبد عقيب حركة الآية ، فحكى عن علماء السنة أنهم أنكروا على من قال بخلقها مع أنه من المعلوم قطعاً أن ما يظهر من العبد عندما يتلو القرآن من الحركة ما هو إلا فعله المعبر عنه بالتلاوة ، وكيف يكون فعل العبد غير مخلوق مع أن نفس الفاعل مخلوق

-2

أنه فرق بين التلاوة في نفسها قبل أن يتكلم بها الخلق وبعد أن يتكلموا بها ، وبين ما للعبد في تلاوة القرآن من عمل وكسب ، وادَّعى أن الفرق بينهما لا يخفى على لبيب ، مع أن التلاوة - كما قلت قبل قليل - ليست إلا نفس فعل التالي ، فكيف يفرق بين فعل العبد وبين ماله فيه من عمل وكسب ؟ وهل مثل هذا إلا كمثل التفرقة بين الضرب الصادر من الضارب ، والصوم الكائن ، من الصائم ، وبين كسب العبد فيهما ؟ وما هو في الحقيقة إلا تفريق بين الشيء ونفسه

-3

أنه ادَّعى أنه ليس في الحجج العقلية ولا السمعية ما يدل على حدوث نفس حروف القرآن ، وليس لهذا جواب إلا أن يقال

وليس يصح في الأذهان شيءٌ     إذا احتاج النهار إلى دليل

وستوافيك إن شاء الله هذه الحجج في الفصل الأخير المعقود لذلك من هذا المبحث

-4

وهاك نصًّا آخر عن ابن تيمية في تنازعهم في هذه المسألة قال : ( والقول بأن اللفظ غير مخلوق نُسب إلى محمد بن يحيى الذهلي ، وأبي حاتم الرازي ، بل وبعض الناس ينسبه إلى أبي زرعة أيضاً ويقول إنه هو وأبو حاتم هجرا البخاري ، لما هجره محمد بن يحيى الذهلي ، والقصة في ذلك مشهورة ) . ( وبعد موت أحمد وقع بين بعض أصحابه وبعضهم وبين طوائف من غيرهم بهذا السبب . وكان أهل الثغر مع محمد بن داود والمصيصي شيخ أبي داود يقولون بهذا ، فلما ولي صالح بن أحمد قضاء الثغر طلب منه أبو بكر المروذي أن يظهر لأهل الثغر مسألة أبي طالب فإنه قد شهدها صالح وعبد الله أبنا أحمد ، والمروذي وفوران ، وغيرهم ، وصنف المروذي كتاباً في الإنكار على من قال إن لفظي بالقرآن غير مخلوق ، وأرسل في ذلك إلى العلماء بمكة والمدينة والكوفة والبصرة ، وخراسان وغيرهم ، وقد ذكر ذلك أبو الخلال في كتاب السنة - وبسط القول في ذلك ) .

( ومع هذا فطوائف من المنتسبين إلى السنة وإلى أتباع أحمد كأبي عبدالله بن منده ، وأبي نصر السجزي ، وأبي إسماعيل الأنصاري ، وأبي العلاء الهمداني وغيرهم يقولون لفظنا بالقرآن غير مخلوق ، ويقولون إن هذا قول أحمد ، ويكذبون - أو منهم من يكذب - برواية أبي طالب ويقولون إنها مفتعلة عليه ، أو يقولون رجع عن ذلك ، كما ذكر ذلك أبو نصر السجزي في كتابه " الإبانة " المشهور ) .

( وليس الأمر كما قال هؤلاء ، فإن أعلم الناس بأحمد وأخص الناس وأصدق الناس في النقل عنه هم الذين رووا ذلك عنه ، ولكن أهل خراسان لم يكن لهم من العلم بأقوال أحمد ما لأهل العراق الذين هم أخص به ، وأعظم ما وقعت فتنة اللفظ بخراسان ، وتعصب فيها على البخاري - مع جلالته وإمامته - وإن كان الذين قاموا عليه أيضاً أئمة أجلاء )19

وهذا النص يفيد أنهم لم يكتفوا بالاختلاف في الرأي والاعتقاد بل جاوزوه إلى تكذيب بعضهم لبعضِ في الروايات التي يُسْنِدُونَهَا إلى أحمد ويستندون إليها .

وذكر ابن تيمية عقب هذا النص أنه وجد بخط بعض الشيوخ الذين لهم علم ودين يقول : مات البخاري بقرية خرتنك فأرسل أحمد إلى أهل القرية يأمرهم أن لا يصلوا عليه لأجل قوله في مسألة اللفظ .

وتعقبه ابن تيمية بأن هذا من أبين الكذب على أحمد والبخاري ، وأن كاذبه جاهل بحالهما لأن موت أحمد سابق على موت البخاري بخمسة عشر عاماً إذ كانت وفاته سنة إحدى وأربعين بينما وفاة البخاري كانت سنة ست وخمسين)20

وهذه صورة واضحة من صور التعصب المقيت الذي كان بينهم في هذه المسألة ، وناهيك أن ابن تيمية ينسب هذا الكذب إلى من له علم ودين منهم ، فكيف بمن خلا منهما أو من أحدهما ، وأي دين يبقى لمن يسوغ لنفسه أن يكذب في أمور الدين ، ولست أرى هذه الاستساغة للكذب إلا أثراً من آثار اعتقاد العفو عن أهل الكبائر ، أو أنهم يعذبون بمقدارٍ ثم يخرجون من النار .

هذا وذكر ابن تيمية أنه رأى بخط القاضي أبي يعلى قال : ( نقلت من آخر كتاب الرسالة للبخاري في أن القراءة غير المقروء ، وقال وقع عندي عن أحمد بن حنبل على اثنين وعشرين وجها كلها يخالف بعضها بعضاً ، والصحيح عندي أنه قال : ما سمعت عالماً يقول لفظي بالقرآن غير مخلوق ، قال : وافترق أصحاب أحمد بن حنبل على نحو من خمسين)21 . وهم في هذا التنازع لا يرجعون إلى أصل من كتاب أو سنة ، وإنما كل مستندهم ما يروونه عن الإمام أحمد ويتأولونه من كلامه ، فكأنهم جعلوا كلامه أصلا من أصول الدين المستند إليها ، فأين هم من قوله تعالى : (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا)22  ، وقد أغمضوا أعينهم عن كل ما جاء عن الله والرسول مما يجلو وجه الحق ويكشف سدول الجهل عن حقيقته في هذه المسألة مما ستقف عليه في الفصل الأخير إن شاء الله ، ومع هذا لا تزال تسمع دعاوي عدم التقليد وعدم التقيد إلا بما ثبت عن الله والرسول فأين الواقع من الدعوى ؟ !!

وقد بلغ الإصرار ببعضهم إلى التزام كل ما يترتب على القول بقِدم القرآن حتى أصر بعضهم على أن كلام المخلوقين غير مخلوق لمشابهته كلام الله في حروفه وكلماته ، كما ذكره القاضي ابن عقيل - من الحنابلة - ونقله عنه ابن تيمية23 وقال إثره :

( هذا الذي حكى عنه ابن عقيل من بعض الأصحاب المذكورين منهم القاضي يعقوب البرزيني ، ذكره في مصنفه فقال : دليل عاشر وهو أن هذه الحروف بعينها وصفتها ومعناها وفائدتها هي التي في كتاب الله تعالى وفي أسمائه وصفاته ، والكتاب بحروفه قديم وكذلك هاهنا ) قال : ( فإن قيل لا نسلم إن تلك لها حرمة وهذه لا حرمة لها ، قيل لا نسلم بل لها حرمة ، فإن قيل لو كان لها حرمة لوجب أن تمنع الحائض والنفساء من مسها وقراءتها ، قيل قد لا تمنع من مسها وقراءتها ويكون لها حرمة كبعض آية تمنع من قراءتها ولها حرمة وهي قديمة ، وإنما لم تمنع من قراءتها ومسها للحاجة إلى تعليمها ، كما يقال في الصبي يجوز له مس المصحف على غير طهارة للحاجة إلى تعليمه .

فإن قيل : فيجب إذا حلف بها أن تنعقد يمينه ، وإذا خالف يمينه أن يحنث ، قيل له : كما في حروف القرآن مثله نقول هنا .

فإن قيل : أليس إذا وافقها في هذه المعاني دل على أنها هي ؟ ألا ترى أنه إذا تكلم متكلم بكلمة يقصد بها خطاب آدمي فوافق صفتها صفة ما في كتاب الله تعالى ، مثل قوله يا داود ، يا نوح ، يا يحيى ، وغير ذلك فإنه موافق لهذه الأسماء التي في كتاب الله ، وإن كانت في كتاب الله قديمـة ، وفي خطاب الآدمي محدثه ؟ ( قيل كل ما كان موافقاً لكتاب الله في لفظه ونظمه وحروفه فهو من كتاب الله وإن قصد به خطاب آدمي ، فإن قيل : فيجب إذا أراد بهذه الأسماء آدميا وهو في الصلاة أن لا تبطل صلاته ، قيل له : كذلك نقول ، وقد ورد مثله عن عليِّ وغيره ، إذ ناداه رجل من الخوارج (لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين)24 ، قال : أجابه عليٌّ وهو في الصلاة (فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفَّنك الذين لا يوقنون)25 ، وعن ابن مسعود أنه استأذن عليه بعض أصحابه فقال : (أدخلوا مصر إن شاء الله آمنين)26 . قال : فإن قيل : أليس إذا قال : (يا يحيى خذ الكتاب بقوة) ونوى به خطاب غلام اسمه يحيى يكون الخطاب مخلوقاً ، وإن نوى به القرآن يكون قديماً ؟! قيل له : في كلا الحالين يكون قديماً ، لأن القديم عبارة عما كان موجوداً فيما لم يزل ، والمحدث عبارة عما حدث بعد أن لم يكن ، والنية لا تجعل المحدث قديماً ، ولا القديم محدثاً . قال : ومن قال هذا فقد بالغ في الجهل والخطأ .

وقال أيضاً كل شيء يشبه بشيء ما فإنما يشبهه في بعض الأشياء دون بعض ولا يشبهه من جميع أحواله ، لأنه إذا كان مثله في جميع أحواله كان هو لا غيره ، وقد بينا أن هذه الحروف تشبه حروف القرآن فهي غيرها )27

وبعد ما نقل ابن تيمية كلامه أردفه بقوله : ( هذا كلام القاضي يعقوب وأمثاله مع أنه أجلّ من تكلم في هذه المسألة ، ولما كان جوابه مشتملاً على ما يخالف النص والإجماع والعقل خالفه ابن عقيل وغيره من أئمة المذهب الذين هم أعلم به)28

وبعد أن حكى رد ابن عقيل عليه أتبعه بقوله : ( فهذا الذي قاله ابن عقيل أقل خطأ مما قاله البرزيني فإن ذلك مخالف للنص والإجماع والعقل مخالفة ظاهرة )29

فانظر كيف يسجل ابن تيمية كيف يسجل ابن تيمية على أحد كبار أئمتهم - يعدُّه أجل من تكلم في هذه المسألة - مخالفة النص والإجماع والعقل مخالفة ظاهرة ، ولم يبرئ ابن عقيل - الذي يعتبره أعلم منه بالمذهب - من الخطأ ، وإن عد خطأه أقل من خطأ البرزيني ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل نجده ينقل عن أئمتهم تكفير من قال قول البرزيني ، فقد نقل عن حمّاد بن زيد أنه سئل عمن قال كلام الناس ليس بمخلوق . فقال : هذا كلام أهل الكفر . كما نقل عن المعتمر بن سليمان أنه قال : هذا كفر . ولم يعلق عليهما ابن تيمية إلا بما يقتضي تأييدهما30.   وبما تجده من خلاف حاد بينهم في هذه المسألة بحيث يتعذر الجمع بين أقوالهم وتدرك أنهم لم يتقيدوا فيها بضوابط ، ولذلك أرسل بعضهم فيها عنان القول حتى زعم أن جلد المصحف والوتد الذي يعلق به وما حول الوتد من الحائط ، كل ذلك من كلام الله فهو غير مخلوق في زعمهم ، وهو وإن عزاه ابن تيمية إلى جهلتهم31 فما أدراك لعل أولئك يعدون معارضيهم هم الجهلة ويزعمون أيضاً مثلهم أنهم أسعد بمذهب الإمام أحمد .

