الجرح
والتعديل -1
الجرح والتعديل أو علم الرجال من العلوم التي نشأت في أكناف مدرسة
أهل الحديث،
ويرجع بعض الباحثين نشأته الأولى إلى عصر التابعين،
روى مسلم عن ابن سيرين قال: (لم
يكونوا يسألون عن الإسناد؛ فلما وقعت الفتنة قالوا:
سموا لنا رجالكم. فينظر إلى أهل
السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ
حديثهم)[1].
موضوع الجرح والتعديل
يبحث الجرح والتعديل معرفة
أحوال الرواة تعديلاً وتجريحاً، وقد اشتغل بهذا
العلم عدد من كبار المحدثين كشعبة
بن الحجاج (ت 160هـ)، ومالك بن أنس (ت 179هـ)،
وسفيان الثوري (ت 161هـ)، ويحيى بن
سعيد القطان (ت 198هـ)، وعبدالرحمن بن مهدي (ت
198هـ)، وأحمد بن حنبل (ت 242هـ)
الذي يعد من أكبر المنظرين لهذه المدرسة، ويحيى بن
معين (ت 233هـ)، وعلي بن المديني
(ت
234هـ)، ومحمد بن إسماعيل البخاري (ت 256هـ)، وأبي زرعة الرازي (ت
264هـ)، ومحمد
بن يحيى الذهلي (ت 258هـ)، ومسلم بن الحجاج (ت
261هـ)، وأبي داود السجستاني (ت
275هـ)،
ومحمد بن عيسى الترمذي (ت 279هـ) وغيرهم.
وأما دوافع هذا العمل
الضخم الذي فاق التصورات وعُد من العلوم التي تميز
بها المسلمون بها دون غيرهم من
الأمم[2]؛ فيرجعها الكثير من الباحثين إلى:
1.
الرغبة في التوثق من حال
الرواة من العدالة والضبط لما يروون خشية الكذب في
حديث رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وقد عبر عن هذا الصحابي الجليل ابن عباس
عندما قال: (إنا كنا مرة إذا سمعنا
رجلاً يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا
فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا
ما نعرف)[3]، ويروى أيضاً عن
ابن سيرين قوله: (إن هذا العلم دين، فانظروا عمن
تأخذون دينكم)[4].
2.
ضبط
تواريخ ولادة ووفاة الرواة وأوطانهم وأنسابهم حتى
يتسنى معرفة المرسل والموقوف
والمتصل وغير المتصل من الأسانيد، وكذا معرفة
الناسخ من المنسوخ.
وقد ألفت
في هذا العلم مصنفات كثيرة منها: "التاريخ الكبير"
لمحمد بن إسماعيل البخاري،
و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم الرازي، و"الكنى
والأسماء" لمسلم بن الحجاج،
و"العلل ومعرفة الرجال" لأحمد بن حنبل، و"تاريخ ابن
معين" وغيرها كثير.
الجرح والتعديل بين القبول والتحفظ
يعد علم الجرح
والتعديل أو علم الرجال من الفروع المهمة في منظومة
علم الحديث، وقد رأى كثير من
الباحثين والأكاديميين أن الحكم على الأحاديث
والروايات لدى المحدثين يعتمد في
معظمه على منهج الجرح والتعديل (=الإسناد)، لذا
فالفقه الناشئ عند مدرسة أهل الحديث
يعتمد بالدرجة الأولى على الإسناد الروائي.
ونستطيع القول كذلك إنه بناء
متكامل أنتجته عقلية أهل الحديث، وهم النواة الصلبة
للدول والحكومات المتعاقبة التي
حكمت العالم الإسلامي لقرون طويلة (أمويين،
عباسيين، عثمانيين)، وهذا الانفراد
بتقعيد هذا المنهج من قبل مدرسة أهل الحديث كما أن
له إيجابياته؛ فإن له سلبياته
أيضاً، فقد أدت الرغبة لدى أهل الحديث في تهميش
وإقصاء المدارس الإسلامية الأخرى
إلى إضاعة التنوع والثراء الفكري الموجود لديها،
كما أسهم ذلك أيضاً في عدم إجراء
مراجعات للتصورات الذاتية من خلال البحث الحر
والنظر والحوار، مما جعل كثيراً من
المفاهيم والتصورات غير المنضبطة تعيش لمئات السنين.
