مقـالات

بحـوث ودراسات

عـلماء كـتب ومخطوطات 

عقـيدة و فـقـه

تاريخ وحـضارة

الصفحة الرئيسة
 

 

 

فصول من كتاب الاباضية بين الفرق الاسلامية

 

للشيخ علي يحي معمر رحمه الله

مفاهيم يجب أن تختفي -3

 

سـبق إلى أذهان الناس – بسبب ما أثاره وادعاه المتعصبون من كل مذهب – أن الخلاف بين المذاهب الإسلامية خلاف جذري لا يمكن اللقاء فيه ، وهو مفهوم خاطئ لأن الخلاف بين المذاهب الإسلامية خلاف سطحي لفظي يمكن اللقاء فيه بيسير من الجهد لو ترك المتعمقون إثارة الخلاف وتجنب الإلزامات .

الجدل في اللوازم وليس في أصول العقائد

نستطيع أن نقول أن الخلاف بين جميع المذاهب الإسلامية لا يخرج عن الدوائر الثلاث الكبرى الآتية :

  1. العقائد المتعلقة بالخالق سبحانه وأسمائه وصفاته وأفعاله .

  2. نظام الحكم وشروط رئيس الدولة .

  3. الأحكام المتعلقة بالمسائل الفقهية أصولا وفروعا .

ولقد اتفق المسلمون عموما على أصول هذه الدوائر عموما وإن اختلفوا في التفصيلات والتفريعات ، فنحن لو استطعنا أن نجري مقارنة بين عدد المسلمين الذين يثيرون الجدل ويحدثون الخلاف ويدعون إلى تتبع فرقة دون فرقة أو مذهب دون مذهب ويحكمون على هذا أو ذاك بالضلال أو الكفر ويأمرونهم باتباع مذهب أو الاستمساك به دون غيره وبين عدد من يتبع تلك المذاهب في بساطة ويستمسك بها في تعلق مع عدم تعمق ، ولا استطاعة لإقامة حجج وبراهين ، لوجدنا أن نسبة ضئيلة جدا قد لا تصل الواحد في الألف ، هي التي تفهم بعض تلك المشاكل وهي التي تتزعم إثارة الخلاف والشغب ، وتحاول أن تكتل المسلمين إلى كتل في مذاهب معينة ، وأن هذه النسبة فقط أو بعضها في الحقيقة ، هي التي تعرف في مجموعات كبرى وراء اسم إمام من الأئمة فيتحمسون له في عصبية ويتمسكون بمذهبه في حرص وتشدد ، فهم في الغالب لا يعرفون ولا يفقهون شيئا من تلك المشاكل المعقدة من علم الكلام أو أصول الفقه أو قواعد السياسة .

وإنما يعرفون بعض المسائل الفقهية في العبادات ، أو لو أردنا أن نعرض نموذجا لذلك في الجمهورية العربية الليبية بين أتباع المذهبين الإباضي والمالكي لوجدنا أن مظهر الخلاف لا يزيد عند الأغلبية الغالبة من السكان عن قراءة البسملة في الفاتحة، أو رفع الأيدي عند التكبر ، وتحريك السبابة عند التشهد ، والإصباح بالجنابة في رمضان وما أشبهه وأن جميع المصادمات والخصومات التي تقع بين العوام من أتباع المذهبين لا تخرج عن مستوى هذه المسائل .

فإذا انتقلت من مستوى العوام إلى مستوى المثقفين دينيا أو المتفقهين ارتفع مستوى المسائل قليلا فوجدت النقاش ربما يدور على مستوى ميراث الأخوة مع الجد وحق الحضانة ونفقة الأقارب وبعض مسائل التعامل وأحكام الصلاة في السفر ووجوب التتابع في قضاء رمضان وما في هذا المستوى من الفقه العملي .

أما مسائل علم الكلام وقواعد التشريع وأسس بناء الحكم الإسلامي ، هذه الدوائر التي كانت محور تكون المذاهب في الحقيقة فلا يعرفون عنها شيئا أو يعرفون عنها أشياء سطحية تلقفوها بطريق التلقين . فالعوام وأشباه العوام جميعا يؤمنون بأن الله تبارك وتعالى حي قدير مريد سميع عليم بصير متكلم خالق مصور إلى آخر الصفات التي وصف بها نفسه ، ولكنك لو سألتهم عن صفة ما ، هل هي صفة ذاتية أو صفة فعل ، أو قلت لهم هل صفات الله تبارك وتعالى عينية أم غيرية ؟ ما فهموا منك ولأعرضوا عنك ، وربما ظنوا أنك تستهزئ بهم ومعنى هذا أن جمهرة المسلمين متفوقين- واقعيا- في العقائد وكذلك في الدائرتين الأخيرتين ويبقى النظر إلى خواصهم ، وبقليل من التأمل يبدو لنا واضحا أنهم متفقون هم أيضا في أصول جميع تلك الدوائر وإنما يختلفون عند التفاصيل بسبب ما يلزمه كل واحد منهم للآخر ويرتبه على نقاشه أعني أن المذاهب الإسلامية جميعا متفقة في الأصول وأن الخلاف وقع من بعضهم في اللوازم أو بسبب اللوازم فقط ، وبيان ذلك فيما يلي :

