مقـالات

بحـوث ودراسات

عـلماء كـتب ومخطوطات 

عقـيدة و فـقـه

تاريخ وحـضارة

الصفحة الرئيسة
 

 

 

مقالات الاستاذ خالد الوهيبي

 

الجرح والتعديل -3

مقارنة

عرضنا في الحلقات الماضية أبرز معالم المنهج الحديثي عند فقهاء المدرسة الجابرية، وهو منهج مورس قبل اكتمال منظومة الجرح والتعديل، وقد لاحظنا من خلال التتبع أن:

1.
الحكم على الرواة ليس من خلال العدالة والضبط فحسب (=مع التنبيه على أهمية ذلك بالطبع)، لكن يضاف إلى ذلك شرط الفقه والقدرة على تمييز ما يروى[1]، قال الإمام أبو عبيدة: (لا ينبغي أن تأخذ العلم من مبتدع لأنه يدعو إلى بدعته، ولا من سفيه يدعو إلى سفهه، ولا ممن يكذب وإن كان يصدق في فتواه، ولا ممن يفرز مذهبه من مذهب غيره)[2]، فنبه الإمام أبو عبيدة على ضرورة أن يكون الراوي عدلاً، وممن "يفرز مذهبه من مذهب غيره" أي أن يكون فقيهاً بما يروي حتى يجنب الفقه القائم على الأصول المستقرة ما يعكر صفوه من مرويات غير منضبطة بضابط الفقه، والتي عبر عنها هنا بالمذهب.

2.
أن الحكم على الرواية يعتمد في الجانب الأكبر منه على النظر في المتن، ثم بالدرجة الثانية على السند، وهنا تكمن مفارقة أخرى بين معالم المنهج الحديثي عند فقهاء المدرسة الجابرية ومنهج الجرح والتعديل عند مدرسة أهل الحديث، فمن خلال تأمل الجوانب النظرية والتطبيقية لمنهج الجرح والتعديل عند مدرسة أهل الحديث يتبين أنه (في غالبه الأغلب منصب على الجانب الإسنادي، ولم يكن ينظر في المتن إلا في القليل النادر)[3].

ومن خلال النصوص التي استخرجناها من تراث المدرسة الجابرية وعرضناها في الحلقات السابقة من هذه السلسلة نخلص إلى مقاربة مفادها أن:

الجم الغفير والغالبية العظمى من القواعد الحديثية لديهم تركز على النظر في المتن وتحديد موقع الرواية في البنية التشريعية.

الأقل من القواعد الحديثية لديهم للنظر في الجوانب الإسنادية وسلاسل الرواة.

كتب الجرح والتعديل

يتساءل الكثير من الباحثين وطلاب العلم عن عدم وجود كتب في أوصاف الرواة وأحوالهم (=الجرح والتعديل) في المذهب الإباضي كما هو الحال عند مدرسة أهل الحديث ومدرسة آل البيت، وإذا استثنينا القليل من كتب السير والطبقات في المذهب الإباضي فإنه لا توجد لديهم كتب في أوصاف الرواة وأحوالهم (=الجرح والتعديل).

وبعد دراسة لهذا التساؤل المطروح منذ عدة سنوات توصلت إلى الآتي:

1.
أن الرواة في المذهب كانوا قلة لا يتعدون العشرات وهم في غالبيتهم من الفقهاء الثقات الذين يقتدى بهم، وقلة الرواة عندهم ناشئة عن أمور موضوعية تتعلق بضوابط الرواية وتلقيها.

2.
وأن الرواية الحديثية لم تتضخم لديهم، فمسند الإمام الربيع على سبيل المثال يحوي معظم أبواب الشريعة وعدد أحاديثه (754) حديثاً، ومدونة أبي غانم الخراساني تحوي (140) حديثاً[4]،

وهذا المنهج مورس من قبل هؤلاء العلماء عن وعي كامل بأبعاده وخلفياته، وفي هذا يقول الإمام الربيع: (بلغنا أن عدة ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف حديث، منها تسعمائة في الأصول والباقي في الآداب والأخبار)[5].