وبهذا تدرك أخي القارئ خطورة هذه العقيدة وما جرَّته على الإسلام من بلاء ، فإن إضفاء صفة القِدم32  على ما لا يماري عاقل ولا يكابر حسٌّ في حدوثه ، كالجلود ، والأوتاد ، والحوائط ، أمر لا يبقى بعده إلا إثبات قِدم العالم بأسره وإنكار الألوهية رأساً ، وإلا فكيف يمكن إقرار صفات الألوهية والربوبية والوحدانية لله سبحانه مع إثبات صفة القِدم لغيره عز وجل بنفي أن يكون مخلوقاً له تعالى ، على أن تفرّده تعالى بالقِدم كتفرده بالألوهية سواء بسواء ، فإذا جاز لأحد أن يشاركه في إحدى الصفتين جاز ذلك في الأخرى ، وفي هذا ما يكشف لكل ذي عينين أن إثارة بحث هذه القضية في الوسط الإسلامي لم يكن إلا مؤامرة دبرها أعداء الإسلام لصرف المسلمين عن عقيدة التوحيد الخالصة ، وتمزيق شملهم بهذه الأقوال المتباينة والمذاهب المتعارضة .

وقد أدرك ذلك أحد العلماء المتأخرين الذين تأثروا بعقيدة الحنابلة ، تأثراً أفضى به إلى التعصب الذي يجب على الباحث المسلم أن يكون بعيداً عنه ، وهو الإمام الشوكاني الذي ترك عقيدته الزيدية واعتنق ما يسمى بالعقيدة السلفية ، فقد قال في تفسيره المشهور : ( ولقد أصاب أئمة السنة بامتناعهم من الإجابة إلى القول بخلق القرآن وحدوثه وحفظ الله بهم أمة نبيهم عن الابتداع ، ولكنهم رحمهم الله جاوزوا ذلك إلى الجزم بقِدمه ، ولم يقتصروا على ذلك حتى كفَّروا من قال بالحدوث ، بل جاوزوا ذلك إلى تكفير من قال لفظي بالقرآن مخلوق ، بل جاوزوا ذلك إلى تكفير من وقف ، وليتهم لم يجاوزوا حدّ الوقوف وإرجاع العلم إلى علاّم الغيوب ، فإنه لم يسمع من السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى وقت قيام المحنة وظهور القول في هذه المسألة شيء من الكلام ، ولا نُقل عنهم كلمة في ذلك ، فكان الامتناع من الإجابة إلى ما دعوا إليه ، والتمسك بأذيال الوقف ، وإرجاع علم ذلك إلى عالمه هو الطريقة المثلى ، وفيه السلامة والخلوص من تكفير طوائف من عباد الله ، والأمـر لله سبحانه)33

ولا يخفى على ذي عقل ما في كلامه هذا من الاعتراف بالحقيقة مع التعصب للذين نُسب إليهم أن الله وقى بهم الأمة شر الابتداع ، بجانب ما ذكره من أنهم أتوا به من غير حجة ولا دليل ، واجترأوا على تكفير طوائف من عباد الله من غير صحة ولا برهان ، وأي ابتداع أخطر على الأمة من ذلك ؟ وأما اختلافهم في تعلق مشيئة الله بكلامه فقد نصَّ عليه ابن تيمية حيث قال : ( وأحمد قد صرّح هو وغيره من الأئمة أن الله لم يزل متكلماً إذا شاء ، وصرّح أن الله يتكلم بمشيئته ، ولكن اتباع ابن كلاب كالقاضي وغيره تأولوا كلامه على أنه أراد بذلك إذا شاء الإسماع ، لأنه عندهم لم يتكلم بمشيئته وقدرته .

وصرّح أحمد وغيره من السلف أن القرآن كلام الله غير مخلوق ، ولم يقل أحد من السلف إن الله تكلم بغير مشيئته وقدرته ، ولا قال أحد منهم إن نفس الكلام المعين كالقرآن أو ندائه لموسى أو غير ذلك من كلامه المعين إنه قديم أزلي لم يزل ولا يزال . وأن الله قامت به حروف معينه ، أو حروف وأصوات معينه قديمة أزلية لم تزل ولا تزال ، فإن هذا لم يقله ولا دلّ عليه قول أحمد ولا غيره من أئمة المسلمين ، بل كلام أحمد وغيره من الأئمة صريح في نقيض هذا ، وأن الله يتكلم بمشيئته وقدرته ، وأنه لم يزل يتكلم إذا شاء مع قولهم إن كلام الله غير مخلوق وإنه منه بدأ ليس بمخلوق ابتدأ من غيره ، ونصوصهم بذلك كثيرة معروفة في الكتب الثابتة عنهم ، مثل ما صنفه أبو بكر الخلال في كتاب السنة وغيره ، وما صنفه عبد الرحمن بن أبي حاتم من كلام أحمد وغيره ، وما صنفه أصحابه كابنيه صالح وعبد الله ، وحنبل ، وأبي داود والسجستاني صاحب السنن ، والأثرم ، والمروذي ، وأبي زرعة ، وأبي حاتم ، والبخاري صاحب الصحيح ، وعثمان بن سعيد الدارمي ، وإبراهيم الحربي ، وعبد الوهاب الوراق ، وعباس بن عبد العظيم العنبري ، وحرب بن إسماعيل الكرماني ، ومن لا يحصى عدده من أكابر أهل العلم والدين وأصحاب أصحابه ممن جمع كلامه وأخباره كعبد الرحمن بن أبي حاتم ، وأبي بكر الخلال وأبي الحسن البناني الأصبهاني ، وأمثال هؤلاء ، ومن كان أيضاً يأتم به وبأمثاله من الأئمة في الأصول والفروع كأبي عيسى الترمذي صاحب الجامع ، وأبي عبد الرحمن النسائي ، وأمثالهما ، ومثل أبي محمد ابن قتيبة وأمثاله)34

وأنت تدري أن الذين ذهبوا إلى أن كلام الله بغير مشيئته منهم ، بنوا قولهم هذا على ما يستلزمه جعل كلامه الحرفي صفة قديمة قائمة بذاته عز وجل ، فإن القديم بقِدمه لا تسبقه مشيئة كالعلم والقدرة ، والحياة وأمثالها من صفاته تعالى ، فكما لا يقال إن الله قادر بمشيئته ، وحيّ بمشيئته ، وعليم بمشيئته لئلا يسبق إلى الأفهام حدوث هذه الصفات يلزم القائلين بقِدم تكلمه تعالى أن يقولوا إنه غير معلق بمشيئته ، وعندما أحس ابن تيمية بوقوعه في هذا الفخ لجأ إلى هدم كل ما بناه ، ونقض كل ما أصَّله في هذه المسألة ، حيث قال : ( ولا قال أحد منهم - أي السلف - إن نفس الكلام المعين كالقرآن أو نداءه لموسى ، أو غير ذلك من كلامه المعين إنه قديم أزلي لم يزل ولا يزال ، وأن الله قامت به حروف معينة أو حروف وأصوات معينة قديمة أزلية لم تزل ولا تزال ، فإن هذا لم يقله ولا دل عليه قول أحمد ، ولا غيره من أئمة المسلمين ، بل كلام أحمد وغيره من الأئمة صريح في نقيض هذا)35

وإذا كان الأمر كما قرره هنا ففيم إذن هذا الضجيج ؟ ولماذا يقال إن القرآن غير مخلوق ؟ مع إنكاره أن يقول أحد من السلف بأزليته .

فإن قيل إن مرادهم بإنكار خلق القرآن ، والإنكار على من قال ذلك لم يريدوا به إلا إنكار كونه ناشئاً عن غيره تعالى ، كما يفيده قول ابن تيمية - فيما سبق نقله عنه - ( مع قولهم أن كلام الله غير مخلوق وأنه منه بدأ ، ليس بمخلوق ابتدأ من غيره )36

فالجواب أن وصف شيء بالمخلوقية لا يعني بحال أنه صادر عن غير الله تعالى ، فالسماوات والأرض وما فيهما ومن فيهما لم تنشأ من غيره تعالى ، فهل يسلب شيئاً منها صفة المخلوقية لأجل ذلك ، وكما أن مبدأ القرآن من الله - كما نص عليه ابن تيمية - فإن مبدأ الكون منه تعالى (أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)37

وما أعجب التناقض والاضطراب في قول ابن تيمية : ( إن كلام الله غير مخلوق وإنه منه بدأ ليس بمخلوق ابتدأ من غيره ) ، حيث نفى الخلق عن الكلام وأثبت له البداية ، وهل البداية إلا خلق ، وقوله في آخره : ( ليس بمخلوق ابتدأ غيره ، إن كان مراده به أن كل مخلوق ابتدأ من غير الله فهو مردود بأدلة العقل والنقل كما هو واضح مما ذكرته قبل قليل ، وإن كان مراده به نفي اجتماع الصفتين في كلامه تعالى - وهما خلقه وابتداؤه من غيره - فلا معنى لذلك إلا أن يحمل ابتداؤه من غيره على أنه وصف مقيد للخلق المنفي ، وهذا - ورب الكعبة - هو عين ما يقوله القائلون بخلق القرآن ، إذ لا قائل منهم بأنه ابتدأ من غيره سبحانه ، فإن الكل مُجمعون على أنه كلامه عز وجل ووحيه وتنزيله .

فإن قيل لعل في هذا النص الذي نقلته عن ابن تيمية خطأ مطبعي أدى إلى هـذا اللبس ؟

فجوابه أن ثمَّ نصوصاً أخرى تدل على نفس المعنى ، فاحتمال الخطأ فيه احتمال بعيد يكاد يكون متعذراً ، ومن هذه النصوص

إن السلف قالوا : القرآن كلام الله المنزل غير مخلوق ، وقالوا لم يزل متكلماً إذا شاء ، فبينوا أن كلام الله قديم ، أي جنسه قديم لم يزل ، ولم يقل أحد منهم إن نفس الكلام المعين قديم ، ولا قال أحد منهم القرآن قديم ، بل قالوا إنه كلام الله المنزل غير مخلوق ، وإذا كان الله قد تكلم بالقرآن بمشيئته كان القرآن كلامه وكان منزلاً منه غير مخلوق ، ولم يكن مع ذلك أزليًّا قديماً بقِدم الله ، وإن كان الله لم يزل متكلماً إذا شاء فجنس كلامه قديم . )38

وكما لم يقل أحد من السلف إنه مخلوق فلم يقل أحد منهم إنه قديم ، لم يقل واحداً من القولين أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ، ولا من بعدهم من الأئمة الأربعة ولا غيرهم ، بل الآثار متوترة عنهم أنهم كانوا يقولون القرآن كلام الله ، ولما ظهر من قال إنه مخلوق قالوا رداًّ لكلامه ، إنه غير مخلوق39