إذا جئنا إلى مسائل علم الكلام لكانت هي أهم المحاور لتكون المذاهب وتمزيق شمل المجتمع ، وتضليل وتفسيق جوانب كاملة من الأمة الإسلامية ، والتي أضاع فيها علماء أجلاء أوقاتا ثمينة في إعداد البراهين وما تستلزمه ، نجد الأمة الإسلامية بمذاهبها المختلفة متفقة على أصول العقائد وأن أولئك العلماء الأجلاء المتضاربين بالبراهين والإلزامات هم الآخرون متفقون على جميع الأصول وإن ظن الناس إنهم مختلفون وإنما اختلافهم فيما يلزمه بعضهم للآخرين أثناء النقاش أو عند إعداد السؤال والجواب حين يزعم أحدهم أن كلام الآخر يستلزم محذورا ويترتب عليه باطل ويجيب الثاني بنفس الأسلوب وإلى القارئ الكريم أمثلة من ذلك :

  1. المسلمون جميعا باختلاف مذاهبهم متفقون أن الله تبارك وتعالى متصف بجميع صفات الكمال ، منزه عن جميع صفات النقص لا يشبه شيئا من خلقه ولا يشبهه شيء من خلقه .

    هذه عقيدة عامة يتفق عليها جميع المسلمين خواصهم وعوامهم فإذا جاءوا إلى التفاصيل بدأت المصاولات العنيفة والجدل الحاد وإلزام الخصم ما يلزمه وما لا يلزمه حين يتحدثون عن أسماء الله تعالى وصفاته وأفعاله .

  2. المسلمون جميعا باختلاف مذاهبهم متفقون أن الله تبارك وتعال عادل في ملكه لا يجوز ولا يظلم الناس شيئا فإذا جاءوا إلى التفاصيل وناقشوا موضوع الثواب والعقاب والعمل والجزاء بدأت المصاولات العنيفة والجدل الحاد ومحاولة كل طرف أن يجعل براهين الطرف الثاني تستلزم محذورا .

  3. المسلمون كلهم باختلاف مذاهبهم متفقون أن الله تبارك وتعالى أعد الجنة لمن أطاعه وأعد النار لمن عصاه فإذا جاءوا إلى التفاصيل اشتد الخلاف وادعى كل واحد أن كلام خصمه يستلزم محذورا ويؤدي إلى باطل .

وهكذا ينفتح باب الخلاف ويترك الأصل المتفق عليه إلى فرعيات ومن الفرعيات إلى جزيئات للفرعيات حتى تطغى تلك الجزيئات على الأصل الهام للعقيدة وأصبحت لا تجد من حلبة الجدال أو حتى فيما ينسب إلى المذاهب إلا تلك اللوازم التي ينسبها كل طرف إلى الطرف الآخر كقولهم معطلة ، مشبهة وما إلى ذلك .

فإذا انتقلنا إلى الدائرة الثانية التي هي نظام الحكم وشروط رئاسة الدولة نجد أن المسلمين جميعا بمذاهبهم المختلفة أيضا متفقون على الأصول فيها فلو سألت أي عالم من أي مذهب كان ، عن الشروط التي يجب توافرها فيمن يتولى حكم المسلمين لأجابك بشروط تتفق أو تتقارب مما يقوله لك أي عالم من مذهب آخر ، فهو في حالات الكمال يجب أن يكون (44)عالما مجتهدا ذكيا شجاعا نزيها عادلا حريصا على مصلحة المسلمين تقيا ورعا إلى آخر الشروط المعروفة المحددة في كتب الفقه . هذه الصورة لمن يتولى الحكم على المسلمين أو ما يقارب منها ما يتفق عليه جميع المسلمين من جميع المذاهب تجدها عند الشيعة وتجدها عند الخوارج وتجدها عند المعتزلة وتجدها عند الأشاعرة وتجدها عند الإباضية وتجدها عند الماتريدية وتجدها عند الظاهرية وغيرهم إلا أفراد شواذا من بعض المذاهب فارقوا مذاهبهم . وهذا هو القدر المشترك بين جميع المسلمين بعد هذا الاتفاق على هذا الأصل يأتي الاختلاف عند التفصيل وذلك عندما جاءت الاتجاهات السياسية فأثارت عدة نقط جانبية تمسك بها بعض الناس ليستغلوها فاستغلتهم منها : قضية اشتراط آل البيت ، أو فرع من فروع آل البيت ، ومنها اشتراط القرشية ، ومنها اشتراط العروبة ، ومنها قضية الفاضل والأفضل والعالم والأعلم ، ومنها جواز الخروج عليه إذا جار وعدم جوازه ، ومنها كونه معصوما أو غير معصوم ، ومنها إذا لم يكن عادلا هل تجب طاعته أو لا تجب ، ومنها طريقة اختياره وتنصيبه ، ومنها الحكم في الواثب العادل والمختار الجائر إلى غير ذلك وهذه الأبحاث كلها وليدة اتجاهات سياسية أثرت على المسلمين فكان منهم شيعة وعثمانية ثم خوارج ومعتزلة ثم إباضية وأشاعرة الخ .

