تحدثنا في الحلقة الماضية عن معنى السنة في استعمال
فقهاء المدرسة الجابرية، وقلنا
إن مصطلح السنة لديهم يدل على سنن مورست عملياً
ومثلت المقدار المتفق عليه بين
المسلمين أوبعبارة ابن بركة ما (أيده العمل أو وقع
عليه الإجماع)[1]
وهذا هو معنى قولهم (سنة ماضية)، وأحياناً يعبرون
بالسنة عن المعاني الثاوية في
مجموع النصوص الثابتة في الكتاب والسنة.
الحديث والرواية في استعمال المدرسة الجابرية
وهذه نصوص من تراث المدرسة الجابرية في استعمال
مصطلحي الحديث والرواية.
1.
قال الإمام جابر بن زيد: (كيف يمسح الرجل على خفيه
والله تعالى يخاطبنا
في كتابه بنفس الوضوء؟! والله أعلم بما يرويه
مخالفونا في أحاديثهم)[2].
2.
قال الإمام جابر: (وهذه الرواية تمنع من التيمم
بغير التراب)
[3].
3.
قال أبو المؤرج: (لسنا نأخذ بهذا من حديث ابن عمر،
وقد كان
أبوه أمير المؤمنين رحمة الله عليه يقول بخلاف هذا
القول)[4].
4.
قال أبو غانم في المدونة: (حدثني أبو المؤرج عن أبي
عبيدة رفع الحديث إلى عمر بن
الخطاب رضي الله عنه أنه إذا قام إلى الصلاة قال:
سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك
وتعالى جدك ولا إله غيرك. ثم يتعوذ من الشيطان
الرجيم ويكبر)[5].
5.
قال أبو غانم في المدونة: (وروى لي أبو المؤرج عن
أبي عبيدة عن جابر بن زيد رفع
الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم: أن رجلاً من
الأنصار ذبح ضحيته ثم خرج مع
النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى، فلما انصرف
النبي عليه الصلاة والسلام، وعاب
ذلك عليه أصحابه.........)[6].
6.
قال أبو غانم في المدونة: (سألت أبا المؤرج: عن
الإمام يؤم الناس؛ كيف ينبغي
أن يصلي بهم؟.
قال: حدثني أبو عبيدة فقال: من أم الناس فليخفف
وليصل بأضعف من
خلفه، فإنه يصلي وراءه السقيم والضعيف وذو الحاجة
والكبير والمريض والحامل. ولا
أحسبه إلا وقد رفع هذا الحديث إلى النبي صلى الله
عليه وسلم)[7].
7.
قال أبو غانم في المدونة: (أليس قد روى الناس عن
النبي عليه السلام أنه يتوضأ بنبيذ
التمر إذا لم يجد الماء حين وفد الجن. قال أبو
المؤرج: قال الله أعلم بما فعل رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ولو نعلم أن النبي عليه
السلام فعل ذلك لأخذنا به)
[8].
8.
قال أبو غانم في المدونة: (سألت ابن عبدالعزيز
وأخبرني من
سأل الربيع بن حبيب عما روى الناس ورفعوه إلى النبي
عليه السلام أنه قال: البايعان
بالخيار ما لم يفترقا. قالوا جميعاً: بلغنا ذلك عن
النبي عليه السلام، والأمر عندنا
كذلك، قال ابن عبدالعزيز: البيع جايز ماض وإن لم
يفترقا والله أعلم بحديث النبي
عليه السلام ما معناه، والافتراق عندنا افتراق صفقة
البيع)[9].
9.
قال أبو غانم في المدونة: (قلت: أخبرني عن قول
هؤلاء فيما رووه ورفعوه إلى أبي سعيد
الخدري أنه قال: ليس فيما دون المائتين من الورق
شئ، ولا فيما دون عشرين مثقالاً من
الذهب شئ، ولا فيما دون الأربعين من الشياه شئ، ولا
فيما دون الثلاثين من البقر شئ،
ولا فيما دون خمسة من الإبل شئ، ولا فيما دون خمسة
أوساق من الحنطة والشعير والزبيب
والتمر شئ. والوسق ستون صاعاً.