والمشكلة أن القضية لم
تأخذ بعداً علمياً فحسب؛ بل تدخلت السياسة فيها
كثيراً، فالمدارس الإسلامية الأخرى
كانت لها مواقف سياسية معارضة للسلطات القائمة
آنذاك، مما جعلها عرضة للملاحقة
والمطاردة على الصعيدين: السياسي والعلمي، ومع
اكتمال منظومة التدوين الروائي كانت
الكثير من المدارس الإسلامية المعارضة للحكومات
آنذاك قد صنفت ضمن الفرق المبتدعة
الخارجة عن النطاق الإسلامي "الرسمي"، فعمرو بن
عبيد المعتزلي لم يشفع له زهده
وورعه فهو (عمرو بن عبيد الضال، عمرو بن عبيد
المبتدع)[5]، وعلماء الإباضية تم
تجاهل أئمتهم كأبي عبيدة والربيع بن حبيب في كتب
الجرح والتعديل، ورغم أن بعض
الباحثين يرى أنهم قد ذكروا عرضاً في بعضها، إلا أن
آخرين يرون أنهم غيرهم وهناك
تشابه في الأسماء[6]!، ومن ذُكِروا وتُرِجم لهم ـ
وما أقلهم ـ: إما أن لا يذكر
انتماؤهم أو يتم التحذير منهم رغم الاعتراف بصدقهم
وأمانتهم، ومن هؤلاء:
1.
أبو نوح صالح الدهان: قال عنه علي بن المديني:
(ضعيف يرى رأي الأباضية)[7]، فضعفه
لا لأجل روايته، بل لأجل انتمائه السياسي والفقهي،
فقد كانوا ينظرون إليه على أنه
(كان
يرضى بقول الخوارج؛ وذلك للزومه جابر بن زيد)[8].
2.
الوليد بن كثير:
قال عنه أبو داود: (ثقة إلا أنه إباضي)[9].
3.
داود بن الحصين: (قال
النسائي ليس به بأس، وقال ابن عدي صالح الحديث إذا
روى عنه ثقة، وذكره ابن حبان في
الثقات، وقال كان يذهب مذهب الشراة، وكل من ترك
حديثه على الإطلاق وهم؛ لأنه لم يكن
بداعية)[10].
وهذا غيض من فيض، والأمثة على ذلك تزخر بها كتب
الجرح
والتعديل.
المراجعات
رغم تفرد مدرسة أهل الحديث
بوضع مناهج الجرح والتعديل (=الإسناد) إلا أنه كتب
لها الذيوع والانتشار بين
المدارس الإسلامية الأخرى كمدارس الرأي بفعل عوامل
سياسية وعلمية[11]، وأما ما
قدمته المدارس الأخرى فقد طوته أيادي النسيان، وصار
من تراث الماضي، فمثلاً ما قاله
الجاحظ (ولو كانوا يروون الأمور مع عللها
وبرهاناتها خفت المؤونة، ولكن أكثر
الروايات مجردة، وقد اقتصروا على ظاهر اللفظ دون
حكاية العلة ودون الإخبار عن
البرهان)[12] ضاع أدراج الرياح مقابل كلام يحيى بن
سعيد القطان (لا تنظروا إلى
الحديث، ولكن انظروا إلى الإسناد فإن صح الإسناد
وإلا فلا تغتروا بالحديث إذا لم
يصح الإسناد)[13].