وهذا الإقلال من الرواية عن النبي ‏صلى الله عليه وسلم ليس معيباً ولا يدل على ضعف علمي بحال من الأحوال، بل هو المنهج الذي سار عليه صحابة رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم أيام الاستقرار السياسي.

وهذا الإقلال في نظري مرده إلى أمرين:

-
أولاً: الخشية من اختلاط التطبيق بالتشريع، وخاصة في عملية الرواية التي تتم من غير الفقهاء العارفين بظروف وملابسات الرواية، فتأتي آليات الاقتطاع والحذف والبتر والرواية بالمعنى، لتقدم للأجيال نصاً على أنه نص تشريعي، في حين أنه نص تطبيقي (=واقعة حال لا تتعداها، أو تطبيق لنصوص تشريعية أخرى). ومن أمثلة ذلك كثير من المرويات التي صنفت تحت باب الطب النبوي، فكثير منها ليس تشريعاً، إنما هي تعبير عن جملة المعارف الموجودة في ذلك العصر، وإنما جاءت تطبيقاً لأصل تشريعي وهو وجوب التداوي[6]، ومن أمثلة ذلك كثير من المرويات التي صنفت تحت باب الطب النبوي، فكثير منها ليس تشريعاً، إنما هي تعبير عن جملة المعارف الموجودة في ذلك العصر، وإنما جاءت تطبيقاً لأصل تشريعي وهو وجوب التداوي[7] ومنها قول الله تعالى (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ) وقوله (وَلاَ تَقْتُلُوَاْ أَنْفُسَكُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) ، ومن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله (ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء)[8].

وهذا أمر جعل الكثير من فقهاء الصحابة يتعاملون بحذر مع روايات غير الفقهاء منهم، ويمكن للقارئ استقراء ذلك من تعامل أمثال ابن عباس والسيدة عائشة وعمر بن الخطاب وغيرهم مع مرويات من كان غير فقيه منهم، وكل ذلك مدون في الصحاح والسنن.

ومثال ذلك ما جاء عن أبي هريرة أن رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏قال: ‏(الشؤم في الدار والمرأة والفرس). لكن السيدة عائشة رضي الله عنها اعترضت على ذلك وبينت أن رواية أبي هريرة مجردة عن الملابسات التي قيلت فيها، لذا جاءت الرواية مخالفة للأصول العامة الثابتة بالاستقراء الكلي لمجموع النصوص الصحيحة الثابتة.

ففي رواية مكحول عند الطيالسي أنه قيل لعائشة أم المؤمنين إن أبا هريرة يقول قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثم الشؤم في ثلاث في الدار والمرأة والفرس)، فقالت عائشة: لم يحفظ أبو هريرة لأنه دخل ورسول الله صلى الله عليه سلم يقول: (قاتل الله اليهود يقولون: إن الشوم في ثلاث في الدار والمرأة والفرس). فسمع آخر الحديث ولم يسمع أوله[9].

-
ثانياً: الخشية من طمر الدلالات القرآنية بروايات هي في حقيقتها تعامل زمني معها، في حين أن دلالات القرآن الكريم على تلك القضايا دلالات منطلقة عبر الزمان والمكان، وهو ما يعبر عنه عبدالجواد ياسين بخاصية (الاكتناز) أي وجود اكتناز هائل للنص القرآني يستثار عند احتكاك النص القرآني بالواقع، ولذلك كانت نصائح الفاروق عمر إلى البعوث التي يرسلها إلى الأمصار بأن يقلوا من الرواية ولا يشغلوا الناس عن القرآن، اعتماداً على ما استقر عليه العمل من السنن المعروفة بدلاً من إحداث مرويات مجتزأة عن سياقاتها وملابساتها.