قال: كل حديثهم الذي ذكرت مستقيم، غير قولهم:
"ليس
فيما دون ثلاثين من البقر شئ"، وزكاة البقر عندنا كزكاة الإبل يؤخذ
منها ما
يؤخذ من الإبل، ويعمل فيها ما يعمل في الإبل، وسائر
ما ذكرت من السنة في الذهب
والورق والغنم والحنطة والإبل والشعير والزبيب
والتمر كما ذكرت)[10].
10.
قال أبو غانم نقلاً عن أبي المؤرج: (لأن السنة عن
النبي عليه السلام على
المدَّعي البينة والمنكر اليمين، والبائع الآن هو
المنكر عليه اليمين، فلست أن
أحطها منه وأحولها إلى غيره ممن لم يجعلها عليه
النبي عليه السلام)[11].
-
من كل النصوص السابقة يتبين أن فقهاء المدرسة
الإباضية الأولى استعملوا مصطلح
(الحديث)
للتعبير عن معاني:
·
أحاديث تنسب إلى الصحابي (=قول للصحابي)،
مثال ذلك (3 ، 4).
·
رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم. مثال ذلك
(5
،
6).
-
في النصوص (2، 3): استخدم فقهاء المدرسة الجابرية
مصطلح (الرواية)
للتعبير عما تفرد به الآحاد من الرواة فيما يروونه
عن النبي صلى الله عليه وسلم،
ومثال ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي
الأرض مسجداً وترابها طهوراً
".
-
في النصوص (1، 3، 7 ،8 ،9): اعترض فقهاء المدرسة
الجابرية على بعض
الروايات والأحاديث التي رويت عنه صلى الله عليه
وسلم أو عن غيره من الصحابة
لمخالفتها ما هو أقوى منها في نظرهم، وحملوا البعض
الآخر على محمل مقبول اقتضاه
النظر في الثابت من النصوص من الكتاب والسنة.
من واقع الاستقراء للنصوص
السابقة المأثورة عن فقهاء المدرسة الجابرية، يتبين
لنا:
-
من هذا
الاستقراء للنصوص الإباضية الأولى، نجد أن مصطلح:
1.
السنة: استعمل للتعبير
عما جرى عليه عمل الأمة واستقرت عليه الشريعة وما
اجتمعت عليه من السنن، دون ما
ينفرد به الأفراد القليلون.
2.
الرواية: استعمل للتعبير عن بعض ما ينسب إلى
النبي صلى الله عليه وسلم من أقوال قيلت في مناسبات
ووقائع لا تذكر في كثير من
الأحيان الملابسات والظروف التي قيلت فيها من قبل
الرواة، مما ينفردون به عن غيرهم.
3.
الحديث: استعمل للتعبير عن أقوال أو أفعال تنسب إلى
النبي صلى الله عليه
وسلم أو أحد من صحابته الكرام رضي الله عنهم، مما
يرويه الآحاد من الناس.
-
إذن نلاحظ أن مصطلحي (الرواية) و(الحديث) متقاربان
جداً وليس بينهما سوى فروق طفيفة
للغاية، بينما مصطلح (السنة) يعبر عن درجة أعلى
ومستوى من الثبوت أرقى، هذا ما بينه
الاستقراء.
العلاقة بين السنة
والحديث
قدمنا فيما سبق من تعريفات للسنة والحديث أن السنة
تعبر عن الجانب التشريعي المتيقن منه عن الرسول صلى
الله عليه وسلم، بينما يعبر
الحديث عن وقائع متفرقة من حياة النبي صلى الله
عليه وسلم مما ينفرد به الآحاد من
الرواة.
إذن يكون بذلك الحديث دالاً على السنة أحياناً، وفي
أحيان أخرى
معبراً عن جوانب منها، وفي أحيان أخرى قد يحصل
للحديث نوع من عدم الانسجام الداخلي
مع البنية الهيكلية للسنة نتيجة للعوارض الداخلية
والخارجية التي ترافق عملية نقله،
ومن هذه العوارض: النسيان والخطأ والرواية بالمعنى
والبتر والزيادة وغيرها مما
يعتري حتى أوثق الرواة، قال الإمام أبو عبيدة مسلم
في رسالته عن الزكاة التي وجهها
إلى أتباعه بالمغرب (فما كان من صواب فمن الله، وما
كان من خطأ في رواية أو خبر أو
غير ذلك فمن نفسي، استغفر الله من جميع ما ليس هو
له رضى)
[12]
وهذه
الرسالة فيها من الأخبار والروايات عن الرسول صلى
الله عليه وسلم وعن صحابته
الكرام، وأبو عبيدة راو من رواة الحديث كما يظهر من
مسند الربيع ومدونة أبي غانم،
فقوله (وما كان من خطأ في رواية أو خبر) ينصرف
لمعنى الرواية والخبر عن الرسول صلى
الله عليه وسلم أو صحابته.