والسلف قالوا لم يزل الله تعالى متكلماً إذا شاء فإذا قيل كلام الله قديم ، بمعنى أنه لم يصِر متكلماً بعد أن لم يكن متكلما ولا كلامه مخلوق ، ولا معنى واحد قديم قائم بذاته ، بل لم يزل متكلماً إذا شاء ، ولم يقل أحد من السلف إن نفس الكلام المعين قديم { في الأصل قديماً} ، وكانوا يقولون : كلام الله المنزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود ، ولم يقل أحد منهم إن القرآن قديم ، ولا قالوا إن كلامه معنى واحد قائم بذاته ، ولا قالوا إن حروف القرآن أو حروفه وأصواته قديمة أزلية قائمة بذات الله ، وإن كان جنس الحروف لم يزل الله متكلماً بها إذا شاء ، بل قالوا إن حروف القرآن غير مخلوقة ، وأنكروا على من قال إن الله خلق الحـروف )40

ويستخلص من كلامه هذا ما يلي

تفسير قِدم كلامه تعالى بكونه سبحانه قد كان في الأزل متكلماً - أي غير عاجز عن الكلام وهو كذلك فيما لا يزال - وهذا أمر غير مختلف فيه بيننا وبينهم ، فإنا جميعاً نثبت له سبحانه صفة الكلام أزلاً بهذا المعنى ، وهو مفهوم من كثير من نصوص علمائنا ، وقد تقدم عن صاحب المعالم رحمه الله تعالى أنه نقل الإجماع عليه

-1

أن ابن تيمية وجميع علماء سلفه الذين يعتمد عليهم لا يقولون في القرآن المنزل على نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قديم العين ، كما لا يقولون ذلك في شيء من الكتب المنزلة ، ولا أي كلام ينسب إليه تعالى كالذي كلّم به موسى عليه السلام ، ولا يقولون في شيء من ذلك أنه صفة قديمة ، أو أنه قائم بذات الحق تعالى ، وهذا لا خلاف بيننا وبينهم فيه وإنما هو مخالف لما نص عليه كثير من الأشعرية والكلابية41 أو الحنابلة أنفسهم ؛ من كون القرآن موصوفاً عينه بالقِدم ، وأنه صفة لله قائمة بذاته عز وجل ، وكذلك سائر الكتب المنزلة وكل كلام ينسب إليه تعالى ، وقد سبق نقل بعض هذه النصوص

-2

أنهم مع اعترافهم بعدم قِدم القرآن وسائر الكتب المنزلة ، ينفون عنها صفة المخلوقية ، ويضللون أو يكفِّرون من قال بخلقها ، وهذا محط العجب ، وموضع الاستغراب ، فإن الكائنات بأسرها إما أن تكون قديمة أزلية لم يسبق وجودها عدم ، وإما أن تكون حادثة كانت بعد أن لم تكن ، وهي في هذا الكون بحاجة إلى من أخرجها من العدم إلى الوجود وهذا هو معنى الخلق كما سبق في مقدمة هذا المبحث ، ولا أدل على وجود الخالق سبحانه وتعالى من حدوث مخلوقاته ، ولذلك نجد في القرآن التعجيب من حال أولئك الذين ينكرونه تعالى ، أو يشكون فيه مع قيام هذه الشواهد الدالة عليه من خلقه ، كما تجد ذلك واضحاً في قوله سبحانه : (أفي الله شك فاطر السماوات والأرض)42   ، فإن غير القديم الأزلي يتعذر عليه أن يخرج بنفسه من العدم إلى الوجود ، لتعذر أن تكون للمعدوم قدرة أو إرادة أو غير ذلك من الصفات التي يتوقف عليها هذا الخروج ، ولو جاز ذلك في القرآن أو نحوه من الكلام المؤلف من الحروف ، المنتظم من الكلمات والجمل الدالة على المعاني لأمكن في سائر الأعراض ، ولو أمكن في الأعراض لأمكن في الأجسام لعدم الفارق بينهما

-3

ولئن فُتح باب تجويز وجود شيء بعد عدمه من غير خلق ، فلن يقف شيء في وجه الملاحدة الذين يدعون أن حدوث الكون ونظامه لم يكن إلا بالصدفة العمياء من غير أن يبدعه خالق أو يدبره مدبر ، وإن أشد ما يدعو إلى الاستغراب أن يعترف أحد بوجود شيء بعد عدمه ثم ينفي مع ذلك أن يكون الله تعالى خلقه ، مع النصوص القرآنية القاطعة بأن الله خلق الأشياء كلها ، كقوله تعالى : (الله خالق كل شيء)43 ، وقوله : (وخلق كل شيء فقدره تقديرا)44   ، فإن هذا النفي يستلزم إما إنكار وجود ما نفى خلقه رأساً ، وهذا عين اعتقاد الذين قالوا : (ما أنزل الله على بشر من شيء)45  ، وإما إنكار هذه النصوص كما سيأتي بيانه إن شاء الله في الفصل الرابع من هذا المبحث .

وقد يتبادر أن الخلاف بيننا وبينهم لا يعدو أن يكون لفظيا ، ما داموا يعترفون بحدوثه ، وإنما أمسكوا عن القول بخلقه الذي أقدمنا عليه.

والجواب يمكن أن يكون كذلك لو أنهم اكتفوا بالإمساك ولم يظللوا أو يكفِّروا من أطلق القول بموجب ما أفادته نصوص القرآن المشار إليها ، أما مع ما صدر منهم من تكفير وتبديع وتضليل أُولي البصائر الذين لم يجترئوا على الدخول في هذه المداخل ، ولم يقدموا على سلوك هذه المسالك ، إلا ببينة من نصوص القرآن التي بصَّرتهم بمواطئ الأقدام ، وصانتهم عن مزالق الأفهام ، فلا وجه لاعتبار الخلق لفظيا ، على أن منع ما صرَّح به القرآن لا وجه له ، لأن القرآن حجة في التعبير ، كما أنه حجة في التعبد ، وإن كنا نقنَع في القضية باعتقاد أن القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله ، وأن ما عدا الله مخلوق ولو لم يُخص القرآن باعتقاد خلقه لاندراجه في العموم ، وهذا الذي مضى عليه السلف من الصحابة فمن بعدهم قبل نشوب فتنة الخلاف في القضية ، وعليه مضى المتقدمون السَّابقون من علماء عُمَان كما سبق ، وقد صرَّح ابن تيمية نفسه فيما مضى أنه لم يقل أحد من الصحابة ولا التابعين بقِدمه46.

وإذا كانوا لم يقولوا بقِدمه فمن أين لهم أنهم قالوا بنفي خلقه ؟ مع أن هذه القضية لم يُثَرْ بحثها إلاّ بعد انطواء عصورهم ؟ ومن المعلوم قطعاً أن الصحابة رضوان الله عليهم ما كانوا لينفوا صفة المخلوقية عن شيء غير الله سبحانه مع هذه النصوص القرآنية القاطعة بأن الله خالق كل شيء ، ومع إجماع العقلاء أن ما لم يكن قديماً فهو حادث ، وأن كل حادث لا بد له من محدث أحدثه ، أي أخرجه من العدم إلى الوجود ، وهذا هو عين الخلق .

وبالجملة فإنك إذا استقريت ما كتبوه في هذه المسألة وجدتهم يقعون على ما منه يحذرون ، ويعذلون على ما فيه يعذرون .

وهذا قليل من كثير من الاضطراب الذي وقع فيه القائلون بقِدم القرآن وغيره من كلام الله المنزل على أنبيائه ورسله . ولم أرد به إلا التنبيه ، ومن أراد استقصاء ذلك فليرجع إلى مؤلفات أصحاب هذا القول كفتاوى ابن تيمية المجلد الثاني عشر ، الذي بلغت صفحاته ستمائة صفحة ، لا تكاد تنتقل منها من موضوع إلى غيره حتى تشاهد من تناقض كلامه ما يكفيك حجة ودليلا على أن القاعدة التي أسسوا عليها هذا المعتقد متداعية من أسسها ، وما كان أغناهم عن الدخول في هذه المتاهات ، لو أنهم اقتصروا على ما درج عليه السلف من القول السليم في القرآن والخلق ، وهو أن القرآن كتاب الله ووحيه وتنزيله ، وأن كل ما سوى الله مخلوق ، وإذا لم يكن بدّ من تجاوز هذا الإجمال إلى التفصيل فالواجب يحتم أن يكون الأصل الذي يرجع إليه ما دل عليه صريح الكتاب العزيز والسنة الصحيحة مما ستقف عليه إن شاء الله في آخر فصل من هذا المبحث ، لا أن يعوَّل على قول أحد بعينه ، ويجعل هو مدار الاحتجاج فإن كلا يخطئ ويصيب ، ولا يجوز اتباع أحد بدون دليل إلا من كان قوله نفسه دليلاً ، وهو المحفوف بالعصمة الذي وصفه العلي الأعلى بقوله : (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)47  ، أما من عداه فكل منهم - وإن علا قدره وارتفع شأوه - راد ومردود عليه وآخذ ومأخوذ عليه .


الهوامش والتعليقات

الصواعق المرسلة ص440 مطبعة الإمام 13 شارع قرقول المنشية مصر

1

فتاوى ابن تيمية المجلد الثاني عشر ص83 / 85 ط1 مطابع الرياض

2

فتاوى ابن تيمية المجلد الثاني عشر ص85

3
الآيات 102 من سورة الأنعام و 16 من سورة الرعد و62 من سورتي الزمر وغافر 4

الآية 2 من سورة الفرقان

5

فتاوى ابن تيمية المجلد الثاني عشر ص179

6

فتاوى ابن تيمية المجلد 12 ، ص359/363

7

فتاوى ابن تيمية المجلد 12 ، ص422

8

فتاوى ابن تيمية المجلد 12 ، ص423/427

9

فتاوى ابن تيمية المجلد 12 ، ص167

10

فتاوى ابن تيمية المجلد 12 ، ص54/55

11

فتاوى ابن تيمية المجلد 12 ، ص55

12

فتاوى ابن تيمية المجلد 12 ، ص85

13

الصواعق المرسلة ص435

14

فتاوى ابن تيمية المجلد الثاني عشر ص571

15

كذا فيما وجدناه في الفتاوى المطبوعة والظاهر أن الصواب ( غيـر مخلوق ) ليتفق مع نسق الكلام ومع ما ذكره في غير هذا المقام

16
كذا في الفتاوى والصواب أبو داود 17

فتاوى ابن تيمية المجلد الثاني عشر ص572/574

18

فتاوى ابن تيمية المجلد الثاني عشر ص207/208

19

المرجع السابق ص208/209

20

المرجع السابق ص366

21

الآية 59 من سورة النساء

22

المرجع السابق ص88

23

الآية 65 من سورة الزمر

24

الآية 60 من سورة الروم

25

الآية 99 من سورة يوسف

26

المرجع السابق ص86/91

27

المرجع السابق ص91

28

المرجع السابق ص326

29

المرجع السابق ص93

30

المرجع السابق ص381

31

ما داموا ينكرون خلق هذه الأشياء فلا ريب أنها عندهم قديمة

32

فتح القدير ج3 ص384 ، ط. مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر

33

المرجع فتاوى ابن تيمية المجلد الثاني عشر ص85/87 ، مطابع الرياض ط1

34

المرجع السابق ص86

35
المرجع السابق 36

الآية 64 من سورة النمل

37

المرجع السابق ص54

38

المرجع السابق ص301

39
المرجع السابق ص 567 40

هم أصحاب عبدالله بن سعيد بن كلاب وذكر ابن تيمية أنه أول من صرّح بقِدم القرآن ، راجع فتاواه المجلد الثاني عشر ص301 ، وذكر أنهم اختلفوا في ذلك اختلافاً بيناً

41

الآية 10 من سورة إبراهيم

42

الآية 16 من سورة الرعد

43

الآية 2 من سورة الفرقان

44
الآية 91 من سورة الأنعام 45

المرجع السابق ص301

46
الآيتان 3 و 4 من سورة النجم 47

الفصل الثالث

أدلة النافين لخلق القرآن

سبق في صدر هذا المبحث بيان الشبهة التي نشأ عنها القول بعدم خلق القرآن وسائر الكلام المنزل ، وهي التباسه عند قائلي ذلك بصفة الكلام التي يراد بها نفي الخرس ، وبالعلم الذاتي لأن الله محيط به علماً ، وعلمه أزلي غير حادث ، وتقدم جلاء هذا اللبس بما لا يدع مجالاً للشك والحمد لله ، وبجانب ما ذكرته تعلق أصحاب هذا القول بأمور :

