في فقه الصلاة (2)
الاستاذ خالد الوهيبي
ذكرنا في الحلقات السابقة بعضاً من
القواعد العامة في إثبات هيئات الصلاة، معتمدين في ذلك على المنهج
الذي قمنا باستقرائه من صنيع فقهاء المدونة.
وفي هذه الحلقة سنقوم –إن شاء الله
تعالى- بدراسة لبعض القضايا المطروحة على ضوء المنهج الذي تعامل به
فقهاؤنا الأوائل رحمهم الله تعالى.
الاستقراء:
الاستقراء عبارة عن توليد المعرفة
الكلية من المعرفة الجزئية، فالفقه المعتمد على منظومة القواعد
والأحكام المستنبطة من خلال النظر في آيات الله في الوحي والكون ثم
استبطانها في تفسير النصوص والتعامل مع القضايا المستجدة هو الذي
يضبط الأحكام المأخوذة من النصوص المجتزئة.
فالمعرفة المتولدة من النظر في
نصوص مفردة مجتزئة لا يؤدي في كثير من الأحيان سوى إلى بعثرة
المعرفة وتضاربها، وفي تصوري أن ما يناقشه المتكلمون عبر التاريخ
من إشكالات (تعارض العقل والنقل) و(تعارض المصلحة مع النص) هو نتاج
تعارض:
1.
النظرة المجتزئة للنص عن المنظومة الكلية للنصوص.
2.
والنظرة الكلية المستنبطة من خلال النظر في آيات
الله في الوحي والكون ثم استبطانها في تفسير النصوص والتعامل مع
القضايا المستجدة.
بل حتى الذين وقعوا في تشبيه
البارئ تبارك وتعالى واقعون في هذا الإشكال، فهم قد نظروا إلى نصوص
مجتزئة عن سياقها العام (وأخر متشابهات) ولم يعملوا عقولهم في فهم
(الكليات) الدالة على تنزيه الله تبارك وتعالى (منه آيات محكمات هن
أم الكتاب)، فوقعوا فيما وقعوا فيه.
وتتحدد منهجية النظرة الكلية
بالخطوات التالية:
1.
تحديد النصوص المرتبطة بالموضوع من كتاب الله تعالى
وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
2.
تحليل النصوص.
3.
تعليل النصوص بالنظر إلى مناط الأحكام المرتبطة
بالنصوص.
4.
استقراء المعاني الكلية للنصوص وصياغتها وفق عدد من
القواعد العامة.
5.
عرض النصوص الآحادية على هذه القواعد المتحصلة.
6.
اعتماد هذه القواعد المتحصلة لفهم الواقع المتجدد،
وهو ما يعرف في أصول الفقه بتحقيق المناط.(راجع كتاب إعمال العقل،
لؤي صافي).
تطبيقات:
- روى الإمام الربيع بن حبيب رحمه
الله في مسنده: باب (48) جامع الصلاة، الحديث (294) أبو عبيدة عن
جابر بن زيد عن ابن عباس قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن الصلاة بالآنك والشبه) قال الربيع: الآنك القصدير والشبه الصفر
الأحمر.
والآنك الذي فسره الإمام الربيع
بالقصدير هو الرصاص الخالص ويقال الرصاص الأسود، والشبه هو الصفر
الأحمر وهو النحاس فيما يبدو.
قال الشيخ السالمي في شرح المسند
ج1 ص 422: (وإنما نهى عن الصلاة في الآنك والشبه لأنهما من حلية
أهل النار، وفي معناهما الحديد وجميع أنواع النحاس).
وهذا الرأي الذي رآه الشيخ السالمي
رحمه الله في تعليل النهي الوارد عنه صلى الله عليه وسلم مستنده
الحديث الذي رواه أصحاب السنن من طريق عبدالله بن بريدة عن أبيه أن
رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم من شبه فقال:
(ما لي أجد منك ريح الأصنام؟) فطرحه، ثم جاء وعليه خاتم من حديد،
فقال: (ما لي أرى عليك حلية أهل النار؟) فطرحه، فقال: يا رسول الله
من أي شئ اتخذه؟ قال: (اتخذه من ورق).
واستناداً إلى هذا الحديث قال بعض
الفقهاء بعدم جواز لبس الخاتم أو الساعة أو أي شئ معدني في الصلاة
وهؤلاء دائرون ما بين الكراهة والتحريم، وذهب آخرون إلى عدم جواز
لبس أي شئ معدني على الإطلاق.
اختبار العلة:
الحديث الذي روي في مسند الربيع لم
يوضح الراوي فيه علة النهي، وإنما ذهب من ذهب من الفقهاء إلى أن
علة النهي هي أن الشبه والحديد وبقية المعادن هي حلية أهل النار
اعتماداً على الرواية التي أوردها أصحاب السنن.