وتحت هذا الخلاف ومع شدة تعصب كل لما يرى أو يريده لم يستطع أي مذهب من هذه المذاهب أن يحقق الشروط في الحاكم الذي يختاره في تطبيق عملي مع أن كل مذهب من هذه المذاهب تمكن من الوصول إلى الحكم وتكوين دولة على أساس مذهبي . فقد بايعت بعض فرق الخوارج – كالأزارفة والصفرية – أئمة منهم فاستبد ذلك البعض حتى حكموا عليه بالكفر وعزلوه وقتلوه ، وبايع الشيعة أئمة فخرجوا عن الدين حتى ادعى بعضهم الألوهية . وانضوى العثمانيون تحت الحكم الأموي فجردتهم الدولة الأموية سيوفا تضرب بها رقاب المسلمين وتجاسر بعض أولئك الحكام حتى ضربوا الكعبة الشريفة ، وحتى استباح بعضهم حرمة المدينة المنورة ، ووصل المعتزلة إلى الحكم في ولاية مروان بن محمد وبعض ملوك الدولة العباسية فكان الحاكم آلة لتعذيب من يخالف المعتزلة ، وسخط الإباضية في عمان عن بعض الأئمة الذين انتخبوهم فعزلوهم ، والمهم في الموضوع أن جميع الدول التي قامت بعد الخلافة الرشيدة والتي أوحت إلى مؤسسيها أو أتباعها بشروط زائدة عن الشروط الأساسية المتفق عليها كانت سببا للنكبة ، ذلك أن كل شرط جديد يولد رد فعل جديد ويترتب على ذلك الجدل والنقاش ، وتأتي بعده مرحلة إعداد البراهين واللوازم ثم تقاذف المحاذير فكان الساسة يتطاولون على المناصب وكان العلماء يتقاذفون التهم لمخالفة الدين ، أما بقية الناس فيزجون إما في جيوش لنصرة حاكم أو إسقاط حاكم ، وأما في مذاهب لاتباع إمام أو لعن إمام ، والآن قد ألغيت الحياة بعض تلك الاعتبارات التي أدخلتها السياسة على الموضوع واتضح للناس جميعا أن الصراع الذي وقع بسبب اشتراط الوصية أو الهاشمية أو القرشية أو العروبة أو اعتبار الإمام معصوما أو لا يجوز إسقاطه ولو كان منحرفا ، كل هذه الجوانب التي كان الخلاف بسببها بين فرق الأمة ثبت اليوم أنه صراع على تفصيلات لا تدخل في أصل الموضوع . أثبتت التجربة أن أغلب أولئك الذين وصلوا إلى الحكم من أي جانب من الجوانب اعتمد على النظرة الجانبية في إثبات حكمه وامتداده ، وتخلى عن الأصول التي تتفق عليها جميع الأمة ، ولذلك فهو ينظر إلى الأمة المسلمة على أساس أنها تتكون من قسمين: أنصار له في حكمه وخصوم له وهو بهذا الاعتبار يفتح ميادين الحياة وحقوقها على مصاريعها لأنصاره ويغلقها أو يضيقها ما أمكنه التضييق على خصومه .