أن الله تعالى امتن على عباده بتعليمه القرآن لا بخلقه حيث قال : (الرحمن علَّم القرآن)1

وهو كما ترى احتجاج سلبي بما لا ينص على عدم الخلق ، ولا يفهم منه ذلك بحال ، فإن الامتنان بالتعليم لو كان دليلاً على عدم الخلق لاقتضى ذلك أن يكون البيان كله غير مخلوق ، لقوله سبحانه إثر ذلك (خلق الإنسان علَّمه البيان)2 ، ولم يقل خلق له البيان ، وإنما الامتنان في الموضعين كان بالتعليم لا بالخلق لأنه منشأ الانتفاع بهما ، وقد امتن الله على عباده بتسخير المخلوقات لهم حيث قال : (وسخَّر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه)3 ، فهل يقال بأن ذلك حجة على عدم خلق ما في السماوات وما في الأرض مما سخَّره الله للعباد ، بحجة امتنانه تعالى بتسخيره دون خلقه

أحدها

قوله تعالى بـ (له الخلق والأمر)4 ، وموضع استدلالهم به ، عطف الأمر على الخلق ، وذلك أنهم قالوا إن الخلق هو المخلوق والأمر كلامه تعالى الذي هو غير مخلوق ، وهو قوله ( كن ) ( إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون)5 ، وفي هذه التفرقة بين الخلق والأمر دليل على فساد قول من قال بخلق القرآن ، إذ لو كان كلامه الذي هو أمر مخلوقاً لكان قد قال ألا له الخلق والخلق وذلك غث من الكلام ، ومستغث ومستهجن ، روى ذلك عن ابن عيينة ، وذكره غير واحد من المفسرين منهم ابن أبي حاتم والقرطبي والقاسمي.

وفساد قولهم هذا أبين من أن يحتاج إلى بيان ، فقد استدلوا بغير دليل ، وتعلقوا بغير متعلق ، وهو إن دل على شيء فلا يدل إلا على الإفلاس من الحجة ، والحيرة عن الحقيقة ، وإنني لفي شك مريب في صحة نسبة هذا الاستدلال إلى ابن عيينة مع رسوخ قدمه في العلم ، وطول باعه في الفهم ، فقد اشتهر بين أقرانه بحسن الرواية وعمق الدراية ، ولئن كان ذلك ثابتاً عنه فهي عثرة لا لعا بعدها ، وكبوة لا ثورة بعدها ، كيف وهو استدلال منتقض بنيانه ، متداعية أركانه من وجوه شتى :

أن سياق هذا الكلام غير خارج عن القول في انفراد الله تعالى بإيجاد الحادثات وتصريفها وفق مشيئته ، فإن نص الآية كلها (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين)6 ، وغاية ما تدل عليه أن الله سبحانه وتعالى كما انفرد بإيجاد الكون من العدم فهو منفرد بتصريفه ، لا مشارك له في خلقه ولا في تدبيره ، إذ ليس لأحد غيره شيء من الخلق أو التدبير ، بل له تعالى وحده الخلق والأمر ، والمراد به هنا التدبير كما هو واضح ، وليس في ذلك ما يشير إلى قِدم القرآن أو حدوثه ولو من بعيد

أولها

أن العطف لا يقتضي التغاير من كل وجه ، بل يكفي فيه أن يكون التغاير اعتبارياًّ كتغاير الخصوص والعموم ، والإطلاق والتقييد ، وتغاير الصفات مع وحدة الموصوف ، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى)7 ، فإن الصلاة الوسطى لم تخرج عن كونها من جنس الصلوات التي أمر بالمحافظة عليها ، وقوله تعالى : (من كان عدو لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال .. الآية )8 ، ولا قائل بخروج جبريل وميكال من جنس الملائكة ، وقوله جل وعلا : (تلك آيات الكتاب وقرآن مبين)9 ، وقوله : (تلك آيات القرآن وكتاب مبين)10 ، والكتاب فيهما عين القرآن ، وليس تغايرهما إلا اعتبارياًّ ، وقوله عز من قائل : (إن الله يأمر بالعدل والإحسان)11 ، ولا يماري عاقل في كون العدل إحساناً والإحسان عدلاً

ثانيها

أن أمر الله تعالى ذكر في القرآن مقروناً بما يدل على خلقه ، فقد قال عز وجل : (وكان أمر الله مفعولاً)12 ، وقال : (ليقضي الله أمراً كان مفعولا)13 ، والمفعول والمقضي لا يكونان إلا حادثين لتعذر سبقهما على الفعل والقضاء ، وقال تعالى : (وكان أمر الله قدراً مقدورا)14 ، وكيف يكون المقدور أزلياًّ ، وقال سبحانه : (يدبِّر الأمر من السماء إلى الأرض)15 ، والمدبِّر حادث ، وقال : (وما أمرنا إلا واحدة كلمحٍ بالبصر)16 ، وقال : (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك)17 ، وهو دليل على أنه لم يقع بعد عند نزول الآية لأنه منتظر وقوعه ، وقال تعالى : (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور)18 ، وليس المراد به هنا إلا ما عاقب به قوم نوح من الغرق ، والعقل والنقل قاضيان بحدوث ذلك

ثالثها

أن أمره تعالى قد يراد به في موضع من القرآن غير ما أريد به في موضع آخر ، فهو في قوله تعالى : (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور) غير المراد به في قوله عز وجل :(أتى أمر الله فلا تستعجلوه)19 ، وقوله : (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك)

رابعها

أن حمل الأمر في هذه الآيات التي أوردناها على القرآن غير مستساغ ،لأنه من المعلوم قطعاً أنه ليس هو المراد بقوله : (أو يأتي أمر ربك) وقوله : (أتى أمر الله) وقوله : (حتى إذا جاء أمرنا) وقوله : (ليقضي الله أمراً كان مفعولا) وقوله : (وكان أمر الله قدراً مقدوراً) فكيف يحمل في قوله : (له الخلق والأمر) على القرآن ، والسياق دال على خلافه

خامسها

وقد تنبه أئمة التفسير الحاذقون لفساد هذا القول ، فرفضوه من أساسه حتى أولئك القائلون منهم بقِدم القرآن ، فمنهم من لم يعرج عليه رأساً بل اكتفى بإيراد القول الحق في تفسير الآية كابن جرير إذ قال في تفسير الأمر فيها20 : "أمرهن الله فأطعن أمره ألا لله الخلق كله ، والأمر الذي لا يخالف ولا يرد أمره دون ما سواه من الأشياء كلها ، ودون ما عبده المشركون من الآلهة والأوثان التي لا تضر ولا تنفع ، ولا تخلق ولا تأمر ، تبارك الله معبودنا الذي له عبادة كل شيء رب العالمين .

حدثني المثنى قال : ثنا إسحاق ، قال : ثني هشام أبو عبد الرحمن ، قال :

ثنا بقية بن الوليد ، قال : ثني عبد الغفار بن عبد العزيز الأنصاري عن عبد العزيز الشامي عن أبيه ـ وكانت له صحبة ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح ، وحمد نفسه قلَّ شكره وحبط عمله ، ومن زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئاً فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه ، لقوله : (له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) "

ومنهم من أشار إليه وأنكره كالألوسي ، فإنه بعدما ذكر ما نسب إلى ابن عيينة أتبعه بقوله : (وليس بشيء)21

وقال الفخر - بعد أن حكى عن أصحابه احتجاجهم بهذه الآية على أن كلام الله قديم وما ردَّ به عليهم - قال القاضي : أطبق المفسرون على أنه ليس المراد بهذا الأمر كلام التنزيل بل المراد به نفاذ إرادة الله تعالى ، لأن الغرض بالآية تعظيم قدرته ، وقال آخرون لا يبعد أن يقال : الأمر وإن كان داخلاً تحت الخلق إلا أن الأمر بخصوص كونه أمراً يدل على نوع آخر من الكمال والجلال ، فقوله : (له الخلق والأمر) معناه له الخلق والإيجاد في المرتبة الأولى ، ثم بعد الإيجاد والتكوين فله الأمر والتكليف في المرتبة الثانية ، ألا ترى أنه لو قال له الخلق وله التكليف وله الثواب والعقاب كان ذلك حسناً مفيداً ، مع أن الثواب والعقاب داخلان تحت الخلق ، فكذا هاهنا ، وقال آخرون : معنى قوله : (ألا له الخلق والأمر) هو أنه إن شاء خلق وإن شاء لم يخلق ، فكذا قوله : (والأمر) يجب أن يكون معناه إنه إن شاء أمر وإن شاء لم يأمر ، وإذا كان حصول الأمر متعلقاً بمشيئته لزم أن يكون ذلك الأمر مخلوقاً ، كما أنه لما كان حصول المخلوق متعلقاً بمشيئته كان مخلوقاً ، أما لو كان أمر الله قديماً لم يكن ذلك الأمر بحسب مشيئته بل كان ذلك من لوازم ذاته ، فحينئذ لا يصدق عليه أنه إن شاء أمر وإن شاء لم يأمر ، وذلك ينفي ظاهر الآية.22

وهو وإن اعترضه بقوله : ( إنه لو كان الأمر داخلاً تحت الخلق كان إفراد الأمر بالذكر تكريراً محضاً ، والأصل عدمه ، أقصى ما في الباب أنا تحملنا ذلك في صور لأجل الضرورة إلا أن الأصل عدم التكرير )23

فإن اعتراضه هذا ساقط بما تقدم من كلامه وبما ذكرته في صدر الرد على هذا الاستدلال .

ونسب أبو حيان هذا الاستدلال بالآية إلى النقَّاش وغيره ، وأتبعه بقوله : ( وهذا استدلال ضعيف إذ لا يتعيَّن حمل اللفظ على ما ذكر بل الأظهر خلافه.24

وقال ابن كثير في تفسير الآية أي الجميع تحت قهره وتسخيره ومشيئته ، ولهذا قال منبهاً : ( ألا له الخلق والأمر ) أي له الملك والتصرف.25

ونقل جمال الدين القاسمي عن العلامة البقاعي أنه قسم الممكنات الموجودة - وهي ما سوى الله - إلى قسمين ، قسم من شأنه أن يدرك بالحواس الظاهرة ، ويسمى في عرف أهل الشرع الشهادة والخلق والملك ، وقسم لا يدرك بالحواس الظاهرة ، ويسمى الغيب والأمر والملكوت ، والأول يدركه عامة الناس ، والثاني يدركه أولو الألباب الذين عقولهم خالصة عن الوهم والوساوس26.

وفسّر السيد رشيد رضا الأمر بقوله : ( وهو التشريع والتكوين والتصرف والتدبير)27

وقال الإمام ابن عاشور : ( الخلق إيجاد الموجودات والأمر تسخيرها للعمـل الذي خلقت لأجله ) ، ثم قال : ( والتعريف في الخلق والأمر تعريف الجنس ، فتفيد الجملة قصر جنس الخلق وجنس الأمر على الكون في ملك الله تعالى ، فليس لغيره شيء ومن مثل هذا الجنس ، معناه ليس لآلهتهم شيء من الخلق ولا من الأمر )28.