لذا كان بعض علماء الصحابة ينكر على من يسرد
الحديث عن النبي صلى الله عليه بدون ذكر الوقائع
والملابسات التي تكتنفه، فعندما
كان الصحابي أبو هريرة يروي ويروي عن النبي صلى
الله عليه وسلم كانت السيدة عاشة
تقول: (ولو أدركته لرددت عليه أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث
كسردكم)[13]
وكان عمر بن الخطاب يوصي بالإقلال من الحديث
والرواية، روى
ابن ماجه (28) والدارمي في السنن (280) والحاكم في
المستدرك (347) عن قرظه بن كعب
قال: بعث عمر بن الخطاب رهطاً من الأنصار إلى
الكوفة، فبعثني معهم، فجعل حتى أتى
صرار ـ وصرار ماء في طريق المدينةـ فجعل ينفض
الغبار عن رجليه، ثم قال: "إنكم تأتون
الكوفة، فتأتون قوماً لهم أزيز بالقرآن، فيأتونكم
فيقولون قَدِم أصحاب محمد قدم
أصحاب محمد، فيأتونكم فيسألونكم عن الحديث، فاعلموا
أن سبغ الوضوء ثلاث وثنتان
تجزيان".
ثم قال: "إنكم تأتون الكوفة، فتأتون قوماً لهم أزيز
بالقرآن
فيقولون قَدِم أصحاب محمد قدم أصحاب محمد، فيأتونكم
فيسألونكم عن الحديث، فأقلوا
الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا
شريككم فيه".
نخلص من كل ذلك
أن الحديث يكون:
-
الحديث دالاً على السنة.
-
وفي أحيان أخرى
معبراً عن جوانب منها.
-
وفي أحيان أخرى أخرى قد يحصل للحديث نوع من عدم
الانسجام الداخلي مع البنية الهيكلية للسنة نتيجة
للعوارض الداخلية والخارجية التي
ترافق عملية نقله.
(1)
عندما يكون الحديث دالاً على
السنة.
-
روى الإمام الربيع (523): أبو عبيدة عن جابر بن زيد
عن
أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : (لا يجمع
بين المرأة وعمتها ولا بين
المرأة وخالتها).
قال أبو عيسى الترمذي بعد روايته للحديث عن ابن
عباس وأبي
هريرة: (حديث ابن عباس وأبي هريرة حديث حسن صحيح،
والعمل على هذا عند عامة أهل
العلم لا نعلم بينهم اختلافاً أنه لا يحل للرجل أن
يجمع بين المرأة
وعمتها)[14].
فهذا الحديث عبارة عن عمل مورس من قبل المسلمين
عبروا فيه عن السنة (=الطريقة المتبعة) النبوية،
وهذا التشريع في حقيقته موجود في
كتاب الله تعالى، فالله تعالى نهى عن الجمع بين
الأختين (وأن تجمعوا بين الأختين)،
ونهى عن نكاح البنت إذا كانت الأم قد دخل بها الرجل
(وربائبكم اللاتي في حجوركم من
نسائكم اللاتي دخلتم بهن)، أما مجرد العقد على
البنت فيجعل الأم محرمة على الرجل
(وأمهات
نسائكم)، فمن تلك التشريعات يظهر حرص الإسلام على الحفاظ على
منظومة
العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة من أن يقطعها
الاشتراك في علاقة الزوجية (فهل
عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا
أرحامكم)، وهذا يشمل القرابة من الدرجة
الأولى كالأم والبنت والأخت، وجاء النهي عن الجمع
بين المرأة وعمتها والمرأة
وخالتها من التشريع النبوي المفعل للتعاليم والرؤية
القرآنية.
