مقـالات

بحـوث ودراسات

عـلماء كـتب ومخطوطات 

عقـيدة و فـقـه

تاريخ وحـضارة

الصفحة الرئيسة
 

 

 

التاريخ بين الامة والدولة

 

إن تاريخ الدولة ، قد يكون هو نفسه تاريخ الأمة ، وقد يكون جانباً من تاريخ الأمة ، وقد يكون أبعد الأشياء عن تاريخ الأمة ، والمؤرخون في أغلب الأحيان يندفعون إلى تسجيل حركات دولة ما ، وأعمالها ، على أنها تاريخ الأمة التي تسيطر تلك الدولة .

وفي الأحيان التي تكون فيها الدولة مستبدة أو صاحب السلطان طاغياً فإن المسافة بينها وبين الأمة سحيقة البعد ، ومع ذلك فإن الكتاب الذين يشتهون أن يكونوا حداة للموكب الظالم ، أو أبواقاً لدعايته يكتبون وهم يعتقدون أو يتظاهرون بأنهم تاريخ الأمة ، وقد وقعت بهذه الطريقة مغالطات كبرى في تاريخ البشرية . وسوف أضرب أمثلة لما أرمى إليه حتى يتضح فكرى للقارئ الكريم .

يتحدث مؤرخ عن عظمة الأمة المصرية في عصر الفراعنة ، ويلتمس الشواهد على ما وصلت إليه هذه الأمة من مجد وحضارة ، فيقدم للقارئ الكريم ، الشواهد الثابتة التي لا تتغير ، يقدم إليه الأهرام ، هذه الجبال الشاهقة التي صنعتها أيدي البشر ، في فترة من تاريخها الطويل ، فهل كانت الأهرام حقاً من الشواهد على عظمة مصر ؟ أيام كان خوفو يتولى زمام الحكم فيها ؟

قد تكون هذه الظاهرة براقة خادعة ، ولكن الإنسان إذا تغلغل إلى حقيقة التاريخ ، سرعان ما يعرف أن هذه الشواهد أبعد شئ عن حقيقة تاريخ الأمة المصرية في ذلك الحين . إنها قد تكون صورة من تاريخ خوفو ، فرعون مصر المريض بداء الحقارة ، أو دليلا على تمكن هذا المرض من نفسية ذلك الملك الطاغية . ولكنها ليست على كل حال حقائق من تاريخ الأمة المصرية .

إن الناظر الساذج قد ينبهر بعظمة هذا العمل . وقد يحسبه من أمجاد الأمة ، ولكن هل

نجد حقاً في ذلك العمل عظمة ومجداً ؟

أعتقد أن تلك الحالة كانت أبعد شيء عن حقيقة العظمة والمجد ، وأقصى شيء عن تاريخ الأمة وأعمال الشعب .

مائة ألف من الأجسام الفتية ، والسواعد القوية ، تسخر لنحت الصخر ، ودحرجة الحجر ، مدة لا تقل عن عشرين سنة . لو وجهت هذه الجهود لعمل مثمر ، لشقت مجرى نيل ثان يروي صحراء مصر القاحلة ، فوجد فيه الملايين من سكان مصر جنة على الأرض . ولكن النزوة الحمقاء التي سيطرت على رأس ملك المريض بداء الحقارة – أعوزته العظمة في نفسه ، فراح يلتمس لها الوسائل في الخارج – أبت أن توجه تلك القوى إلى الاتجاه النافع للأمة . فإذا بمجهودات الأمة جميعاً تسخر لإرضاء هذه النزوة الطائشة .

وتمض عشرون عاما من حياة هذه الأمة لتبنى قبر شخصين ، وتصبر وهي تعمل تحت لذع السياط ، لتقدم المجنون قوة البدن وثمرة الإنتاج ، والمال القليل الذي تحصل عليه بالكفاح المستمر .

وفي هذا الحين ، الذي تبلغ فيه الأمة المصرية أحط ما تصل إليه أمة من الذلة والهوان ،والاسترقاق والمجاعة تحت حكم طاغية ، لا يجد بعض المؤرخين عنتاً في أن يشيدوا بالمجد العظيم الذي بنته الأمة المصرية . حين أقامت الأهرام .

إن هؤلاء المؤرخين يحسبون أن السلطان أو الأداة الحاكمة هي الأمة ، وما دام فرعون يعمل فإن عمله يعتبر تاريخاً للأمة ، وهم حين ينظرون إلى هؤلاء الآلاف من الناس ، الذين يكدسون الرمال ويرصفون الطرق ، ليدحرجوا القرية ليحمل نفقة العام، كأنما كل واحد من هؤلاء جاء بمحض إرادته ليبنى لنفسه برجاً في هذا القصر العظيم . ولم يلمحوا الفقر والذلة والمهانة التي تبلى بها الأمة ولا العذاب والسياط التي تسلط على هذه الجماهير الكادحة ، في عمل شاق ليست له ثمرة إلا الشهوة ، شهوة فرعون أن يكون عظيماً ، وأن يكون قويا وأن يكون من المخلدين .