ثانيها

قوله تعالى : (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق)29 ، ووجه استدلالهم به أن المراد (بالحق) الذي خلقها الله به قوله لها (كن) ، فلو كان هذا القول مخلوقاً لما صحَّ أن يخلق به المخلوقات لأن الخلق لا يخلق بمخلوق29

وجوابه من أوجه

أناَّ لا نُسَلِّم أن المراد (بالحق) هنا ما ذكرتموه فإن أولى ما فسر به القرآن القـرآن نفسه لقطعية حجته ، وقوة بيانه ، واتحاد مصدره ، وقوله تعالى : (ربنا ما خلقت هذا باطلاً)30 ، دال دلالة قاطعة على أن المراد ( بالحق ) في الآية ضد الباطل ، وأن المقصود باتصاف الله تعالى به في خلق السماوات والأرض وما بينهما انتفاء العبث عن الله تعالى في أفعاله .

وهو رد على ما يظنه الكفار من العبث في أفعاله تعالى كما هو صريح في قوله تعالى : (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا)31 ، وقوله : (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين)32 ، وقوله : (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون)33

أن المراد بـ (كن) في نحو قوله تعالى : (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون)34 ، التعلق التنجيزي لإرادته تعالى بأي شيء من الممكنات ، إيجاداً أو إعداماً ، ويبين ذلك قوله تعالى : (إذا أردناه) أي إذا تعلقت به إرادتنا تعلقاً تنجيزيًّا فيما لا يزال بعدما تعلقت به تعلقاً تقديريًّا في الأزل ، فإن ( إذا ) من الظروف الزمانية الدالة على الاستقبال ، ، ويؤكده قوله : (أن نقول له) بصيغة المضارع المقترنة بأن الدالة على الاستقبال أيضاً ، ومن المعلوم قطعاً أن ما كان أزليًّا لا تتعلق به الإرادة للزومه وعدم تقدم شيء عليه ، كعلمه تعالى وقدرته وحياته ، كما يؤكده أيضاً قوله : (فيكون) المقترن بالفاء المفيدة للترتيب والتعقيب وبهذا تعلم أن قوله تعالى : (كن فيكون) أينما جاء ما هو إلا كناية عن سرعة انفعال الأشياء له سبحانه حسب تعلق إرادته بها ، وإلا فليس هناك نطق بكاف ونون نطقاً حقيقياً

لو سلمنا ذلك فإن كلامنا في الكلام المنزل كالقرآن لا في الكلام غير المنزل

 

ثالثها

الإستعاذة بكلمات الله التامات كما جاء في حديث (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) ، ووجه الاستدلال أن كلماته لو كانت مخلوقة لما جازت الاستعاذة بها .

وجواب ذلك أن هذه الاستعاذة في حقيقتها هي بالله سبحانه لأنه رب الكلمات ، وإنما أدرجت الكلمات فيها لما جعل الله فيها من البركة والخير ، وهذا من باب المجاز35 ، وقد وردت في الحديث الصحيح : الاستعاذة بأفعاله تعالى كما في دعائه عليه أفضل الصلاة والسلام (وبمعافاتك من عقوبتك) والمعافاة فعل من أفعاله تعالى وهي حادثة قطعاً وإنما جازت الاستعاذة بها لأنها لا تصدر إلا عن الله .

رابعها

ما رواه أبو القاسم اللالكائي عن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال - لما قيل له حكَّمت رجلين - ( ما حكَّمت مخلوقاً ، ما حكَّمت إلا القرآن).

وجوابه أن نفيه لتحكيم المخلوق بتحكيم القرآن لأن القرآن من عند الله تعالى ، فكل ما فيه من أمر ونهي وإباحة وحظر وإقرار وردّ ، هو من عند الله تعالى ، فتحكيمه تحكيم له سبحانه الذي أنزله بعلمه ، وأسند أحكامه إلى نفسه حــيث قال : (ومن أحسن من الله حكماً)36.

خامسها

ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أنكر على رجل قوله : رب القـرآن .

والجواب أن هذه الرواية لو صحت لما كانت فيها حجة ، لأنها موقوفة على صحابي ، فكيف والأدلة ظاهرة على عدم صحتها ، منها أن الله سبحانه أضاف الرب إلى صفة ذاتية وهي ( العزة ) حيث قال : (سبحان ربك ربّ العزة عما يصفون)37 ، فكيف يمنع ابن عباس رضي الله عنهما إضافته إلى القرآن ولو على تقدير صحة القول الذي ذهبوا إليه ، ومنها أنه ورد في الحديث المرفوع (اللهم رب طه ويس) ، ومنها أن العرب تسمي سيد الشيء ومالكه ربًّا له ، كما في قولهم ربّ الأسرة ، ورب البيت ، فكيف يمنع مثله في القرآن إذا أضيف إلى رب العالمين ؟ بهذا كله يتبين عدم صحة هذه الرواية عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ومع تقدير صحتها يحتمل أن يكون إنكاره مبنيًّا على أنه يرى أن أسماء الله توقيفية ، فلا يدعى سبحانه إلا بما شرع من الأسماء ، وهو رأي مشهور عند الأمة .

سادسها

الهوامش والتعليقات

الآيتان 1 و 2 من سورة الرحمن

1

الآيتان 3 و 4 من سورة الرحمن

2
الآية 13 من سورة الجاثية 3

الآية 54 من سورة الأعراف

4
الآية 82 من سورة يس 5

الآية 54 من سورة الأعراف

6

الآية 238 من سورة البقرة

7

الآية 98 من سورة البقرة

8

الآية 1 من سورة الحجر

9

الآية 1 من سورة النمل

10
الآية 90 من سورة النحل 11

الآية 37 من سورة الأحزاب

12

الآية 42 من سورة الأنفال

13

الآية 38 من سورة الأحزاب

14

الآية 5 من سورة السجدة

15

الآية 50 من سورة القمر

16

الآية 33 من سورة النحل

17
الآية 40 من سورة هود 18

الآية 1 من سورة النحل

19

إبن جرير الطبري : جامع البيان عن تأويل آي القرآن ج8 ص206

20

روح المعاني ج8ص183

21

التفسير الكبير مفاتيح الغيب ج14 ص123/124 ط2

22

التفسير الكبير ك مفاتيح الغيب ج14 ص124 ط2

23

البحر المحيط ج4 ص310

24
تفسير ابن كثير ج2 ص221 25

محاسن التأويل ج3 ص357

26

المنار ج8 ص454

27

التحرير والتنوير ج8 ص169

28

الآية 85 من سورة الحجر

29
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج7ص222 30

الآية 191 من سورة آل عمران

31

الآية 27 من سورة ص

32

الآيتان 16 و 17 من سورة الأنبياء

33

الآيتان 38 و 39 من سورة الدخان

34
الآية 40 من سورة النحل 35

أنظر في ذلك جواب المحقق الخليلي على سؤال من سأله عن حديث ( اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك .. الخ ) - تمهيد قواعد الإيمان ج3 ط وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان

36
الآية 50 من سورة المائدة 37

الآية 180 من سورة الصافات

38

الفصل الرابع

أدلة القائلين بخلق القرآن

بعدمَا سمعتَ أخي القارئ ما في هذه المسألة من خلاف وتبين لك بالمقارنة الدقيقة ، الاضطراب الواضح في أقوال الذين أثبتوا للقرآن وغيره من كتب الله المنزلة صفة القِدم ، وتبين لك ضعف ما يتشبثون به ، أعرض عليك حجج الفريق الآخر ، وهم القائلون بأنه مخلوق .

وهي تنقسم إلى قسمين عقلية ونقلية :

ونبدأ بالعقلية فهي كما يلي :

أن تجويز تعدد القدماء منافٍ للوحدانية ، التي هي أخص صفاته تعالى ، لأنه يفضي إلى جواز تعدد الآلهة ، فإن الإله الحق سبحانه وتعالى إنما استحق الألوهية لسبقه على كل شيء في الوجود ، فلو كان له مقارن في الأزلية لجاز لذلك المقارن أن يشاركه في الألوهية ، إذ لا يمنع مانع من كونه خالقاً رازقاً مدبِّراً حكيماً .

فإن قيل : إن الله سبحانه وتعالى تميَّز عن القرآن وغيره من الكلام القديم بصفات استحق بها الانفراد بالألوهية والربوبية غير قِدمه كالعلم والقدرة ، والسمع والبصر .

فجوابه أن اختصاص الله سبحانه بهذه الصفات دون مُقَارِنِه في القِدم ترجيح له عليه ، والترجيح لابد له من مرجِّح .

فإن قيل : إن الكلام نفسه هو إحدى هذه الصفات التي استحق الله بها الانفراد بالخلق والأمر ، قلنا : إن تلك الصفات غير منفصلة عنه سبحانه ، وكلامنا هذا إنما هو في كلام حالٍّ في صدور الذين أوتوا العلم ، مسموع بالآذان ، متلو بالألسن ، مكتوب بالأقلام ، مسطور في الألواح ، فهو مخالف لجميع تلك الصفات .

-1

أن كل ما ثبت قِدمه استحال عدمه ، فإن وجود القديم وجود ذاتي ، واجب لا يفتقر إلى مرجِّح ، بخلاف وجود الجائز فيستحيل أن يكون لغيره سلطان عليه ، إثباتاً أو إزالة ، إنزالاً أو رفعاً ، إبقاءً أو إذهاباً ، والله تعالى يقول : (ولئن شئنا لنذهبنَّ بالذي أوحينا)1

-2

أن آثار الصنعة بادية عليه ، فإن كل حرف منه يفتقر إلى غيره لتتألف منها كلماته ، وكل كلمة منه بحاجة إلى أخواتها لتتركب منها جملة ، وهي في ذلك متغايرة غير مستغن بعضها عن بعض ، فالباء غير السين والسين غير الميم ، وبتركيب هذه الثلاثة الأحرف تتولد كلمة (بسم) ، والتركيب صنعة دالة على الصانع ، والصانع لابد أن يتقدم المصنوع ، فثبت بهذا المذكور من تباين هذه الحروف واختلافها وأتلافها في التركيب إن أحداً باين بينها وضعاً إذا جعل كلاً منها مخالفاً لسواه ، وركبها بهذه الصنعة التأليفية فوجد منها هذا الكلام البليغ .

-3

جواز تعليله كما تُعلل سائر أفعاله تعالى ، فيقال كلَّم الله موسى ليصطفيه على غيره بهذه المزية ، وكلَّم الله عباده بالقرآن ليقيم عليهم حجته ويهديهم سبله ، وجعل القرآن المكي أكثر عناية بقضايا العقيدة منه بالعبادات والأحكام لعتوِّ قريش وجهلها ، وجعل القرآن المدني أكثر عناية بالعبادات والأحكام لتأصل العقيدة بما أنزله من القرآن في مكة ، وذلك غير جائز في سائر صفاته تعالى ، كما لا يجوز تعليل ذاته عز وجل ، فلا يقال قدر الله على كذا لأجل كذا ولا علم كذا من أجل كذا ؛ ولا أبصر كذا بسبب كذا ، وهكذا في سائر الصفات .

-4

إقترانه بالزمان نحو قولك كلم الله موسى عندما ذهب إلى الطور وقد تقدم في صدر البحث ما يدل عليه من نصوص القرآن والسنة ، وصفاته عز وجل سابقة على الأزمنة فلا يجوز اقترانها بها .

-5

أن حروف القرآن هي نفس الحروف التي ينتظم منها كلام العرب ، نثره ونظمه ، سجعه ومرسله ، رجزه وقصيده ، ويشاركه فيها سائر كلام البشر ، فإن كان القرآن قديماً لزم قِدم كلام الناس لتركب كلامهم من هذه الحروف بعينها ، ويلزم من ذلك كون الكلام سابقاً على المتكلمين به وإلا فكيف يتألف القديم من الحوادث ؟

وإن قيل بقدمها في القرآن وسائر كلام الله دون كلام البشر لزم منه أن تجتمع في كل حرف منها صفتان متناقضتان ، الحدوث والقِدم ، وهل هذا إلا جمع بين النقيضين2.