-
روى الإمام
الربيع (239): أبو عبيدة عن جابر بن زيد عن ابن
عباس قال: (التحيات كلمات كان
يعلمهن النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، ومعنى
التحيات الملك لله)، وجاء في مدونة
أبي غانم من كلام أبي المؤرج: (التشهد أن تقول حين
تجلس بعد كل ركعتين: "التحيات
لله والصلوات الطيبات، السلام عليك أيها النبي
ورحمة الله وبركاته، السلام علينا
وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له، وأشهد أن
محمداً عبده ورسوله". ثم تدعو بعد كمال الرابعة
وبعد هذا التشهد بما بدا لك وبما
يصلح لك أن تدعو به. قال أبو المؤرج: قال أبو
عبيدة: فهذا تشهد عبدالله بن
مسعود)[15].
وهذه الأحاديث في التحيات (=على اختلاف يسير في بعض
ألفاظها) مثلت السنة العملية المجتمع عليها بين
المسلمين والتي حرص النبي صلى الله
عليه وسلم على تعليمها لأمته، (قال الربيع وأبو
المؤرج: بلغنا عن عبدالله بن مسعود
أنه كان يعلم أصحابه هذه الكلمات من التشهد كما كان
يعلمهم السورة من القرآن، وكان
ابن مسعود يقول: "علمنيهن النبي عليه السلام")[16].
(2)
عندما يكون الحديث معبراً عن جوانب من السنة.
فالحديث عبارة عن
نقل وقائع متفرقة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم
يشهدها بعض الصحابة وينقلونها
(=مستلهمين
في ذلك فهمهم في كثير من الأحيان)، ومن خلال ربط تلك الأقوال أو
الممارسات بالأصول الكلية للدين من الكتاب والسنة
يتبين لنا أن الأحاديث لا تخرج في
طبيعتها عن:
-
القوانين الإلهية في كتاب الله تعالى، بالتشريع
النبوي داخل
القواعد والمقاصد الكلية للكتاب العزيز، بتطبيق
أحكامه وبيان معانيه ودلالاته.
-
القوانين الكونية والاجتماعية: وهذه أيضاً تطبيق
للقواعد والمقاصد
القرآنية في واقع الحياة المتغير، وهذا البعد لابد
من إدراكه لدى الفقيه في تعامله
مع الأحاديث، إذ إن إدراك هذا البعد الزمني الذي
ورد في النص المنسوب إلى النبي صلى
الله عليه وسلم وفق مقاصد الشريعة وقواعدها الكلية
هو الذي يضمن عملية التفريق
الدقيق بين التشريع النبوي وبين تطبيقات النبي صلى
الله عليه وسلم للنصوص وفق حركة
المجتمع والحياة
[17].
ولنضرب على لك مثالين:
المثال الأول:
روى الإمام الربيع (623) من طريق
ابن عباس عن النبي عليه السلام أنه سئل عن ضالة
الغنم فقال: (خذها فهي لك أو لأخيك
أو للذئب). ثم قيل له: ما تقول في ضالة الإبل؟،
فاحمر وجهه وغضب وقال: (مالك ولها،
معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى
يجدها ربها).
وروى الإمام
الربيع (624) ومن طريق ابن عباس أن أعرابياً سأل
النبي صلى الله عليه وسلم عن لقطة
التقطها، فقال: (عرفها سنة، فإن جاء مدعيها بوصف
عفاصها ووكائها فهي له، وإلا
فانتفع بها). قال الربيع: العفاص الوعاء، والوكاء
الخيط الذي تشد به.
وعند
الربيع (625) من طريق ابن عباس أيضا أن زيد بن ثابت
التقط صرة فيها مائة دينار،
فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال له:
(عرفها سنة، فمن جاءك بالعلامة
فادفعها له). فجاءه عند تمام السنة فقال له: عرفتها
يا رسول الله سنة. فقال له:
(عرفها
سنة أخرى). فجاءه عند انقضاء السنة الثانية فأخبره أنه عرفها سنة
أخرى،
فقال: (هو مال الله يؤتيه من يشاء).
وهذه الأحاديث رواها البخاري (91)
ومسلم (1722) وغيرهم.
ومن هذه الأحاديث نلحظ:
-
أن حق صاحب اللقطة
لا يسقط بالتقادم.