ولكن مع هذا وجدت هناك مراجعات مبكرة جداً لمنهج
الجرح
والتعديل تجدها (=رغم إهمالها) مبثوثة هنا وهناك،
دعونا نستعرضها ونحاول تحليلها:
(1)
قال أبو غانم في المدونة: (قلت لأبي المؤرج: إن هؤلاء يقولون
ويروون عن
عبدالله بن عمر أنه كان يقول: هذا بحر وتحته سبعة
أبحر، وتحتها النيران، وكان ينهى
عن الوضوء والاغتسال بماء البحر، وكان يقول: لأن
أتيمم أحب إليّ من أن أغتسل من ماء
البحر.
قال أبو المؤرج: لسنا نأخذ بهذا من حديث ابن عمر،
وقد كان أبوه أمير
المؤمنين رحمة الله عليه يقول بخلاف هذا القول،
ويجيز الوضوء بماء البحر والاغتسال
به من الجنابة)[14].
·
في هذا النص يؤكد الفقيه الإباضي أبو المؤرج على
ضرورة تمحيص ما يروى، حتى ولو كان ثابتاً من جهة
الإسناد عن كبار الصحابة كابن عمر،
وفي جرأة وصراحة يقول: "لسنا نأخذ بهذا من حديث ابن
عمر".
(2)
قال أبو غانم
في المدونة: (سألت أبا المؤرج: هل في الصلاة قنوت؟.
قال: حدثني أبو عبيدة
أنه سأل جابر بن زيد عن ذلك فقال: الصلاة كلها
قنوت، قال الله تبارك وتعالى: "أمن
هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً" فالصلاة كلها
قنوت.
قلت: يا أبا
الشعثاء؛ ليس عن هذا أسألك، ولكن إنما أسألك عن
الذي يفعل هؤلاء بعد الركوع، يدعون
ويهللون وهم قيام.
قال: هذا أمر محدث لا نعرفه ولا نؤثره عمن مضى من
هذه
الأمة)[15].
·
يؤكد الإمام جابر في هذا النص على مبدأ حماية السنن
العملية
من أن تطغى عليها مرويات الآحاد " هذا أمر محدث لا
نعرفه ولا نؤثره عمن مضى من هذه
الأمة"، وهو موقف جنب المدرسة الجابرية الكثير من
الدخيل في عالم الرواية.
(3)
قال الإمام جابر بن زيد: (كيف يمسح الرجل على خفيه والله تعالى
يخاطبنا
في كتابه بنفس الوضوء؟! والله أعلم بما يرويه
مخالفونا في أحاديثهم)[16].
·
ينتقد الإمام جابر في هذا النص مبدأ قبول الرواية
المخالفة للدلالات القرآنية.
(4)
قال أبو غانم في المدونة: (سألت أبا المؤرج وأبا سعيد عبدالله بن
عبدالعزيز، وأخبرني محبوب عن الربيع: عن قول الناس
أفطر الحاجم والمحجوم.
قالوا جميعاً: إنما يكره ذلك للصائم مخافة أن يضعف،
فإن لم يخف ضعفاً
فليحتجم إن شاء)[17].
·
الربيع وعبدالله بن عبدالعزيز وأبو المؤرج كلهم
يوجهون حديث "أفطر الحاجم والمحجوم" توجيهاً معيناً
وهو مخافة أن يضعف الصائم، وهو
توجيه لم يذكر في متن الرواية، لكن أوجبه النظر في
الدلالات الكلية الثاوية في نصوص
الكتاب والسنة (لأن السنة في الصيام إنما نهوا عن
الطعام والشراب وغشيان النساء،
والحجامة ليس بشيء من ذلك، إنما يمنع منها مخافة
الضعف، فإن احتجم فقد تم صومه بهذا
نأخذ وعليه نعتمد وهو قول أبي عبيدة والعامة من
فقهائنا)[18].