فإذا انتقلنا من هذه الدائرة إلى الدائرة الثالثة وهي دائرة الأحكام المتعلقة بالمسائل الفقهية أصولا وفروعا نجد أن المسلمين جميعا بمذاهبهم المختلفة متفقون على الأصول فلو سألت أي عالم من أي مذهب عن مصادر التشريع لأجابك بسرعة هي : الكتاب والسنة . فإذا جئت إلى التفاصيل وجدتها تثير الجدل والصخب وتوجيه الاتهامات وإلصاق اللوازم . والذي ينبغي أن ننتهي إليه بعد هذا العرض المجمل أن نعتبر جميع المذاهب الإسلامية على مستوى واحد في المعاملة بعد أن اتفقوا كما رأينا على الأصول ، وأن نبعد التحكم في إصدار الأحكام فليس من حقك أن تحمل الآخرين على أن ينظروا إلى فروع مسألة ما من الزاوية التي تنظر منها وإلا اعتبرتهم مبتدعة أو أصحاب أهواء وليس من حقك أن تفرض فهمك على الناس ثم تتحكم في إفهامهم فمن وافقك ضممته إليك ومن خالفك حكمت بفسقه أو كفره ، إن الله تبارك وتعالى هو إله للجميع والجميع يتساوون في عبوديتهم له ويتنافسون في التقرب إليه عبر يد الطاعة وامتثال الأوامر والحرص على العمل الصالح ، وليس درجات القرب مبنية على المذاهب وإنما هي مبنية على العمل الصالح من الأفراد – دون ارتباطهم بالمذاهب – وعلى صحة العقيدة .

وقد رأينا أن المسلمين متفقون على أصول العقيدة . أما ما جاء بعد ذلك من الخلاف في فهم النصوص من الكتاب والسنة واستخراج الأحكام العملية منها فإن الله تبارك وتعالى هو الذي أراد ذلك رحمة بهذه الأمة وتوسعة عليها ولو شاء لحدد كل شيء في نصوص لا تحمل التأويل أو الخلاف .

ولعل علماء الأمة المسلمة المعاصرة بناء على النظرة المنصفة وتسوية في الحقوق بين جميع المسلمين ودفعا للاحتكار الديني أو العلمي بين مجموعات محدودة ، فهم يسقطون من حسابهم تلك الأحكام المتعصبة الجائرة التي كانت تصدر على مجموعات من الناس ، أو بعض العلماء الأجلاء بأنهم أصحاب أهواء أو مبتدعة أو فسقة أو يحكم عليهم بالكفر ، وأن ينظروا إلى عمل الرجل مجردا من المذاهب أو الفرقة أو الكتلة في عمله الفردي وسلوكه الشخصي ، بقطع النظر عن الجهة التي ينتمي إليها فليس مهما أن يكون معتزليا أو شيعيا أو سنيا أو إباضيا أو خارجيا ، وإنما المهم أن يقوم بالعمل الصالح حسب الأسس التي يعمل بها في الفرقة التي ينتمي إليها ويجب أن تعتبر جميع الفرق التي تتكون منها الأمة الإسلامية على مستوى واحد من الاعتبار .والأمة الإسلامية تتكون من جميع من ينتسب إلى الشيعة أو ينسب إليها ، وجميع من ينتسب إلى الخوارج أو ينسب إليها ، وجميع من ينتسب إلى أهل السنة أو ينسب إليها ، وجميع من ينتسب إلى الإباضية أو ينسب إليها ، ولا يخرج منها إلا من أخل بأصل من أصول الإسلام فأنكر معلوما منه بالضرورة بطريقة التصريح لا بطريقة الإلزام . ولعل الالتفات إلى الماضي في هذه الأحكام غير مهم لاسيما بالنسبة إلى تلك المذاهب التي انقرض أتباعها كالظاهرية والمعتزلة والخوارج ولكنه بالنسبة إلى المذاهب الإسلامية الموجودة أمر شديد الأهمية ، فما داموا كلهم متفقين على الأصول فلا ينبغي الالتفات إلى اختلافاتهم في التفاصيل ، ويحق عليهم أن يلغوا فكرة اللوازم والاستلزام وأن يعلم كل فريق منهم أن من حق الآخر أن يستعمل عقله وفهمه وذكاءه، وأن يتبع ما اتضح له بناء على جهده واجتهاده ، والأخوة الإسلامية اليوم رابطة بين الشيعة وأهل السنة والإباضية فينبغي أن يستمسكوا جميعا بهذه الرابطة التي شرعها الله تبارك وتعالى . وأن يتعاملوا على هذا الأساس أساس اشتراكهم في أصول العقائد والسياسة والشريعة وإن اختلفت بينهم التفاصيل ولا عبرة بالخلاف في التفاصيل ما داموا متفقين على الأصول وما كان يلزم به كل فريق غيره في الماضي لا يلزم أحدا في الواقع ونفس الأمر . وعند الله تبارك وتعالى يتلاقى الجميع .

المصدر:  كتاب الاباضية بين الفرق الاسلامية - للشيخ علي يحي معمر 

 
 

 

 

الصفحة الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة لموقع الاستقامة ولأصحاب المقالات - الأمانة العلمية تقتضي ذكر المصدر عند نقل أي  معلومات من هذا الموقع