-
وأن الانتفاع بالمفقود أولى من إهلاكه، فالمال
يُعرّف
سنة أو سنتين ثم ينتفع به، ويلزم رده عند ظهور صاحب
الحق.
-
وأن النبي صلى
الله عليه وسلم أجاز التقاط ضالة الغنم ونهى عن
التقاط ضالة الإبل.
وهذه
التشريعات مأخوذة من القواعد التشريعية العامة من
الكتاب والسنة العملية، فالله
تعالى يقول: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى
أهلها) فمن ثوابت الإسلام ومن
أخص صفات المؤمنين حفظ الأمانة وتأديتها إلى أهلها
(والذين هم لأماناتهم وعهدهم
راعون).
وكذا الانتفاع بها إن لم يعرف صاحبها بعد تعريفها
هو من باب الحفاظ
على المال من الضياع والإهمال، وحق صاحبها لا يسقط
بالتقادم، لأن الحق لا ينتقل عن
صاحبه إلا بموجبات شرعية كالهبة أو الهدية أو البيع
وما شابهها، فالله تعالى نسب
المال إلى أصحابه (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم)
(وآتوا اليتامى أموالهم)، ولا تنتقل
هذه الملكية إلا بوجه مشروع }يا أيها الذين آمنوا
لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل
إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم{، وقال النبي صلى
الله عليه وسلم في بيان أمام
الأمة في حجة الوداع: (فإن دماءكم وأموالكم
وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في
بلدكم هذا في شهركم هذا)[18].
أما ما جاء عنه صلى الله عليه
وسلم في جواز إيواء ضالة الغنم والنهي عن إيواء
ضالة الإبل؛ فلأن ضالة الإبل (معها
حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها
ربها) بخلاف ضالة الغنم.
فتجدون من كل هذه التشريعات النبوية أنها تُستَقى
من أمرين اثنين:
-
القواعد التشريعية العامة في الكتاب العزيز والسنة
العملية.
-
دائرة الوجود الإنساني الاجتماعي التي تعمل فيها
هذه القواعد.
وقد أدرك
الصحابة رضوان الله تعالى عليهم هذا الأمر، فلم
يقفوا عند ظواهر الألفاظ مستأسرين
لحرفيتها، بل غاصوا في حقائق مراميها واكتشاف
قواعدها وأصولها، روى مالك في الموطأ
(عن
يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار أن ثابت بن الضحاك الأنصاري أخبره
أنه وجد
بعيراً بالحرة فعقله، ثم ذكره لعمر بن الخطاب،
فأمره عمر أن يعرفه ثلاث مرات. فقال
له ثابت إنه قد شغلني عن ضيعتي. فقال له عمر: أرسله
حيث وجدته)[19].
و(كانت ضوال الإبل في زمان عمر بن الخطاب إبلاً
مؤبلة تناتج لا يمسها أحد،
حتى إذا كان زمان عثمان بن عفان أمر بتعريفها ثم
تباع، فإذا جاء صاحبها أعطي
ثمنها)[20].
فعمر بن الخطاب أجاز إمساك وإيواء ضالة الإبل بشرط
تعريفها ثلاثاً، ثم إطلاقها إذا لم يتعرف عليها
أحد، أما عثمان بن عفان فقد أمر
بإمساكها وبيعها، فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها، فهل
في فعل الخليفتين مخالفة السنة؟،
قد يحسب ذلك بعض ممن لا يفرقون بين السنن الماضية
وما انبنت عليه، وبين مواقف
يتخذها النبي صلى الله عليه وسلم استناداً إلى
القواعد التشريعية في دائرة الوجود
الاجتماعي.
والمدقق يرى أن (تكاثر ضوال الإبل في ولاية عمر
يعود إلى انتقال
قبائل برمتها من الحجاز ونجد إلى العراق وخراسان
والشام ومصر، وامتداد سلطان
المسلمين خارج الجزيرة وتخلف أعداد من الإبل في
أحيائها القديمة)[21]
،
ولعل الناس قد خف الوازع لديهم، وكما يقال المال
السائب يعلم السرقة، فأجاز عمر
إمساكها وتعريفها ثلاثاً.