لكن لنأتي لتطبيق المنهج المقترح:
- تحديد النصوص الواردة في
الموضوع:
1. قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا
الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ).
2. قال تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمْ
سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ
كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ).
3. قال تعالى: (وَعَلَّمْنَاهُ
صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ
أَنتُمْ شَاكِرُونَ).
4. قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا
دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ
وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ*أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي
السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ).
5. قال تعالى: (يُصْهَرُ بِهِ مَا
فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ).
6. قال تعالى: (إِذِ الأغلال فِي
أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ).
7. ورد عنه صلى الله عليه وسلم:
(من شرب في آنية الذهب أو الفضة فكأنما يجرجر في جوفه نار جهنم).
8. ورد عنه صلى الله عليه وسلم:
(أحل الذهب والحرير لإناث أمتي، وحُرم على ذكورهم).
- نقوم بدراسة الحيثيات الواردة في
كل هذه النصوص وفحص درجة الانسجام الداخلي فيما بينها.
1. الآية (1): جاءت في مقام
الامتنان من الله تبارك وتعالى على عباده بإنزال الحديد، الذي جعل
الله تعالى فيه المنافع الجمة للناس.
2. الآية (2): أيضاً جاءت في سياق
الامتنان على العباد بأن جعل لهم سرابيل تقيهم الحر وسرابيل تقيهم
بأس بعضهم وهذا بالطبع يشمل الدروع وما شابهها من آلات معدنية.
3. الآية (3): يذكر الله سبحانه
عبده داود عليه السلام وما أنزل عليه من نعم، ومن تلكم النعم
تعليمه الصناعات الحربية المعدنية، والآية استعملت لفظة (لبوس)
للتعبير عما يلبس من الدروع المعدنية.
4. الآية (4): أيضاً في مقام ذكر
النبي داود عليه السلام كان مما أمره به سبحانه أن يعمل بصناعة
الدروع السابغات وهي دروع معدنية بالطبع.
5. الآية (5): فيها ذكر لبعض صنوف
عذاب أهل النار ومنها ضربهم بمقامع الحديد.
6. الآية (6): فيها ذكر لحال أهل
النار-والعياذ بالله- وما يتعرضون له من صنوف العذاب الذي لا يطاق،
ومن ذلك السلاسل التي تشملهم ويسحبون بها أشبه ما تكون بالحلي التي
تلبس.
7. الحديث (7): فيه نهي النبي صلى
الله عليه وسلم عن الشرب في أواني الذهب والفضة وكما يظهر فإن
النهي إنما هو لأجل مظهر الترف الفاحش في استعمال هذه الأشياء في
الشرب ونحوه.
8. الحديث (8): فيه إباحة لبس
الذهب والحرير للنساء وتحريمهما على الرجال، وكما يظهر فإن ذلك من
أجل احتفاظ كل جنس بمقوماته وكيانه الخاص، الأنوثة بمعانيها
الرقيقة اللينة اللطيفة، والرجولة بمعانيها من الصلابة والقوة.
وعليه فيمكن تقسيم هذه الدلالات
إلى ثلاث مجموعات:
1.
إباحة الانتفاع بالمعادن في شتى المجالات: النصوص
(1)، (2)، (3)، (4).
2.
تعذيب أهل النار ببعض المعادن: النصوص (5)، (6).
3.
تحريم استعمال بعض المعادن في بعض الأغراض: النصوص
(7)، (8).
والسؤال الآن: ما هي درجة الانسجام
الداخلي بين هذه المجموعات فيما يختص باختبار العلة في الرواية
التي نحن بصددها؟.
في (1): إباحة الانتفاع بالمعادن
في شتى المجالات.
في (2): تعذيب أهل النار ببعض
المعادن.
-
الدلالتان ورادتان في كتاب الله عز وجل، وتعذيب أهل
النار بالحديد أو بأي معدن آخر كما جاء في كتاب الله عز وجل لم يؤد
إلى تحريم لبس الحديد ولا غيره، بل جاء فيه (وأنزلنا الحديد فيه بأ
س شديد ومنافع للناس)، ومن المعلوم أن قانون الآخرة غير قانون
الدنيا، ففي الآخرة يعذب الناس بالحديد وفي الدنيا ينتفعون به.
-
فعلى هذا تكون العلة الواردة في الرواية المشار
إليها غير معتبرة في كتاب الله تعالى.
-
أضف إلى ذلك أن الآيات القرآنية الكريمة تصرح بلبس
الحديد وأنه من جملة نعم الله على الإنسان منها قوله تعالى: (أن
اعمل سابغات) وقوله تعالى: (صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم)،
والدروع تلبس وتلامس الصدر والظهر والساعدين والرأس كما هو شأن لبس
الدروع من قديم الزمان.