(5)
جاء في
الديوان المعروض: (قلت: إن قومنا وبعضهم يقولون
ويروون عن علي أنه قال: لا يقضي
رمضان في العشرة؟
قال: أساءوا الرواية، ولقد كان علي لعمري يقول ذلك
على
غير ما قالوا، إنما قال علي ذلك لئلا يؤخروا رمضان
إلى العشرة، كذلك حدث عنه الحسن
وإنما دعاه إلى ذلك لئلا يؤخر رمضان إلى العشرة،
فهم يروون الرواية ولا يعرفون
وجهها ولا معانيها، والسنة أن رمضان فرض من الله،
والعشرة صيامها تطوعاً فلا ينبغي
لأحد أن يدع الفرض ويتطوع، وليس صوم العشرة حتماً،
ولكن أيام الصوم فيها متضاعف،
وأن العمل فيها مضعف إن شاء الله.
فهذا كله قولنا فبه نأخذ وعليه نعتمد وهو
قول أبي عبيدة والعامة من فقهائنا)[19].
·
ينتقد أبو المؤرج ظاهرة الرواية
التي لا تتقيد بفقه كليات الدين وثوابته اليقينية،
وعاب على أقوام " يروون الرواية
ولا يعرفون وجهها ولا معانيها"، وعد ذلك من باب
إساءة الرواية لا من إتقانها.
(6)
جاء في الديوان المعروض: (وقال قوم: لا يصام آخر يوم من شعبان،
ورووا
فيه حديثاً والله أعلم به: قالوا: إن النبي عليه
الصلاة والسلام قال: "لئن أفطر
يوماً من رمضان أحبّ إليّ من أن أصوم آخر يوم من
شعبان".
ولسنا نرى أن
النبي عليه الصلاة والسلام يقول هذا، لأن صوم رمضان
فريضة افترضها الله على النبي
عليه الصلاة والسلام ولم يحرم عليه صوم شعبان أو
آخر يوم منه.
حدثنا هارون
بن اليماني في هذا الحديث أنه قال: حديث مقلوب،
إنما قال رسول الله عليه الصلاة
والسلام: "لئن أصوم آخر من شعبان أحب إليّ من أن
أفطر يوماً من رمضان")[20].
·
يكرر أبو المؤرج انتقاده لظاهرة الرواية التي لا
تتقيد بفقه كليات الدين
وثوابته اليقينية، وينفي فيه أن ينسب للنبي صلى
الله عليه وسلم ما يخالف ذلك.
(7)
قال أبو غانم في المدونة: (سألت ابن عبدالعزيز: عن الدرهم
بالدرهمين
يداً بيد، وعن الرواية التي يروي هؤلاء عن النبي
عليه السلام أن الدرهم بالدرهم لا
فضل بينهما، وهل هذه الرواية ثابتة أم لا؟
.
قال لي: ما كان يداً بيد فلا
بأس بالزيادة فيه، و قد بلغنا عن البراء بن عازب
أنه سأل النبي عليه السلام، وكان
يشتري الذهب بالفضة، قال: يا نبي الله إنا نشري هذا
التبر ونستزيد فيه. فقال النبي
عليه السلام: "ما كان يداً بيد فلا بأس به، وإنما
الربا في النظرة"، غير أن أبا
سعيد الخدري لقي ابن عباس فقال: "يا ابن عباس صحبت
النبي عليه السلام ما لم نصحبه
وقرأت من القرآن ما لم نقرأه".
قال: ما قرأت إلا نحو ما قرأتم، وما أنا
بأقدم من صحبة رسول الله منكم.
قال: فما الذي رواه الناس عنك في الصرف؟.
قال: فقال ابن عباس: حدثني أسامة بن زيد أن النبي
عليه السلام قال: "لا بأس
بالذهب والفضة اثنان بواحد يداً بيد، وإنما الربا
في النظرة".
قال ابن
عبدالعزيز: الرواية في ذلك تكثر منا ومنهم.
قلت: إن هؤلاء يقولون ويروون عن
ابن عباس أنه رجع عن قوله هذا وقال الذهب بالذهب
والفضة بالفضة مثلاً بمثل لا زيادة
فيه ولا نقصان.
قال: في شهادتهم لك أن ابن عباس قاله كفاية على عدل
ما في
يدك، ولا يصدقوا في ادعائهم رجوع ابن عباس لموضوع
النكير منهم لعيبهم هذا القول
ورفضهم)[21].