فإن قيل إن هذه الحجة غير ملزمة لأن ابن تيمية وابن القيم فرَّقا بين حروف القرآن وسائر كلام الله تعالى ، وبين حروف كلام البشر ، بأنها وإن اتحدت فالوحدة بينها جنسية وليست عينية .

فجوابه أن قولهما مردود من وجهين

أنا لا نسلم أن هذه الوحدة ليست عينية ، إذ لو كان كذلك للزم تعدد الحرف الواحد بتعدد الناطقين به أو كاتبيه ، وأن تتغاير الأحكام فيه بحسب هذا التعدد

أولهما
أن الجنسية لا تجمع الحادث والقديم ثانيهما

 

-6

وأما النقلية فبعضها من القرآن وبعضها من السنة .

أما من القرآن فكثيرة وإنما أقتصر منها على ما يلي :

قوله تعالى : (خالق كل شيء)3 ، ووجه الاستدلال به أن القرآن إما أن يكون شيئاً أو لا شيء فإن لم يكن شيئاً فعلامَ الاختلاف إن كان المختلَف عليه معدوماً ؟ وما الذي أنزله الله وفصَّله وأحكمه إن كان ذلك غير واقع على شيء ؟ وإن كان شيئاً فما الذي يخرجه من هذا العموم ؟

فإن قيل : إن إجراء عموم الآية على كل شيء يستلزم أن يكون الله خالقاً لذاته وصفاته ، فجوابه أنه استحال عقلاً ونقلاً دخول الذات العلية في هذا العموم ، وقد عدَّ الأصوليون هذا التخصيص من باب التخصيص العقلي ، وصفاته تعالى كذاته في ذلك ، لاستحالة عدمها لِمَا يترتب عليه من وجود أضدادها تعالى الله عن ذلك .

فإن قيل والكلام صفة من هذه صفات فلماذا لم تستثنوه كما استثنيتموها من عمـوم الآية ؟ .

أجيب بأن كلامنا ليس في الكلام النفسي الذي هو صفة ذاتية لله عز وجل والذي تثبت بثبوته قدرته تعالى على الكلام ، وإنما كلامنا في كلام منزل متركب من الحروف تتلوه الألسن وتسمعه الآذان وتعيه العقول وتختزنه الأذهان ، ويدون في الصحف وهل لذلك مثيل من صفاته تعالى الذاتية ؟ .

-1

قوله تعالى : (وخلق كل شيء فقدره تقديرا)4 ، وهذا الوصف ظاهر في القرآن فإنه مقدرة سوره وآياته وجمله وكلماته ، وحروفه وحركاته ، وتلاوته ومعانيه ، وحكمه وأحكامه ، وأخباره ، وأمثاله .

-2

قوله تعالى : (إنا كل شيء خلقناه بقدر)5 ، وهذا كالذي قبله .

-3

قوله تعالى : (إنا جعلناه قرآناً عربيًّا لعلكم تعقلون)6 ، والاستدلال به على خلقه من وجهين :

ـ أولهما : الإخبار عنه أنه مجعول والمجعول هو المُصَيَّر من حال إلى حال ، وهذا لا يكون إلا في المخلوق .

ـ ثانيهما : تعليل جعله عربياًّ بقصد عقل المخاطبين له . ومثل هذه الآية سائر الآيات الناصة على أنه مجعول كقوله تعالى : (ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا)7

وقد شرح حجية الجعل على ثبوت الخلق الإمام محمد بن أفلح رضي الله عنه بقوله : ( إن الأمة اجتمعت على أن كل فاعل قبل فعله ، وأن الجاعل قبل المجعول وأن الصانع قبل صنعه ، وأن الجاعل غير المجعول ، فلما ثبت بينهما التغاير والقَبْل صح أنهما شيئان ، وأن الأول المتقدم هو الجاعل القديم ، والثاني المجعول هو الحادث الكائن بعد أن لم يكن )8

واستدل9 على أن الجعل إذا أسند إلى الله كان بمعنى الخلق بكثير من الآيات الدالة عليه كقوله تعالى : (وجعل الظلمات والنور)10 ، وقوله : (وجعل منها زوجها)11 ، وقوله : (هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوه فيه والنهار مبصرا)12 ، وقوله : (أمَّن جعل الأرض قراراً وجعل خلالها أنهاراً وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا)13 ، وقوله : (وجعل لكم من الجبال أكناناً)14 ، وقوله : (وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون)15 ، وقوله : (وجعـل الشمس سراجا)16 ، وقوله : (وجعلنا الليل والنهار آيتين)17.

ومثلها في ذلك قوله : (ألم نجعل الأرض كفاتا)18 ، وقوله : (ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتاداً وخلقناكم أزواجاً وجعلنا نومكم سباتاً وجعلنا الليل لباساً وجعلنا النهار معاشاً)19 ، إلى غيرها من الآيات .

قال الإمام أبو اليقظان محمد بن أفلح رحمه الله : ( فمعنى جعلنا في هذه المواضع التي ذكرنا ، خلقنا ، وكذلك عند المعارض غير ما ذكرناه في القرآن فإنه زعم أن الجعل فيه غير الخلق ، ولو جاز له وساغ ذلك لجاز لمعارض أن يعارضه ويقول وكذلك قوله في غير القرآن من الجعل الذي اتفقنا وإياكم عليه أنه بمعنى الخلق هو بمعنى آخر غير الخلق ، وإلا فما الفرق بين الجعلين ؟ فيكون الله عز وجل خاطب العرب بما لا يعقلونه من كلامهم ولا يعرفونه من لغتهم ، وبما يجوز لهم فيه الشك ( والطعن والارتياب ، فيكون جعل في موضع خلق وأحدث ودبَّر ، وفي موضع لمعنى آخر لا نفهمه ولا ندريه ، وهـذا لا يوصف الحكيـم به )

فلما اتفقنا وهم على أن الجعل في قوله : (وجعل الشمس سراجاً)20 ، وقوله : (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها)21 ، وفي قوله : (جعل لكم من أنفسكم أزواجاً)22 ، وفي قوله : (وجعل الظلمات والنور)  بمعنى الخلق . صار الجعل كله إذا كان من الله عز وجل بمعنى الخلق فيدخل في ذلك القرآن وغيره ، وإلا بطلت المناظرة ولم يصح الشاهد .

فإن عارضوا بقول الله عز وجل : (ما جعل الله من بحيرة .. الآية)23 ، فيقال نعم لم يخلق الله البحيرة بحيرة كما زعمتم ولا السائبة سائبة كما زعمتم ، وإنما نفى عن نفسه ما لم يفعله كما زعم المشركون فذمَّهُم بابتداعهم ، ومعناه ما خلقنا كما وصفتم ، إنما خلقنا على غير ما وصفتم ، فوقع النفي هنا على نفس الوصف لا على نفس الخلق .

وكذلك قوله : (إني جاعلك للناس إماماً)24 ، أي خالق فيك الصفة التي لم تكن فيك والمعنى الذي لم يوجد فيك ، ولم أكن فعلته بك قبل ذلك ، فمعنى جعل أينما وجد ، خلق ودبَّر ، وأحدث وأنشأ ، وفعل وصنع ، وكل ذلك بمعنى واحد ، وإن اختلفت ألفاظه)25. هذا كلامه رحمه الله في الجعل ، وأضيف إليه أنني تتبعت الجعل المسند إلى الله في القرآن ، فوجدته لا يخرج عن أمرين ، إما أن يكون تكوينيًّا ، وإما أن يكون تشريعيًّا ، وفي كل منهما إنشاء ، لما لم يكن ، فالجعل التكويني نحو قوله تعالى : (وجعل منها زوجها)26 ، وقوله : (وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون)27 ، وقوله : (وجعل الشمس سراجا)28 ، ومعنى الإحداث فيه ظاهر .

والجعل التشريعي نحو قوله : (إني جاعلك للناس إماماً)29 ، ومنه الجعل المنفي في قوله تعالى : (ما جعل الله من بحيرة)   أي ما شرع بَحْرَهَا ، ومن الجعل التشريعي قوله تعالى : (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممَّن ينقلب على عقبيه)30

والفرق بين الجعلين أن أولهما هو إحداث ذات الشيء المجعول أو صفة قائمة به لم تكن موجودة من قبل ، وذلك يقتضي إخراج المجعول من حالة إلى أخرى أو من صفة إلى غيرها ، وهذا حاصل فيما إذا أسند الجعل إلى الإنسان وكان بمعنى التَّصيير ، نحو جعلتُ العجينَ خُبْزاً ، والدقيق عجيناً ، فإنه في كليهما نقل للمجعول من حالة إلى حالة لم يكن عليها من قبل ، فالدقيق قبل أن يجعل عجيناً لم يكن عجيناً ، والعجين قبل أن يجعل خبزاً لم يكن خبزاً ، ولا يفهم منه إلا أن المجعول تحول بعد الجعل عما كان عليه قبله .

والثاني إحداث شرع ينقل المجعول من حكم إلى آخر ككون البيت الحرام قبلة للمسلمين بعد ما كان بيت المقدس قبلتهم .

وجعل القرآن عربيا هو الجعل التكويني لأنه إحداث لمعنى قائم بالقرآن ، وهو عربيته ، ولا يخلو ذلك إما أن يكون تحويلاً له من وصف إلى آخر ، وذلك بأن يكون أولاً غير عربي ثم أحدث الله فيه هذه الصفة ، وإما أن يكون إنشاء له على هذه الصفة من أول الأمر ، كما أنشأ الله الشمس متلبسة بوصف كونها سراجاً ، وكما أنشأ الله الليل متلبساً بوصف كونه لباساً ، وأنشأ النهار متلبساً بوصف كونه معاشاً ، وهذا هو المتعين في القرآن ، لعدم ما يدل على أنه كان غير عربي من قبل ثم نقله الله إلى العربية .

أما أن يكون كلاماً عربيا منذ الأزل ويتعدى إليه فعل الجعل فهو غير جائز عقلاً ولا لغة ، لأن الجعل فعل والفعل سابق على المفعول ، فهو سابق على المجعول قطعاً .

ومثل ذلك يقال في قوله سبحانه : (ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء مـن عبادنا)31

وهذا يظهر بداهة لمن أمعن نظره في معنى الجعل ، وفكر في صفات الله تعالى الأزلية الواجبة ، وعدم إمكان تعدي الجعل إليها فإنه من المستحيل عقلاً الممتنع شرعاً أن يقول قائل جعل الله علمه محيطاً بكل شيء ، أو قدرته شاملة لكل شيء ، أو جعل الله وجوده أزليا أبديا ، أو جعل سمعه مدركأ لجميع الأصوات ، أو جعل بصره محيطاً بكل المرئيات ، لما في هذه العبارات من اقتضاء أن يكون الله محدثاً لهذه الصفات .

واعترض على الاستدلال بجعل القرآن عربيا على خلقه بأن الجعل يكون بمعنى غير الخلق ، كما في قوله عز وجل : (ويجعلون لله البنات سبحانه)32

، وقوله : (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمان إناثا)33 وقوله : (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون)34

وجوابه شتان بين الجعلين وبين الجاعلين ، فالجعل فيما نحن بصدده فعل ثابت مسند إلى الله تعالى من أنكره أو أنكر أثرهُ فقد كفر ، والمجعول - وهو عربية القرآن ونورانيته وهدايته - حقيقة قائمة من أنكرها فقد كفر ، والجعل فيما اعترضوا به هو قول باطل مسند إلى الكفار ، والمجعول - وهو أنوثة الملائكة - ليس بشيء بل يكفر من يثبته ، ولا إشكال في اتحاد حروف الفعل في كلا الإسنادين - وهي الجيم والعين واللام - فإن الفعل يسند إلى الله فيكون له معنى ، ويسند إلى غيره فيكون له معنى آخر مع عدم التفاوت في اللفظ ، ومثل ذلك قوله تعالى : ( الذي خلقكم والذين من قبلكم)35 ، وقوله : (والله خلقكم وما تعملون)36 ، وقوله : (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين)37 ، وقوله : (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)38 ، ونحوها من الآيات المسند فيها الخلق إلى الله عز وجل ، فهو جميعه بمعنى الإخراج من العدم إلى الوجود ، وتجد هذا الفعل بلفظه ونفس حروفه مسنداً إلى الكفار ، وله معنى لا يليق بعباد الله الصالحين فضلاً عن جوازه على الله تعالى رب العالمين ، وذلك في قوله سبحانه : (وتخلقون إفكاً)39 ، فهل من وجهٍ لحمله في أحد الموضعين على معناه في الموضع الآخر ؟ أو أن المقارنة بين الفعلين مستحيلة كاستحالة المقارنة بين الفاعلين ؟ .