ثم (رأى الخليفة عثمان أن ترك الإبل طليقة يحول
دون الانتفاع بها بعد أن تكاثر عددها في عهد عمر بن
الخطاب وأصبحت كما روى ابن شهاب
"إبلاً
مؤبلة تناتج لا يمسها أحد" أي تتوالد دون أن يعرف لها مالك، لذلك
أمر عثمان
ببيعها والاستفادة من أثمانها في تنمية ثروة
المسلمين، بدلاً من تركها تتوالد وتموت
دون أن ينتفع بها أحد، ولو تمسك بظاهر النهي عن
التقاط الإبل لخالف سنة رسول الله
لتضييعه أموال المسلمين وثرواتهم)
[22]،
وعليه (فمن وجد بعيراً ضالاً
فيما لا يقدر فيه على الورود ولا على الرعي، وأخذه
قصداً إلى حفظه على ربه فهو مطيع
لله في فعله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينه عن
أخذ مثل هذا)[23]،
ويؤيد خميس بن سعيد الشقصي هذا الرأي بقوله: (ولا
يبعد أن يكون هذا البعير في معنى
ضالة الغنم ونحوها، وقال عمر: "من آوى الضالة فهو
ضال ما لم يعرفها" فهذا يدل على
أنه إذا عرفها وحبسها على ربها كان مأجوراً)[24].
ويعلل ابن
بركة هذا التوجه بقوله: (فإن قال قائل: لم أجزت
أخذه والنبي صلى الله عليه وسلم
قال: "لا يأوي الضالة إلا ضال" وقال عليه السلام: "
ضالة المؤمن حرق النار"،
والظاهر يمنع من أخذه؟.
قيل له: إنما هذا الوعيد لمن فعل ما قد نُهي عنه
النبي صلى الله عليه وسلم، وأما من تقرب إلى الله
تعالى بأخذ البعير وحفظه على ربه
في حال كان فيها لو تركه لتلف، وليس معه شرطه الذي
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن
أخذه لأجله، وإذا كان هذا هكذا كان مطيعاً في فعله
لقول الله تعالى (وتعاونوا على
البر والتقوى)
.
وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:
"من آوى
الضالة فهو ضال ما لم يعرفها" فهذا يدل على أنه إذا
عرفها فحبسها على ربها كان
مأجوراً.
وروى أصحاب الحديث من مخالفينا عن الزهري أنه
قال:"كانت الإبل
أيام عمر بن الخطاب مؤبلة تناتج لا يمسكها أحد، حتى
كان أيام عثمان فأمر ببيعها بعد
تعريفها، فإن جاء لها رب دفع إليه ثمنها)[25].
وماذا عسانا أن نقول في
زماننا هذا الذي صارت فيه ضوال الإبل تهدد أرواح
البشر في الطرقات؟! إن إمساكها هو
الوجه المعتبر في هذا الوقت حفاظاً على أرواح الناس
وممتلكاتهم، وهو التطبيق الصحيح
للسنة النبوية.
أما مدة تعريف اللقطة؛ فجاءت الروايات عن النبي صلى
الله
عليه وسلم بتحديد السنة والسنتين، ولا يخفى على
المتأمل أن البعد الاجتماعي متداخل
في هذه القضية مع الجوانب التشريعية، فتحديد مدة
التعريف يرتبط أساساً بطبيعة وسائط
النقل والاتصال اللازمة للتعريف، ونعرف أن تلك
الوسائط تتطور بفعل حركة الحياة، وقد
انتبه الفقهاء المحققون باستمرار لهذه الظاهرة؛
فأبو المؤثر الصلت بن خميس الخروصي
يقول بأن اللقطة (تُعرَّف على قدرها)[26]
وأبو سعيد الكدمي يرى أن (ما
قيمته ثلاثة دراهم فصاعداً عُرِّف سنة، والدرهمان
شهرين، والدرهم
شهراً)[27].
المثال الثاني:
روى
الإمام الربيع (592): أبو عبيدة عن جابر عن ابن
عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه سئل عام سَنَة ـ وإنما سُمِي عام سَنَة لشدة
غلائها ـ أن يُسَعِّرَ عليهم
الأسواق فامتنع؛ فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (القابض الباسط هو
المُسَعِّرُ، ولكن سلوا الله).
وعند أبي داود (3451) عن أنس قال: قال
الناس: يا رسول الله غلا السعر فسَعِّر لنا، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إن
الله هو المُسَعِّر القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله
وليس أحد
منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال). والحديث رواه
أيضاً ابن ماجه (2200) والترمذي
(1314)
وابن حبان وآخرون.