هذا النص عن عبدالله بن عبدالعزيز يناقش فيه مسألة
التفاضل في
الجنس الواحد "عن الدرهم بالدرهمين يداً بيد"،
ويسأل بشر بن غانم الخراساني ابن
عبدالعزيز عن الرواية التي تروى في منع ذلك.
وهذه الرواية هي ما تداوله بعض
الصحابة في منع ذلك، مثاله ما روي من بعد من طريق
أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا
مِثلاً بمثل ولا تشفوا بعضها على
بعض، ولا تبيعوا الوَرِق بالوَرِق إلا مِثلاً بمثل
ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا
تبيعوا منها غائباً بناجز)[22].
وقد أجاب ابن عبدالعزيز بما يعارض هذه
الرواية مما رواه الناس عن (البراء بن عازب أنه سأل
النبي عليه السلام، وكان يشتري
الذهب بالفضة، قال: يا نبي الله إنا نشري هذا التبر
ونستزيد فيه. فقال النبي عليه
السلام: "ما كان يداً بيد فلا بأس به، وإنما الربا
في النظرة" )[23]، وبما روي كذلك
عن ابن عباس (قال حدثني أسامة بن زيد أن النبي عليه
السلام قال: "لا بأس بالذهب
والفضة اثنان بواحد يداً بيد، وإنما الربا في
النظرة"
).
ثم أعقب ذلك قوله:
(الرواية
في ذلك تكثر منا ومنهم)، وفيه إشارة واضحة إلى ما يعتري النقل
الآحادي من
التضارب والتعارض وما يولد ذلك من تزايد الحذف
والبتر والزيادة والرواية بالمعنى
وغيرها من العوارض الداخلية والخارجية الناشئة عن
الطبيعة البشرية، لذا كان من
اللازم إحاطة هذه المنطقة بسياج من الرد إلى الأصول
الكلية والقواعد التشريعية التي
تولدت عنها هذه الفروع.
وعبارة ابن عبدالعزيز (الرواية في ذلك تكثر منا
ومنهم)، هي عبارة تنم عن فهم للحقول والبيئات
المعرفية التي نشأت فيها الرواية،
والتي لا تخرج عن نطاق الطبيعة الإنسانية بما تمثله
من الخطأ والوهم والنسيان، بل
والتعبير عن الفهم من خلال الرواية (=الرواية
بالمعنى)، وضرب ابن عبدالعزيز على ذلك
مثالاً بما يروونه من تراجع ابن عباس عن رأيه
السابق في جواز بيع التفاضل إذا كان
يداً بيد، فقال (في شهادتهم لك أن ابن عباس قاله
كفاية على عدل ما في يدك، ولا
يصدقوا في ادعائهم رجوع ابن عباس لموضوع النكير
منهم لعيبهم هذا القول ورفضهم).
تطلع نحو المستقبل
مع بدايات النهضة الإسلامية
المعاصرة والرغبة في رجوع الأمة لمكانتها اللائقة
بها؛ بدأت معها مراجعات للمناهج
والأفكار التي تسببت في إعطاب عجلة التسارع الزمني
للأمة، وقدمت في ذلك دراسات
وبحوث بدأت بسيطة وخجولة ثم ترقت ونمت لتقدم
مشروعات على درجة عالية من الرقي،
والغريب أن هذه المراجعات تتم في الأجواء التي
يهيمن عليها فكر مدرسة أهل الحديث،
ولكن يبدو أن الإخفاقات المتتالية للقصور في أي
منهج مؤذن بضرورة مراجعته، وقد ذكرت
قبل عدة سنين في سلسلة عن المدرسة الإصلاحية أن سبب
العداء " لهذه المدرسة محاولتها
الجريئة لإعادة قراءة كثير من النصوص دون الوصاية
السلفية عليها، بعد أن أدرك رواد
المدرسة الإصلاحية أن واقع التخلف له جذور عميقة
ضاربة في القدم، تغلغلت في جسد
الأمة حتى أنهكتها فلم تستطع مجابهة الأفكار
الوافدة التي أخذت تعمل عملها في هذا
الجسم المنهك".