-4

قوله تعالى : (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون)40 ، ومثله قوله : (وَمَا يأتيهم من ذكر من الرحمان محدث إلا كانوا عنه معرضين)41 ، ووجه الاستدلال بالآيتين وصف الذكر فيهما بالإحداث وهو الخلق ، ولا ريب أن الذكر لم يقصد به فيهما غير القرآن بدليل قوله تعالى : (وما هو إلا ذكر للعالمين)42 ، وقوله : (إن هو إلا ذكر للعالمين)43 ، وقوله : (إنا نحن نزلنا الذكر)44 ، وقوله : (وإنه لذكر لك ولقومك)45 ، وقوله : (والقرآن ذي الذكر)46 ، وقوله : (إن هو إلا ذكر وقرآن مبين)47 ، وقوله : (وهذا ذكر مبارك أنزلناه)48

والقائلون بقِدم القرآن سلكوا طريقين في ردهم استدلال القائلين بخلقه بآيتي الأنبياء والشعراء ، فالقائلون منهم بقِدم حروفه وكلماته ذهبوا إلى أن المراد بالإحداث فيهما هو إحداث التنزيل متى شاء الله ذلك كما تقتضيه حكمته ، ومعنى ذلك أن المحدث تنزيل الكتاب لا ذات الكتاب ، وعبر بعضهم عنه بأن المراد بالإحداث تجدده ، والمفرقون منهم بين القرآن وما يتلى ويدون في المصاحف من الأحرف والكلمات قالوا : إن المحدث هو الأحرف والكلمات ، وهي عبارة عن القرآن الذي هو صفة أزلية قائمة بذاته عز وجل وحكاية له ، وكلا القولين مردود .

فيبطله أن المحدث هو الذي وقع عليه فعل المحدث - بالكسر - ويشترط فيه أن يكون مسبوقاً بالفاعل والفعل ، والإحداث هو الإيجاد بعد العدم ، وحمل الإحداث على أنه بمعنى الإنزال خروج عن الظاهر لغير داع سوى جعل ما في نفس القائل من الفكرة هو الأصل الذي ترد إليه النصوص وتحمل عليه الأدلة ، وما أعظمها من مصيبة في الدين على أن نقول إن نفس الإنزال إحالة للمنزل من حالة إلى حال ، وهي دالة على الحدوث لأمرين

أن القديم لا يتحول عن أصله ولا تعتريه العوارض

أولهما
أنه لا يكون لأحد عليه سلطان ، لأنه غير معلول بعلة ولا مسبب بسبب ثانيهما

 

أما الأول

فيرده أن إثبات صفة لله تعالى تسمى قرآناً غير ما أنزل على الشارع الأمين عليه أفضل الصلاة والتسليم دعوى لم يقم عليها برهان ، وقد اعترض الإمام أبو اليقظان رحمه الله تعالى دعواهم هذه بقوله : ( لا تخلو الحكاية من أن تكون مخالفة للمحكي أو موافقة له ، فإن كانت موافقة له فكيف يكون شيئان متفقان ، واحد مخلوق والآخر غير وخلوق ، وقد اجتمعت الأمة على أن ما جاز في الشيء جاز في نظيره وإلا بطل ما اجتمعت عليه الأمة إذاً ، وإن قال إن الحكاية غير المحكي وهي خلاف له ، فهذا أغرب وأبعد ما يكون من الصواب ، وذلك خروج من لسان الأمة وجميع الأمم ، لأن الحكاية لا تكون حكاية للشيء إلا وهي مثل المحكي معبرة عنه بما هو به ، ولو أمكن خلاف ما نقول من أن الحكاية غير المحكي لوجب على كل الأخبار الكاذبة أن تكون صادقة ، وعلى الأخبار الصادقة أن تكون كاذبة ، ويكون الشعر أيضاً حكاية القرآن ، والقرآن حكاية الشعر ، والمدح حكاية الذم ، والذم حكاية المدح ، ولا ينبغي أن ننكر خبراً ونكذب مخبراً ، ونرد حكاية أو ننكر مقالة ، وإذا أمكن هذا وجاز فمن أين كان الصدق صدقاً ، والكذب كذباً ؟ ولعمري لئن كانت الحكاية خلاف المحكي لينبغي أن يكون الصدق هو الكذب والكذب هو الصدق ، فكما بطل هذا وفسد ، صح أن الحكاية لا تكون خلاف المحكي ) .

وأيضاً أخبرونا حيث كانت الحكاية غير المحكي فما القرآن أهو الحكاية أم المحكي ؟ فإن كان القرآن الذي أنزله الله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ، ونزل به الروح الأمين إليه هو هذه الحكاية وهو مخالف فإنا لم يقع كلامنا معهم إلا على القرآن الذي نزل به الروح الأمين على قلب محمد وهو الذي قال فيه : (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه . ثم إن علينا بيانه)49 ، وإن كان القرآن هو المحكي وهو القائم بذاته عز وجل ، فهو لم ينزل بعد ، ضاهوا بذلك قول ابن صوريا حيث قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم (ما أنزل الله على بشر من شيء) فأنكروا نزول القرآن وهذا أعجب من العجب .

وقد وقع الاجتماع منا ومنهم أن ما في الدنيا وما نقرأ من القرآن هو مثال مما قرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هي قراءته وقرأناه على الموافقة له ، ولو كان خلافه كما قالوا من أن الحكاية غير المحكي لكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أتى بخلاف ما أتى به جبريل عليه السلام ، وكذلك جبريل فيما أتى به ميكائيل وكذلك ميكائيل عن إسرافيل ، فيكون كل واحد منهم قد أتى بخلاف ما أتى به غيره .

وإذا قلت إن الحكاية خلاف المحكي فما نقول فيما نقله محمد عن جبريل ؟ هذا هو هذا ؟ أم هذا غير هذا ؟ فلا بد من هذا هو هذا ، أو هذا مثل هذا ، فكيف يجوز في الشيء مالا يجوز في مثله ؟ أم لا يجوز في الشيء ما جاز في مثله ، وأي تناقض أعظم وأفحش من هذا ؟ نعوذ بالله من العمى والخذلان ، ونسأله العون والتوفيق)50.

وأما الثاني
-5

قوله تعالى : (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لَّدن حكيم خبير)51 ، ووجه الاستدلال به أن الله وصفه فيه بالإحكام والتفصيل ، وكل منهما أثر صادر عن مؤثر ، ولا يجوز أن يكون الأثر قديماً أزلياًّ لضرورة أن يكون مؤثره سابقاً عليه ، والمسبوق حادث لأنه - بداهة - كائن بعد أن لم يكن . ولا يخلو هذا القرآن إما أن تكون كينونته مقرونة بالأحكام والتفصيل من أول أمره ، وإما أن يكونا وصفين أوجدهما الله فيه بعد أن كان عارياً منهما ، وكلا الاحتمالين مقتضٍ لخلقه وحدوثه .

أما الأول فلكون وجود الشيء مقترناً بوصف حادث من أول أمره دليلاً على حدوثه ، وبما أن الإحكام والتفصيل فعلان صادران عن الله سبحانه فلا مرية في حدوثهما ، وإلا لما جاز إسنادهما إليه عز وجل . وعليه فليس إحكامُه وتفصيله إلا بمعنى إيجاده محكماً ومفصلاً .

وأما الثاني فاقتضاؤه ذلك من حيث إن الإحكام والتفصيل أثران واقعان عليه ، والأثر ناتج عن المؤثر شاهد على تحول ما وقع عليه من حال إلى حال ، وهو مستحيل على القديم ، لعدم إمكان أن يكون لأحد عليه سلطان ، ولذلك يستحيل أن يقال أحكم الله قدرته أو فصلها ، أو أحكم علمه أو فصله لأن هذه العبارة قاضية بحدوث قدرته تعالى وعلمه ، جل الله عن ذلك ، والأول هو الذي يتعين المصير إليه ، لعدم ما يدل على أن القرآن أحكم بعد أن كان عارياً عن الإحكام ، وفصل بعد أن كان خالياً من التفصيل .

-6

قوله تعالى : (ولقد جئناهم بكتاب فصّلناه على علم)52 ، ووجه الاستدلال به على حدوث القرآن ثلاثة أمور

أن المجيء به نقل له من حال إلى حال ، وهو مستحيل في القديم كما سبق بيانه

أولها

للإخبار عنه أنه مفصل وقد سبق نظيره

ثانيها
أن تفصيله ناشئ عن علمه سبحانه ؛ والناشئ عن الشيء لابد من أن يكون مسبوقاً به ثالثها

 

-7

قوله تعالى : (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها)53 ، ووجه الاستدلال به أن الله سبحانه أخبر عن نسخ بعض آياته ببعض والنسخ هو المحو والإزالة ، وهو مستحيل على القديم ، واستحالته فيما إذا كان لفظيا أشد ، وقد أثبته جمهور العلماء ، وفيهم القائلون بقِدم القرآن .

-8

قوله تعالى : (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن)54 ، ووجه الاستدلال به أنه منزل ، والإنزال نقل من مكان إلى آخر ، وهو مستحيل على القديم لتعذر أن يكون لأحد عليه سلطان ، أو أن يكون متغير الأحوال ، ومثله في ذلك قوله تعالى : (نزَّل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل)55  ، وقوله : (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات .. الآية)56 ، وقوله : (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم)57 ، وقوله : (إنا أنزلناه في ليلة مباركة)58 ، وفي تنزيله دلالة أخرى على حدوثه ، وهي أنه نزل نجوماً فهو منقسم ، والانقسام مستحيل على القديم .

-9

قوله تعالى : (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)59 ، ووجه الاستدلال به أن الله أخبر عنه بأنه محفوظ له ، ولا يكون المحفوظ إلا مخلوقاً لاستغناء القديم عن حفظ الحافظين ، ولذلك لا يجوز أن يقال حفظ الله حياته ، أو وجوده ، أو قدرته ، أو سمعه ، أو بصره ، أو علمه مع جواز أن يقال حفظ الله كلامه إن قصد به الكـلام المنزل لا الكلام النفسي ، والآية دليل على جوازه ، وأما حديث ( احفظ الله يحفظك .. ) فالمراد به المحافظة على طاعته تعالى أمراً ونهياً ، فلا يرد على ما ذكرته .

-10

قوله تعالى : (منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات)60 ، ووجه الاستدلال به أنه منقسمة آياته إلى قسمين ، محكمات ومتشابهات ، وأن المحكمات أم - أي أصل - للمتشابهات يرجع بها إليها في التأويل ، وهو مستحيل فيما كان قديماً ، فلا يجوز أن يقال إن وجوده تعالى أم لحياته ، أو إن حياته أم لقدرته ، أو إن قدرته أم لإرادته أو أن نحو ذلك ، لما يقتضيه هذا القول من حدوث الصفات ، تعالى الله عنه .