وروى مالك في الموطأ (1328) عن سعيد بن المسيب أن
عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع
زبيباً له بالسوق، فقال له عمر بن
الخطاب: (إما ان تزيد في السعر وإما أن ترفع من
سوقنا).
وقال البيهقي في
السنن الكبرى (10929) (وهذا فيما كتب إليَّ أبو
نعيم عبد الملك بن الحسن
الإسفرائيني أن أبا عوانة أخبرهم قال ثنا المزني
ثنا الشافعي عن الدراوردي عن داود
بن صالح التمار عن القاسم بن محمد عن عمر رضي الله
عنه أنه مر بحاطب بسوق المصلى
وبين يديه غرارتان فيهما زبيبن فسأله عن سعرهما.
فسعر له مدين لكل درهم، فقال له
عمر رضي الله عنه: قد حدثت بعير مقبلة من الطائف
تحمل زبيباً وهم يعتبرون بسعرك،
فإما أن ترفع في السعر وإما أن تدخل زبيبك البيت
فتبيعه كيف شئت.
فلما رجع
عمر حاسب نفسه ثم أتى حاطباً في داره، فقال له: "
إن الذي قلت ليس بعزمة مني ولا
قضاء، إنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد، فحيث
شئت فبع، وكيف شئت فبع").
فالظاهر أن عمر بن الخطاب لم يكن يرى في التسعير
إلا أمراً يدور مع تحقيق
مصلحة البائع والمشتري ويرفع الظلم والضرر عنهم ولا
يقتضي حالة واحدة يلزمها.
قال ابن بركة بعد أن استدل بالحديث السابق في منع
تسعير السلع (ولكن إذا
بلغ الناس حال الضرورة من الحاجة إلى الطعام على ما
في أيديهم واستغنائهم عنه مع
سوء حال الناس والشدة جاز للإمام أن يأخذ أصحاب
الطعام ببيع ما في أيديهم بالثمن
الذي يكون عدلاً من قيمته ويجبرهم على ذلك، فإن قال
قائل: فَلِمَ منعتم التسعير
للإمام وقد جوزتموه؟ قيل له: جوزناه في حال
الضرورة، وغيرها، وعلى الإمام أن يمنع
أهل الأسواق عن الغش؛ لأن في ذلك ظلماً من بعضهم
لبعض، وكذلك يمنعهم من كتمان
العيوب التي يغش بها المتاع)[28].
(وقال
الشيخ أحمد بن محمد بن
بكر: يجوز لقاض أو جماعة أن يسعروا على قدر نظرهم،
وما رأوه أصلح على الثمن أو على
المثمن، وفي رواية عنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل
أن يسعر لهم فامتنع، فقال: "إني
لأرجو أن لا ألقى الله بمال مسلم" فمن منع التسعير
حمل الحديث على التحريم، ومن
أجاز حمله على التنزه والحوطة، كما يقول الإنسان:
"لا أقضي بين الناس لئلا أظلم
أجداً في مال أو نفس" أو يقول: "لا أبيع ولا أشتري
لئلا آكل أموال الناس، أو لئلا
أربي".
وقال ابن بركة بعد أن ذكر الحديث الأول: فلا يجوز
لهذا الخبر أن
يسعر أحد على الناس أموالهم أو يجبرهم على بيعها
بغير طيب نفوسهم من إمام ولا غيره،
ولكن إذا بلغ الناس حال الضرورة من الحاجة إلى
الطعام وعزم أصحاب الطعام ببيع ما في
أيديهم جاز للإمام أخذ أصحاب الطعام ببيع ما في
أيديهم بالثمن الذي يكون عدلاً في
قيمته، فيجوز التسعير في حال الضرورة لا غير اهـ.
وقيل: يجوز التسعير بلا ضرورة وهو
القول الأول الذي ذكرته عن الشيخ أحمد)[29].
قال صاحب متن النيل
وشفاء العليل عبدالعزيز الثميني: (وجاز لأهل سوق
مشهور وما حوله من منازل رد أسعار
منازلهم لسعره) وعلل الشارح محمد بن يوسف اطفيش هذا
الرأي بقوله: (لئلا يقع اللبس
على الناس في السعر فيتوهم الإنسان أنه يبيع له
البائع على سعر ذلك السوق مع أنه
باع له على غير سعره فيبيعون في منازلهم على سعر
البيع في السوق)[30].