روى ابن ماجه (28) والحاكم في المستدرك (347) والدارمي في السنن (280)عن قرظة بن كعب (بعث ‏‏عمر بن الخطاب ‏‏رهطاً ‏من ‏ ‏الأنصار ‏إلى ‏الكوفة، ‏فبعثني معهم فجعل يمشي معنا حتى أتى صرار- وصرار ماء في طريق ‏ ‏المدينة- ‏‏فجعل ينفض الغبار عن رجليه ثم قال: إنكم تأتون ‏ ‏الكوفة ‏فتأتون قوماً لهم أزيز ‏بالقرآن فيأتونكم، فيقولون قدم أصحاب‏ ‏محمد‏ ‏قدم أصحاب‏ ‏محمد، ‏فيأتونكم فيسألونكم عن الحديث، فاعلموا أن ‏أسبغ ‏الوضوء ثلاث وثنتان تجزيان، ثم قال: إنكم تأتون ‏الكوفة ‏ ‏فتأتون قوماً لهم‏ ‏أزيز‏ ‏بالقرآن، فيقولون قدم أصحاب‏ ‏محمد‏ ‏قدم أصحاب‏ ‏محمد‏، ‏فيأتونكم فيسألونكم عن الحديث ‏فأقلوا ‏الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏ ‏وأنا شريككم فيه.

قال‏ ‏قرظة‏: ‏وإني كنت لأجلس في القوم فيذكرون الحديث عن رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم،‏ و‏إني لمن‏ ‏أحفظهم له، فإذا ذكرت وصية ‏ ‏عمر ‏سكتُ).

ويرى عبدالجواد ياسين أن (علم الحديث التقليدي كان يواجه بالفعل معضلة عسيرة، تتمثل في هذا الكم الهائل من الروايات الواجب فحصها، وهذا العدد الغفير من الرواة الواجب وزنهم بالجرح والتعديل، ولكن هذه المعضلة بغير شك، كانت تحكمية إلى حد كبير، بمعني أنه كان بالواسع تلافيها من حيث الابتداء. لقد صنع أهل الحديث المشكلة بأيديهم، ثم راحوا يجهدون أنفسهم في وضع الحلول لها. وذلك أن عملية جمع الحديث وتدوينه لم تكتف بالمتواتر المستفيض أو المشهور الشائع كما كان ينبغي، بل راحت تفتش في ضرب عجيب من المبالغة والنهم، وبقدر واضح من التصنع والافتعال عن كل خبر تشتم فيه رائحة النسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. الأمر الذي فتح الباب واسعاً أمام سيل جارف من الروايات والأخبار، كان بعضها صحيحاً بغير شك، ولكنها صنعت بغير شك كذلك هذه المشكلة التي اخترع لحلها علم الحديث)[10].

تطبيق عملي

بعد أن ذكرنا عدداً من القواعد الحديثية عند عموم فقهاء المدرسة الجابرية، سوف نقدم أمثلة عملية، نحاول فيها تطبيق بعض القواعد التي قمنا باستخراجها من النصوص المأثورة عنهم.

المثال الأول: روى الربيع: (510): أبو عبيدة عن جابر بن زيد عن أبي مسعود قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك؟ فسكت حتى نسينا أنه سأله فقال: (قولوا اللهم صلي على نبينا محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما قد علمتم).

قال الربيع: قال أبو عبيدة: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته هكذا علمناه".

وهذا الحديث رواه أيضاً: البخاري (4519)، ومسلم (405)، والنسائي في السنن الكبرى (1208)، والترمذي (483)، وأبو داود (976) وغيرهم.

هذه الرواية كثيراً ما يتداولها شراح الأحاديث في باب صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويرون فيها الصيغة المفضلة أو الصحيحة –كما هو تعبير بعضهم- للصلاة على النبي عليه السلام، وللتعامل مع هذه المسألة دعونا نستحضر بعضاً من القواعد التي استخرجناها من تراث المدرسة الجابرية:

قاعدة 1: (لا بد من تمييز الأحاديث والروايات التي جرى عليها العمل من غيرها، فـ"الصحيح منها ما أيده العمل أو وقع عليه الإجماع لذلك"[11]، فالظهور المتأخر للروايات وعدم قيام عمل عليها مؤذن بضرورة الفحص والتمحيص الدقيق والعرض على الأصول، "فلذلك تجب الأسانيد والبحث عن صحتها وثم التنازع في تأويلها إذا صحت بنقلها، فإذا اختلفوا في حكمها كان مرجعهم إلى الكتاب"[12]، إذ قد تكون من جملة ما نسخ فترك، أو هي من جملة الدس المتأخر الذي يراد به التشويش على الأصول الثابتة، أو هي من جملة التسريبات من الثقافات الأخرى، أو هي نتاج أي عارض من العوارض الإنسانية الأخرى كالخطأ والوهم والنسيان والرواية بالمعنى)، وقد ناقشنا هذه القادعدة وضربنا عليها الأمثلة في الحلقة الماضية فلتراجع من هناك، والآن دعونا نعطي تصوراً لهذه المسألة بناء على ما قلناه:

هذه الصيغة الواردة في الحديث (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد) لم يجر عليها عمل، والصيغ المتداولة عملياً للصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام الواردة إذا ذكر هي "عليه السلام" و "صلى الله عليه وسلم" أو "عليه الصلاة والسلام" كما هو صنيع علماء المدرسة الجابرية في مسند الربيع ومدونة أبي غانم وآثار الربيع والديوان المعروض وكافة تآليفهم الأخرى، وهو الذي درج عليه المسلمون منذ عهود الصحابة والتابعين متى ما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام، والتآليف الحديثية والفقهية التي دونت كلامهم تشهد بهذا.

وكذلك الحال بالنسبة لذكر النبي صلى الله عليه وسلم في تشهد الصلاة، فإن علماء المدرسة الجابرية الذين تولوا عملية التدوين الروائي في المذهب لم يطالبوا أحداً بذلك؛ أخذاً بما دلت عليه السنة العملية في عدم مطالبة الناس بذلك في صلاتهم، إذ أن الصلاة عبارة عن أفعال وأقوال توقيفية لا مجال للزيادة عليها، قال أبو غانم في المدونة: (التشهد أن تقول حين تجلس بعد كل ركعتين: "التحيات لله والصلوات الطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله".

ثم تدعو بعد كمال الرابعة وبعد هذا التشهد بما بدا لك وبما يصلح لك أن تدعو به.

قال أبو المؤرج: قال أبو عبيدة: فهذا تشهد عبدالله بن مسعود)[13].

وهذه الكلمات كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على تبليغها وتعليمها للناس (قال الربيع وأبو المؤرج: بلغنا عن عبدالله بن مسعود أنه كان يعلم أصحابه هذه الكلمات من التشهد كما كان يعلمهم السورة من القرآن، وكان ابن مسعود يقول: "علمنيهن النبي عليه الصلاة والسلام")[14].

قاعدة 2: (صحة السند والمتن لا تعني بالضرورة حيزاً واسعاً في البناء التشريعي:

فإن الرواية قد تصح سنداً ومتناً لكن قد تلزم حيزاً تشريعياً محدوداً تفرضه الأصول الكلية والقواعد التشريعية الثاوية في نصوص الكتاب والسنة، وبعبارة أخرى فإن صحة الرواية غير فقه الرواية).

والسؤال الآن: ما هي الأصول التشريعية التي نبني عليها فهمنا للصلاة على (آل محمد)؟ وهل هو شعار على المسلم أن يلتزم به كي يكون مطبقاً للسنة بحذافيرها؟.

نبدأ بالإجابة على هذا التساؤل بالطريقة المتبعة عند الفقهاء بالتعريف اللغوي للمصطلحات:

-
فالصلاة: هي مطلق الدعاء وهي (من الله رحمة، ومن الخلق كلهم دعاء؛ لأن الاستغفار من الملائكة دعاء أيضاً كما صرح به الإمام أبو سعيد رضي الله عنه في معتبره)[15].

-
والآل: هم آل الرجل أي أهله أوعياله وآله أيضاً أتباعه[16].

وقد أخبرنا الله تعالى أنه وملائكته يصلون على النبي (إن الله وملائكته يصلون على النبي) وأمرنا بالاقتداء (يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً).

فصلاة الله على عباده هي إسباغه لرحمته عليهم ولطفه بهم، وهم ممن وفوا بالقول والعمل، قال تعالى (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين* الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون* أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون)، وقال تعالى: (هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيماً).

لذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: (اللهم صل على آل فلان)، فلما أتاه ابن أبي أوفى بصدقته قال: (اللهم صل على آل أبي أوفى)[17].

وكذا الحال في الصلاة على (آل محمد) وهم الموفون بالقول والعمل من أزواجه أو ذريته أو أتباعه على اختلاف الآراء في ذلك.

فالصلاة على آل أبي أوفى أو غيرهم مثلها مثل الصلاة على (آل محمد)، فالصلاة على عموم المؤمنين الموفين بالقول والعمل، فليست هناك ميزة خاصة (لآل محمد) على عموم المؤمنين تجعلهم يقترنون بالنبي صلى الله عليه وسلم في طبيعة تعبر عن وراثة النبوة، وقد نبه القرآن الكريم على هذه القضية بالذات، قال تعالى: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين).

فالحديث الوارد هو عبارة عن واقعة حال تعبر عن الصلاة عن عموم المؤمنين الموفين، وكما رأينا فإن الصلاة على آل محمد مثلها مثل لما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: (اللهم صل على آل فلان)، فلما أتاه ابن أبي أوفى بصدقته قال: (اللهم صل على آل أبي أوفى).

ومفهوم (الآل) قدم في التراث الروائي لدى مدرستي أهل الحديث وآل البيت متشبعاً بصراعات التاريخ بكل ايحاءاته وانفعالاته، وصور على أنه مفهوم ديني مقدس يقترن بوراثة النبوة، ونحن عندما نسبر النصوص الثابتة المستقرة من الكتاب والسنة نجد أننا غير مطالبين بأن ندخل في دائرة الإيمان أناساً بأعيانهم عاشوا في كنف النبي صلى الله عليه وسلم، فالإيمان مرتبط في هذ الموضع بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد نفي القرآن الكريم أية صلة بينه وبين أحد غيره في وراثة النبوة ومتعلقاتها (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين)، فما يسمونه بالصلاة البتراء -وهي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فقط دون اتباعها بالصلاة على الآل- هو في حقيقته اتهام صريح للقرآن الكريم بالبتر والتقصير الذي طالبنا بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في قوله (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً)، فالقرآن الكريم اقتصرت مطالبته لنا بالصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم دون ذكر الآل أو غيرهم.

وفي رأينا أن أي طرح فقهي يعلي من شأن هذا المفهوم فوق ما ذكرنا هو طرح لم يستطع أن يستوعب كليات الدين وقواعده، ويصب في الوقت ذاته في خانة المنظومات الفكرية التي تعلي من شأن هذا المفهوم التاريخي.

المثال الثاني:

روى الربيع (384): أبو عبيدة عن جابر بن زيد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الشرب قائماً، ويروى أنه شرب من زمزم قائماً. قال ابن عباس: المرجع فيه إلى كتاب الله وهو قوله (كلوا واشربوا) فهذه الآية تبيح الأكل والشرب على أي حال إلا في موضع خصه النهي من النبي صلى الله عليه وسلم.

والحديث أيضاً رواه مسلم (2024) (2027).

وروى مسلم (2026) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يشربن أحد منكم قائماً فمن نسي فليستقئ).

كيف نتعامل مع هذه الروايات، هل هي ثابتة وصحيحة؟ وهل نجعل هذا النهي محكاً يقاس به دين الإنسان واستقامته؟ وما هي مكانة هذه الروايات في بناء صرح الإيمان في آداب الأكل والشرب؟.

دعونا نطبق بعض القواعد التي استخرجناها:

قاعدة 1: (صحة السند والمتن لا تعني بالضرورة حيزاً واسعاً في البناء التشريعي:

فإن الرواية قد تصح سنداً ومتناً لكن قد تلزم حيزاً تشريعياً محدوداً تفرضه الأصول الكلية والقواعد التشريعية الثاوية في نصوص الكتاب والسنة، وبعبارة أخرى فإن صحة الرواية غير فقه الرواية).