فهل يعتبر هذا العمل حقاً من تاريخ الأمة ؟ هل تعتبر هذه الآلاف من العمال المسخرين الذين يدهدهون الصخر من الصبح إلى المساء ، وأبناؤهم يقتلهم السغب والفاقة ، هل تعتبر هذه الآلاف العاملة تحت السوط والسيف ، من الأمة ؟

وهل يعتبر عملها هذا تاريخا للأمة ؟

إنني لا أستطيع أن أتصور ذلك أبداً ، وكل ما أفهمه أن هذا قد يكون صورة من تاريخ فرعون ، وأن هؤلاء الآلاف الذين يعملون باستمرار مدة عشرين سنة ، ما هم إلا آلة صماء ، يحركها زر في يد فرعون . فهم في الحقيقة ليسوا قسما من الأمة ، فيكون عملهم تاريخاً لها ، وإنما هم قوة في ساعد فرعون ، وسواء كان هذا العمل الذي عملوه والجهد الذي بذلوه ، والجبل الذي شادوه ، سواء كان ذلك عظمة ومجداً ، أم مرضاً وشهوة ، فإنه من تاريخ فرعون وحده . لا من تاريخ أمته .

ضربت المثل بهذه الحوادث لأنني أعتقد أنها واضحة .

ومن المؤسف أن أكثر المؤرخين في مختلف العصور – حتى في هذه العصور التي كادت تتحرر فيها البشرية من طغيان الفرد واستعباده – لم يتحرروا من هذه النظرية التي لا تفرق بين الأداة الحاكمة والأمة ، فتجدهم يلهثون وراء السياسة يحدون لها ويصفقون، حاسبين أن عظمة التاريخ في أن يسيطر رجل أو هيئة ، على بقاع كثيرة ، فيتمتع بما لا يتمتع به غيره من شهوات ، ثم يسجلون ذلك على أنه تاريخ الأمة ، أمة ذلك الرجل ، أو تلك الهيئة .

 

إن هذه الصورة لا يمكن أن يكون فيها تاريخ الدولة تاريخاً للأمة . إن تاريخ الأمة بعيد جداً عن هذه المظاهر السخيفة ، التي تهدر فيها كرامتها ، وقوتها وإنتاجها .

أما الصورة الأخرى التي يكون فيها تاريخ الدولة هو تاريخ الأمة ، فذلك عندما تكون الأداة الحاكمة خاضعة لقانون الأمة وشوراها ، فلا تصدر إلا عن رأيها ، ولا تمتاز بشيء عن أي فرد منها ، وفي الفتوح الإسلامية زمن الخلافة الرشيدة أمثلة واضحة لذلك. إن تاريخ الدولة في ذلك الحين هو نفسه تاريخ الأمة، وذلك لأن ما يصدر عن الدولة هو ما يصدر عن الأمة راضية به راغبة فيه .

إن الأمة جمعاء كانت تقوم بالغزوات الفاتحة مندفعة إليها ، متسابقة إلى القيام بها ، دون وعود بالمرتبات أو حصر بالدواوين ، أو إكراه بالتجنيد الإجباري ، وإنما كانت انتفاضات منبعثة عن عقيدة من أمة كاملة ، ليس للأداة الحاكمة منها إلا تنسيق العمل وتنظيم الصفوف . ولذلك كانت هذه الحركات تاريخ أمة لا تاريخ دولة ، وأن الدولة كانت داخلة في الأمة ، معبرة عنها تعبيراً صحيحا صادقا لأن جميع ما تقوم به من نشاط داخلي أو خارجي كان يصدر عن حقيقتين ثابتتين: حكم الدين ، ورأي الأمة .

أما الحالة الثالثة التي تكون فيها تاريخ الدولة جانبا من تاريخ الأمة ، فأعنى به عندما تقوم دولة في قسم من أقسام الوطن . وتحرص هذه الدولة أن تصدر في أعمالها عن حكم الدين ورأى الأمة ، وفي التاريخ الإسلامي أمثلة من ذلك .

ولم أحسب هذا التاريخ تاريخ الأمة ، لأن الأمة ، اكبر من ذلك وأوسع ، فعمل هذه الدولة الصغيرة تعبير عن قسم من الأمة . وهو وإن كان تعبيراً صحيحا صادقا إلا أنه ينقصه الإجماع أو الأغلبية المطلقة.

 

مقال من كتاب الاباضية في موكب التاريخ - القسم الأول -  للشيخ علي يحي معمر رحمه الله

 
 
 

 

Google

جميع الحقوق محفوظة لموقع الاستقامة ولأصحاب المقالات - الأمانة العلمية تقتضي ذكر المصدر عند نقل أي  معلومات من هذا الموقع