-11

قوله تعالى : (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم)61 ، ووجه الاستدلال به أن صدور العلماء حادثة ، والحادث لا يكون وعاء للقديم ، فلا يكون أحد من خلق الله محلاً لحياة الله ، أو قدرته ، أو علمه ، أو وجوده ، أو سمعه ، أو بصره ، أو أي صفة من صفاته ، وإنما تكون المخلوقات ، أوعية لمعلومات الله ومقدوراته ، ومرئياته ، لأنها مخلوقات مثلها .

-12

قوله تعالى : (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ)62 ، والإستدلال به من وجهين

أن اللوح مخلوق ، والمخلوق لا يكون وعاء لغير المخلوق ، كما سبق

أولهما

أن هاتين الآيتين سيقتا للتنويه بالقرآن وبيان عظم شأنه وعلو قدرته ، ولا يشك شاك أن ذلك يكون أكثر وضوحاً وأقوى حجة لو أخبر أنه قائم بذاته تعالى ، فلو كان أزليا قائماً به سبحانه لكان الأحرى أن يقال بل هو قرآن مجيد قائم بالعزيز الحميد ، أو نحو ذلك مما يدل على ما ذكرته

ثانيهما

 

-13

قوله تعالى : (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه)63 ، ووجه الاستدلال به أنه أثبت كونه مسبوقاً بغيره ، والمسبوق لا يكون إلا حادثاً ، وأنه مهيمن على سابقه ، والهيمنة دليل على أن المهيمن عليه حادث ، وإذا كان ما قبله حادثاً فهو أحرى بصفة الحدوث .

-14

قوله تعالى : (وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزَّلناه تنزيلاً)64 ، ووجه الاستدلال به أن الله أخبر عنه بأنه مفروق ، والمفروق مصنوع لا يكون إلا حادثاً ، فهذه نماذج من الأدلة القرآنية على حدوثه .

-15

وأما الأدلة من السنة فكثير من الروايات ، وإنما نقتصر منها على ما يلي :

أخرج الإمام أحمد ، والبخاري ، وأبو داود عن أبي سعيد بن المعلى قال : كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه ، فقلت : يا رسول الله إني كنت أصلي ، فقال : ( ألم يقل الله (إستجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم) ؟ ثم قال : (لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد) ثم أخذ بيدي فلما أراد أن يخرج قلت له : ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن ؟ قال : الحمد لله رب العالمين ، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته) .

-1

روى الإمام الربيع بن حبيب في مسنده عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ (قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤاً أحد) ويرددها ، فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فكان الرجل يتقللها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (والذي نفسي بيده لإنها لتعدل ثلث القرآن) ، وأخرجه الإمام البخاري من طريق أبي سعيد بلفظ (والذي نفسي بيده إنها تعدل ثلث القرآن) .

-2

روى البخاري عن أبي سعيد أيضاً ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : (أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة) فشق ذلك عليهم ، وقالوا أيُّنا يطيق ذلك يا رسول الله ؟ فقال : (الله الواحد الصمد ثلث القرآن) .

-3

روى الإمام أحمد عن أبي سعيد كذلك قال بات قتادة بن النعمان يقرأ الليل كله (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنها لَتَعْدِلُ نِصْفَ الْقُرْآن -ِ أَوْ ثُلُثَهُ) ، وأخرج نحوه مسلم والترمذي من طريق أبي هريرة رضي الله عنه ، ونحوه عند الإمام أحمد والترمذي والنسائي من طريق أبي أيوب الأنصاري ، وقال الترمذي : وفي الباب عن أبي الدرداء ، وأبي سعيد ، وقتادة بن النعمان ، وأبي هريرة ، وأنس ، وابن عمر ، وأبي مسعود ، وروى مثله الإمام أحمد والنسائي من طريق أبي بن كعب ، والإمام أحمد والنسائي كذلك من طريق أبي مسعود ، وأم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مرفوعاً ، وروياه مع مسلم من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم .

-4

روى أحمد ومحمد بن نصر والطبراني بسند صحيح عن معقل بن يسار رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (البقرة سنام القرآن وذروته نزل مع كل آية منها ثمانون ملكاً ، واستخرجت ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) من تحت العرش فوصلت بها) .

-5

أخرج أبو يعلى وابن حبان ، والطبراني والبيهقي عن سهل بن سعد الساعدي قال : ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن لكل شيء سناما وسنام القرآن سورة البقرة من قرأها في بيته نهاراً لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام ) .

-6

ووجه الاستدلال بهذه الأحاديث على خلقه ، أنها ناصة على أن بعضه أعظم من بعض وأفضل ، وأن بعضه سنام لسائره ، وأن بعضه كان مفصولاً عن غيره ثم وصل به ، وكل ذلك غير جائز على القديم ، ألا ترى أنه لا يجوز تفضيل بعض صفات الله على بعض ، فلا يقال إن علمه أفضل من قدرته أو العكس ، ولا يقال إن حياته أعظم من سمعه ، أو بصره أو قدرته ، أو إرادته ، وإذا امتنع ذلك في مجموع الصفات ، فلأن يمتنع في الصفة الواحدة أحرى ، فلا يبعَّض علم الله فيفضل بعضه على بعض ، ولا تجزأ قدرته فيجعل منها أعظم من غيره ، كما لا يمكن أن يكون جزءاً من صفة منفصلاً عنها ثم يوصل بها .


الهوامش والتعليقات

الآية 86 من سورة الإسراء

1
هذه الحجج ملخصة - مع زيادة وتهذيب - من رسالة الإمام محمد بن أفلح بن عبد الوهاب الرستمي - رحمه الله تعالى - في خلق القرآن ، وهي موجودة في كتاب الجواهر للإمام البرادي ، أنظر الجواهر المنتقاة ص183 - 185، ص191-192 ط المطابع البارونية بمصر عام 1302هـ 2

الجواهر المنتقاة / للبرادي ص187

3

الآيات 102 من سورة الأنعام و 16 من سورة الرعد و 62 من سورة الزمر و 62 من سورة غافر

4

الآية 2 من سورة الفرقان

5

الآية 49 من سورة القمر

6

الآية 3 من سورة الزخرف

7

الآية 52 من سورة الشورى

8

الجواهر المنتقاة / للبرادي ص186

9

الآية 1 من سورة الأنعام

10

الآية 189 من سورة الأعراف

11

الآية 67 من سورة يونس

12

الآية 61 من سورة النمل

13

الآية 81 من سورة النحل

14

الآية 12 من سورة الزخرف

15

الآية 16 من سورة نوح

16
الآية 12 من سورة الإسراء 17

الآية 25 من سورة المرسلات

18

الآيات 6-11 من سورة النبأ

19

الآية 16 من سورة نوح

20

الآية 7 من سورة الكهف

21

الآية 11 من سورة الشورى

22

الآية 103 من سورة المائدة

23

الآية 124 من سورة البقرة

24

الجواهر المنتقاة / للبرادي ص187/188

25

الآية 189 من سورة الأعراف

26

الآية 12 من سورة الزخرف

27

الآية 16 من سورة نوح

28
الآية 124 من سورة البقرة 29

الآية 143 من سورة البقرة

30

الآية 52 من سورة الشورى

31

الآية 57 من سورة النحل

32

الآية 19 من سورة الزخرف

33
الآية 82 من سورة الواقعة 34

الآية 21 من سورة البقرة

35

الآية 96 من سورة الصافات

36

الاية 12 من سورة المؤمنون

37

الآية 4 من سورة التين

38
الآية 17 من سورة العنكبوت 39

الآية 2 من سورة الأنبياء

40

الآية 5 من سورة الشعراء

41

الآية 52 من سورة القلم

42

الآية 104 من سورة يوسف

43

الآيتان 104 من سورة يوسف و 87 من سورة ص

44

الآية 9 من سورة الحجر

45

الآية 44 من سورة الزخرف

46

الآية 1 من سورة ص

47

الآية 69 من سورة يس

48
الآية 50 من سورة الأنبياء 49
المرجع السابق ص 189 و 190 50
الآية 1 من سورة هود 51
الآية 52 من سورة الأعراف 52

الآية 106 من سورة البقرة

53

الآية 185 من سورة البقرة

54

الآيتان 3 و 4 من سورة آل عمران

55

الاية 7 من سورة آل عمران

56

الآية 44 من سورة النحل

57

الآية 3 من سورة الدخان

58

الآية 9 من سورة الحجر

59
الآية 7 من سورة آل عمران 60

الآية 49 من سورة العنكبوت

61

الآية 21 من سورة البروج

62

الآية 48 من سورة المائدة

63
الآية 106 من سورة الإسراء 64

خاتمة

نتيجة البحث حول خلق القرآن

لست بمرتاب أخي القارئ أنك بعد اطلاعك على ما احتواه هذا المبحث من أخذ ورد ، واجتذاب ودفع ، في مسألة خلق القرآن ، تدرك أن الصواب والسلامة في اعتقاد أنه كسائر الموجودات ، غير الله عز وجل ، كائن بعد أن لم يكن ، وما كان كذلك فهو مخلوق قطعاً ، كما تدرك أن القول بقِدمه يفتح الباب على مصراعيه لمن يقول بجواز تعدد القدماء حتى يفضي الأمر إلى القول بقِدم العالم ، وقد رأيت أثر ذلك فيما نقلته لك من كلام المنتصرين للقول بقِدمه ، والمتشددين على القائلين بحدوثه ، فقد أفضى الحال ببعضهم إلى القول بقِدم سائر الكلام ، لما بينهما من التشابه في أصول الأحرف والكلمات التي ينتظم منها كل منهما ، وأفضى ببعضهم إلى القول بقِدم الجلد والوتد وما حوله من الجدار ، وما الذي يمنع بعد ذلك من الانجرار وراء هذا التسلسل غير المحدود ، حتى ينتهي إلى القول بقِدم كل شيء ، أو إلى فلسفة وحدة الوجود والعياذ بالله .

وقد أدركتَ ضعف الشبهات التي تعلقوا بها وتناقض كلامهم واضطراب استدلالهم ، فإن أقوى ما استندوا إليه في نفي الخلق عنه أنه كلام مضاف إلى الله تعالى في نحو قوله سبحانه : (فأجِرْهُ حتى يسمع كلام الله)1

، وقد غفلوا عن كونهم بهذا الاستدلال يعطون النصارى حجة فيما يعتقدونه من أن المسيح عليه السلام ابن لله أو جزء منه ، لإخباره تعالى عنه أنه (كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه)2

ومع هذا كله فإنني كنت أود أن لا أتعرض لهذه المسألة بإيجاب ولا سلب ، رغبة مني في الاقتصار على المأثور عن الرعيل الأول من هذه الأمة ، وحرصاً على عدم إثارة أي جدل يزعج أحداً من المسلمين ، ولكني ماذا أصنع والألسنة لم تهدأ ، والأقلام لم تتوقف عن إثارة هذا الموضوع بغير هدى ولا دليل ، ولم يقف الأمر عند هذا الحد ، بل تجاوزه إلى تكفير من قال كلمة الحق أو دعا إليه ، فرأيتني بسبب ذلك ملزماً أن أقول كلمة هادئة هادفة - ليس لي وراءها من قصد إلا رضى الله سبحانه - تكشف بيد الحجة ستار الشبهة عن وجه الحقيقة المشرقة سائلاً الله تعالى توفيقه في القول والعمل .

ومن قرأ ما قلته بإنصاف يجده أبعد ما يكون عن التأثر بالعوامل النفسية والاندفاع وراء العواطف الرعناء ، إذ لم يسلس قيادهُ إلاَّ للحجة ولم يقتنع إلا بالموضوعية المحضة ، والله من وراء القصد وهو حسبي ونعم الوكيل ..


الهوامش والتعليقات

الآية 6 من سورة التوبة

1
الآية 171 من سورة النساء 2