وقد نوقشت الكثير من نظريات الجرح والتعديل -التي
تشكل أحد
أعمدة النظرية الحديثية- في العقود الأخيرة من قبل
عدد من العلماء والباحثين
المتخصصين، وقد تعددت وتنوعت اطروحاتهم حول القضية،
لكنها بدايات نحو إعادة الصياغة
للكثير من المناهج السائدة، والمجال هنا لا يتسع
لتتبعها وذكرها جميعاً، لكن نقتصر
على أربعة أمثلة:
1.
الشيخ محمد الغزالي: مفكر صاحب قلم سيال وحس أدبي
راق
وعقل واع ذكي، عرف بجرأته في الجهر بما يحسبه
صواباً، ألف في عام 1989م كتاب (السنة
النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث) أثار ضجة عارمة
في حينها، وألفت كتب ورسائل
كثيرة في الرد عليه، وقد بين الغزالي سبب تأليف
للكتاب بقوله (وقد ضقت ذرعاً بأناس
قليلي الفقه في القرآن كثيري النظر في الأحاديث.
يصدرون الأحكام ويرسلون الفتاوى
فيزيدون الأمة بلبلة وحيرة، ولا زلت أحذر الأمة من
أقوام بصرهم بالقرآن كليل،
وحديثهم عن الإسلام جريء، واعتمادهم كله على مرويات
لا يعرفون مكانها من الكيان
الإسلامي المستوعب لشئون الحياة)، وأكد مراراً
وتكراراً في الكتاب (أنه ليس لروايات
الآحاد أن تشغب على المحفوظ من كتاب الله وسنة
رسوله، أو أن تعرض حقائق الدين للتهم
والريب)، وضرب عشرات الأمثلة على أن (تلاوة قليلة
للقرآن الكريم، وقراءة كثيرة
للأحاديث، لا تعطيان صورة دقيقة للإسلام بل يمكن
القول بأن ذلك يشبه سوء التغذية،
إذ لابد من توازن العناصر التي تكون الجسم والعقل
على سواء).
وعلى ضوء ذلك
ناقش قضايا كثيرة كفقه الدعوة والجهاد وموضوعات
الجبر والحرية الإنسانية وعلاقة
المرأة بالمسجد والنقاب وآداب الطعام وآداب المسكن
وبعض من أحاديث الفتن والملاحم
وغيرها من القضايا.
ولخص رسالة الكتاب بأن (كل ما نحرص نحن عليه شد
الانتباه الى ألفاظ القرآن ومعانيه، فجملة غفيرة من
أهل الحديث محجوبون عنها،
مستغرقون في شئون أخرى تعجزهم عن تشرب الوحي!!
والفقهاء المحققون إذا أرادوا بحث
قضية ما، جمعوا كل ما جاء في شأنها من الكتاب
والسنة، وحاكموا المظنون الى المقطوع،
وأحسنوا التنسيق بين شتى الأدلة...
أما اختطاف الحكم من حيث عابر، والإعراض
عما ورد في الموضوع من آثار أخرى فليس عمل
العلماء...وقد كان الفقهاء على امتداد
تاريخنا العلمي هم القادة الموثقون للأمة، الذين
أسلمت لهم زمامها عن رضى وطمأنينة،
وقنع أهل الحديث بتقديم ما يتناقلون من آثار كما
تقدم مواد البناء للمهندس الذي
يبني الدار، ويرفع الشرفات، والواقع أن كلا
الفريقين يحتاج الى الآخر، فلا فقه بلا
سنة ولا سنة بلا فقه، وعظمة الإسلام تتم بهذا
التعاون).
2.
عبدالجواد
ياسين: مستشار قضائي له عدة مؤلفات أهمها "السلطة
في الإسلام"، وهذا الكتاب من أهم
وأبرز الإصدارات التي خرجت في السنوات الأخيرة،
وطرح المؤلف في هذا الكتاب قد أذهل
الكثيرين لقوته وعمقه وقدرته الكبيرة على النقد
والتحليل، وإبراز نقاط القوة والضعف
في منظومة الفكر.