-
ونستأنس لهذا الكلام بأن هذه الرواية فيها كلام في
إسنادها وضعفها بعضهم (انظر فتح البارئ ج10 ص 323، ط دار المعرفة
بيروت).
كيف نفهم الحديث؟
رأينا أن العلة التي جاءت في
الرواية عند أصحاب السنن غير معتبرة في كتاب الله، والسؤال الآن
كيف نفهم الحديث الذي جاء في مسند الربيع عن ابن عباس قال: (نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بالآنك والشبه)؟.
- المنهج المقترح هو تفعيل النظرة
الكلية المستنبطة من خلال النظر في آيات الله في الوحي والكون ثم
استبطانها في تفسير النصوص والتعامل مع القضايا المستجدة.
وهذا الحديث يدخل ضمن منهيات
الصلاة التي لا تتعلق بهيئتها الأصلية، بل بأمور خارجة عنها، وأهم
النصوص الواردة فيها:
1.
ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة في
المقبرة ولا في المنحرة ولا في معاطن الإبل ولا في قارعة الطريق).
2.
ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (لا يتحرى أحدكم أن
يصلي عند طلوع الشمس أو عند غروبها).
3.
ما جاء عنه عليه السلام أنه نهى أن يصلي الرجل وهو
يدافع الأخبثين.
4.
ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (لا يصلي أحدكم وهو
عاقص شعره خلف قفاه).
5.
ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من قوله لعائشة:
(أميطي عنا قرامك هذا فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي).
ومن دراسة وتحليل هذه النصوص يتبين
أن:
1.
الحديث (1): دال على النهي عن الصلاة في بعض
الأماكن لقذارتها أو لكونها مؤدية إلى التعلق والاستعانة بغير الله
تعالى.
2.
الحديث (2): دال على النهي عن الصلاة في بعض
الأوقات، وقد جاء في بعض الروايات الأخرى أن النهي لأجل التشبه
بأهل الأوثان في عبادتهم.
3.
الحديث (3): دال على النهي عن صلاة الرجل وهو يدافع
الأخبثين، لئلا يشتغل قلبه عن الصلاة والخشوع فيها.
4.
الحديث (4): دال على النهي عن الصلاة في هيئة عقص
الشعر، لئلا تتبعثر خصلات الشعر يمنة ويسرة وتشغل المصلي عن صلاته.
5.
الحديث (5): فيه تعليل صريح من النبي صلى الله عليه
وسلم لإزالة القرام التي فيها تصاوير لأنها شغلته عن الصلاة.
- بعدها يمكننا تقسيم هذه الدلالات
إلى ثلاث مجموعات:
1. عدم الاشتغال بشيء عن الصلاة.
2. عدم الصلاة في الأماكن القذرة.
3. عدم الصلاة في الأماكن التي
يمكن أن تؤدي الصلاة فيها إلى الاستعانة والتعلق بغيره سبحانه.
وعليه فإن حديث النهي عن الصلاة
بالآنك والشبه:
1.
لا يمكن حمله على كون أن الآنك والشبه من حلية أهل
النار لما تقدم بيانه.
2.
ولا يمكن حمله على كون أن الآنك والشبه هما من جملة
القذارات والنجاسات لأنهما طاهران، وهذا يدركه كل عاقل.
3.
ولا يمكن القول كذلك بأن لبسهما في الصلاة أو غيرها
يؤدي بالإنسان إلى التعلق أو الاستعانة بغيره سبحانه، إذ لا رابط
بينهما.
4.
ولا يمكن القول كذلك بأن المنع هنا أمر تعبدي محض
(=غير معقول المعنى)، لأن هذه القضايا في جملتها معقولة المعنى،
والأمور التعبدية المحضة نجدها عند الاستقراء لا تخرج عن نطاق
النصوص الثابتة بالتواتر أو النقل المجتمع عليه وهي قضايا محددة
معروفة، كالتيمم والغسل من الجنابة وعدد ركعات الصلاة وما شابهها،
في حين أن هذه القضايا الثابتة بالنقل الآحادي لا يمكن أن ترتقي
لهذه المنزلة، فتحتاج منا إلى بحث في عللها من خلال الاستقراء
الكلي.
- إذن الوجه اللائق بأصول الشريعة
الغراء ومقاصدها أن يحمل النهي في الحديث على الاشتغال عن الصلاة.
- وهذا الحكم في مثل هذه الأمور
كلبس الساعة مثلاً لا يلزم حالة واحدة في كل الأشخاص، فمنهم من لا
تؤثر عليه هذه الأشياء ولا يحس بها أبداً، ومنهم من يحس بها بشكل
طفيف، ومنهم من تسبب له إزعاجاً وقلقاً شديداً، فيختلف الحكم
باختلاف هذه الحالات من الإباحة مروراً بالكراهة وانتهاء بالمنع،
وكل أدرى بحال نفسه.