قاعدة 2: (لا بد من حياطة الرواية وفهمها في ضوء القواعد الكلية والأصول التشريعية لاكتشاف أي خلل فيها "=العلة" وتحديد موقعها في البناء التشريعي).

في هذا الحديث يرى ابن عباس أن (المرجع فيه إلى كتاب الله، وهو قوله (كلوا واشربوا) فهذه الآية تبيح الأكل والشرب على أي حال إلا في موضع خصه النهي من النبي صلى الله عليه وسلم) وهو رأي علي بن أبي طالب[18] .

والظاهر أن عبدالله بن عباس وعلي بن أبي طالب عولا على مجموعة من المقدمات النصية من الكتاب والسنة شكلت القواعد الكلية والأصول التشريعية في هذا الباب، من ذلك:

1.
قول الله تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) فلا بد من شكر النعم بشكر المنعم سبحانه وتعالى ومن ذلك الدعاء والتسمية.

2.
قول الله تعالى: (كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَات) )يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث)، أكل الحلال الطيب المباح والبعد عن الحرام والخبيث.

3.
قول الله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)، النهي عن الإسراف والتبذير.

هذه هي الخطوط العريضة أو القواعد العامة التي تحكم آداب الأكل والشرب، فأين يمكن أن نضع مثل هذه الروايات في البنية الكلية لهذه القواعد؟.

الذي يظهر من هذا الاستقراء لنصوص الشريعة أن هذه الروايات ترجع إلى الأمور التحسينية؛ أي الهيئة الأفضل والأحسن، الهئية التي قد تكون هي غالب وضعية الإنسان، فالإنسان يتناول الطعام والشراب غالباً أثناء جلوسه سواء كان على طاولة أو على كرسي أو على الأرض، فهي الهيئة التي تسترخي وتستريح فيها أعضاء الإنسان، فلا تتعلق المسألة بشئ من أمور الدين التي يمكن أن يخالفها الإنسان، ولذلك قال فقهاء الصحابة أمثال ابن عباس وعلي بن أبي طالب أنه يشرب واقفا أو جالساً أو متكئاً، واعتمدوا على الإطلاق في قوله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) ، بل إن ابن عباس يرى أن النهي جاء مخصوصاً في حادثة معينة لأجل اعتبارات ظرفية (فهذه الآية تبيح الأكل والشرب على أي حال إلا في موضع خصه النهي من النبي صلى الله عليه وسلم) فنقلها الرواة على أنه نهي من النبي صلى الله عليه وسلم عن ذات الشرب واقفاً، ونفس الكلام عن علي بن أبي طالب أنه (قام فشرب فضله وهو قائم ثم قال: إن ناساً يكرهون الشرب قياماً، وإن النبي صلى الله عليه وسلم صنع مثل ما صنعت). وذهب بعض من أهل العلم إلى أن الشرب واقفاً من المكروهات فحسب، والمكروه يمكن أن يرتفع لأدنى ضرورة، والشرب واقفا ليس أمراً تتعلق به استقامة الإنسان أو تدينه، إنما هو من الأمور التحسينية التكميلية.

قاعدة 3: (لا بد للرواية من أصل من الكتاب أو السنة)[19].

قاعدة 4: (لا بد من تمييز الأحاديث والروايات التي جرى عليها العمل من غيرها، فـ"الصحيح منها ما أيده العمل أو وقع عليه الإجماع لذلك"[20]، فالظهور المتأخر للروايات وعدم قيام عمل عليها مؤذن بضرورة الفحص والتمحيص الدقيق والعرض على الأصول، "فلذلك تجب الأسانيد والبحث عن صحتها وثم التنازع في تأويلها إذا صحت بنقلها، فإذا اختلفوا في حكمها كان مرجعهم إلى الكتاب"[21]).

يبقى الشق الأخير من الرواية (ومن نسي فليستقي) عند مسلم، فهذه لا يمكن أن تقبل، إذ ليس لها أصل تشريعي تستند إليه[22]، والنبي صلى الله عليه وسلم شرب من ماء زمزم قائماً وما تقيأ، وورد عن كثير من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أنهم شربوا قياماً وعلى رأسهم الخلفاء الأربعة[23]، فالعمل لم يكن عليها، فلا تقبل لمخالفتها الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكونها لا تستند إلى أصل تشريعي.