من كل هذه النصوص المأثورة عن العلماء ابتداء بعمر
بن الخطاب وانتهاء
بالعلماء المتأخرين يتبين أنهم عولوا على:
-
أن القضية برمتها في دائرة
الوجود الاجتماعي المرتبطة بحياة الناس اليومية
فيما يتمونون به من سلع وبضائع، فهي
تمثل العلاقة المتبادلة بين ثلاثية: المنتج والموزع
والمستهلك، وهذه العلاقة عند
سبر نصوص الكتاب والسنة الماضية تقوم على رفع الضرر
والظلم وتحقيق المصلحة (والأصل
فى العقود جميعها هو العدل، فإنه بعثت به الرسل
وأنزلت الكتب قال تعالى "لقد أرسلنا
رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم
الناس بالقسط"، والقرآن نهى عن
الربا لما فيه من الظلم، وعن الميسر لما فيه من
الظلم، وكلاهما أكل للمال بالباطل،
وما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من المعاملات
كبيع الغرر وبيع الثمر قبل بدو
صلاحه وبيع السنين وبيع المزابنة والمحاقلة ونحو
ذلك هي داخلة إما فى الربا وإما في
الميسر)[31]،
فالواقعة المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم تحقيق لهذه
المبادئ العظيمة، فلذا قال صلى الله عليه وسلم فيما
روي عنه: (وإني لأرجو أن ألقى
الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال).
===================================
[1]
كتاب الجامع ج1 ص 280، محمد بن عبدالله بن بركة.
[2]
كتاب الترتيب، مسند
الربيع (125).
[3]
كتاب الترتيب، مسند الربيع (168).
[4]
المدونة الصغرى ج1
ص 135، بشر بن غانم الخراساني.
[5]
المرجع السابق ج1 ص 25.
[6]
المرجع
السابق ج1 ص 129.
[7]
المرجع السابق ج1 ص 70.
[8]
المرجع السابق ج2 ص 53.
[9]
المرجع السابق ج2 ص 129.
[10]
المرجع السابق ج1 ص 155.
[11]
المرجع
السابق ج2 ص 164 ـ 165.
[12]
الديوان المعروض (رسالة الشيخ أبي عبيدة مسلم بن
أبي كريمة في الزكاة ص2).
[13]
البخاري (3375 ) مسلم (2493).
[14]
سنن
الترمذي ج3 ص433.
[15]
المدونة الصغرى ج1 ص 31، بشر بن غانم الخراساني.
[16]
المرجع السابق ج1 ص 32.
[17]
انظر أيضاً أحمد بن علي الرازي الجصاص
"الفصول
في الأصول" ج3 ص 239 ـ 244.
[18]
البخاري (105)، مسلم (1218)، السنن
الكبرى للنسائي (11213)، أبو داود (1905) وآخرون.
[19]
الموطأ (1447)، انظر
أيضاً الديوان المعروض (من قول قتادة ج4 ص 13).
[20]
المرجع السابق (1449).
[21]
إعمال العقل ص 160، لؤي صافي (بتصرف بسيط).
[22]
المرجع السابق ص 160،
(بتصرف
بسيط).
[23]
التاج المنظوم ج 7 ص 128، عبدالعزيز الثميني.
[24]
المرجع السابق ج 7 ص 129.
[25]
كتاب الجامع ج1 ص 239، عبدالله بن محمد بن بركة.
بيان الشرع ج 64 ص 318، محمد بن إبراهيم الكندي (
بتصرف).
[26]
التاج المنظوم ج
7
ص 119، عبدالعزيز الثميني.
[27]
المرجع السابق ج7 ص 119.
[28]
كتاب
الجامع ج2 ص 604 ـ 605، بن عبدالله محمد بن بركة.
[29]
شرح كتاب النيل وشفاء
العليل ج 13 ص 663، محمد بن يوسف اطفيش.
[30]
المرجع السابق ج 13 ص 663 ـ 664.
[31]
كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه ج20 ص510
(بتصرف بسيط)، أحمد بن
عبدالحليم بن تيمية.