--------------------------------------------------------------------------------

[1] الإمام أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي وفقهه ص 366، مبارك بن عبدالله الراشدي.

[2]
دراسات عن الإباضية ص 127، عمرو خليفة النامي. نقلاً عن مسائل أبو عبيدة ص 24.

[3]
السلطة في الإسلام ص285، عبدالجواد ياسين.

[4]
رواية الحديث عند الإباضية ص ، صالح بن أحمد البوسعيدي.

[5]
كتاب الترتيب، مسند الربيع ص 328.

[6]
حول هذه المسألة انظر كتاب "الطب النبوي الوقائي" محمود الحاج قاسم، ط دار النفائس.

[7]
حول هذه المسألة انظر كتاب "الطب النبوي الوقائي" محمود الحاج قاسم.

[8]
البخاري (5354)، السنن الكبرى للنسائي (7555)، ابن ماجه (3439).

[9]
كتاب الجامع ج1 ص 547-548، عبدالله بن محمد بن بركة.

[10]
السلطة في الإسلام ص237 ، عبدالجواد ياسين.

[11]
كتاب الجامع ج1 ص 547، عبدالله بن محمد بن بركة.

[12]
المرجع السابق ج1 ص 280،.

[13]
المدونة الصغرى ج1 ص 31، بشر بن غانم الخراساني.

[14]
المرجع السابق ج1 ص 32.

[15]
مشارق أنوار العقول ص 34، عبدالله بن حميد السالمي.

[16]
لسان العرب ج11 ص 39.

[17]
البخاري (1426)، مسلم (1078).

[18]
البخاري (5293).

[19]
قال الشاطبي في الموافقات ج3 ص 15-25: (كل دليل شرعي إما أن يكون قطعياً أو ظنياً:

-
فإن كان قطعياً فلا إشكال في اعتباره كأدلة وجوب الطهارة من الحدث والصلاة والزكاة والصيام والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتماع الكلمة والعدل وأشباه ذلك....

-
وأما الثاني وهو الظني الراجع إلى أصل قطعي، فإعماله أيضاً ظاهر، وعليه عامة أخبار الآحاد فإنها بيان للكتاب لقوله تعالى (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) ومثل ذلك ما جاء فى الأحاديث من صفة الطهارة الصغرى والكبرى والصلاة والحج وغير ذلك مما هو بيان لنص الكتاب وكذلك ما جاء من الأحاديث فى النهي عن جملة من البيوع والربا وغيره من حيث هي راجعة إلى قوله تعالى (وأحل الله البيع وحرم الربا) وقوله تعالى (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) إلى سائر أنواع البيانات المنقولة بالآحاد أو التواتر، إلا أن دلالتها ظنية، ومنه أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام "لا ضرر ولا ضرار" فإنه داخل تحت أصل قطعي في هذا المعنى، فإن الضرر والضرار مبثوث منعه فى الشريعة كلها فى وقائع جزئيات وقواعد كليات كقوله تعالى (ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا) (ولا تضاروهن).....

-
وأما الثالث وهو الظني المعارض لأصل قطعي ولا يشهد له أصل قطعي فمردود بلا إشكال.

-
وأما الرابع وهو الظني الذي لا يشهد له أصل قطعي ولا يعارض أصلاً قطعياً فهو في محل النظر).

[20]
كتاب الجامع ج1 ص 547، عبدالله بن محمد بن بركة

[21]
المرجع السابق ج1 ص 280.

[22]
نقل ابن حجر العسقلاني في ج10 ص 83 عن القاضي عياض قوله: (لا خلاف بين أهل العلم في أن من شرب قائماً ليس عليه أن يتقيأ).

[23]
فتح البارئ ج10 ص84، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني.

 
 
 

 

Google

جميع الحقوق محفوظة لموقع الاستقامة ولأصحاب المقالات - الأمانة العلمية تقتضي ذكر المصدر عند نقل أي  معلومات من هذا الموقع