يقدم المؤلف طرحاً جديداً متكاملاً لجدليات النص
والتأريخ، وتأثير كل منهما على الآخر موضحاً أن
(أصول الخلل في تأريخ الأمة
الإسلامية ترجع إلى بدايات سابقة على الحقبة
الغربية بأمد غير قصير)
يدور
الكتاب في ثلاثة محاور وهي:
أ-إشكالية عملية التدوين للنص الحديثي وتداخلها
مع جدليات التاريخ مما أوجد ظاهرة
(التنصيص
السياسي).
ب-منهج التعامل مع
الرواية الحديثية عند المحدثين ماله وما عليه، وقد
انتقد بشدة من خلال عشرات
الأمثلة منهج المحدثين في التعامل مع الرواية
الحديثية قائلاً: (ونحن نعجب من هذا
الموقف الحنبلي المتعصب، ونرى فيه ضرباً من السذاجة
الفكرية وضيق الأفق، ونأسف شديد
الأسف لأن أصحابه بالذات ودون غيرهم هم الذين كتبوا
علم الحديث ودونوا السنة)، وأن
(المنهج
التقليدي لعلم الحديث بطابعه الكمي وأدواته الإسنادية، قد سمح
للكثير من
الأقاويل والأفعال التي لم تصدر يقيناً عن النبي
صلى الله عليه وسلم أن تدخل في
نطاق السنة، التي صارت مصطلحاً مرادفاً للأحاديث
المجموعة في الكتب).
ج-تأثير السلطة في بنية النص والعقل.
وقد لخص رسالة الكتاب عندما
قال: (ومن هنا فإن حديثنا عن عدم ضرورة أخبار
الآحاد لقيام الدين في حده الأدنى،
ينبغي أن يفهم في إطار التفرقة بين الضروري
والنافع، وليس في إطار التفرقة بين
المقبول كله والمردود كله، لأن من أخبار الآحاد ما
يمكن قبوله وفق الشرطين
التاليين:
أولا: ثبوت الخبر بمقاييس المنهج النقدي التاريخي
الشامل، الذي
يتجاوز كما أسلفنا منهج علم الحديث الكلاسيكي ذي
الطابع الإسنادي، إلى آفاق أوسع
تقوم على محاكمة الخبر من متنه إلى القرآن والتاريخ
والعقل الكلي.
ثانياً:
خضوع النص، بعد ثبوته وفق هذا المنهج، لهيمنة
الأحكام القرآنية، باعتبارها أصول
الدين الثابتة ثبوتاً قطعياً، ولذلك فإن الترجمة
النهائية لحديثنا هذا، ليست رداً
للسنة في جملتها، كما قد تفهم بعض العقول المتوجسة
الموسوسة، ولكنها في الحقيقة رد
عن السنة أن يدخل فيها ما ليس منها).
3.
لؤي صافي: أستاذ جامعي درس في
ماليزيا والولايات المتحدة، له عدة مؤلفات منها
"العقيدة والسياسة" و"إعمال العقل"،
وهذا الأخير خصص فيه المؤلف فصلاً للحديث عن
"الرؤية القرآنية والمنهجية النصوصية"
قرر فيه أن (الرؤية القرآنية تتحدد في القواعد
العامة والمقاصد الكلية المستمدة من
الكتاب، والمنتظمة وفق أنساق تحقق ترابطها ترابطها
الداخلي) ومن خلال قراءة في
التراث الفقهي للصحابة وجد أنهم (لم يقبلوا الحديث
المرفوع إلى رسول الله على
عواهنه؛ لأن صحابياً رواه، بل نظروا إلى الرواية من
خلال الرؤية القرآنية التي
اكتسبوها من استبطان معاني كتاب الله الكريم،
وعرضوها على نسق المبادئ والمقاصد
التي تشكل ثوابت هذه الرؤية، ولم يترددوا في رد
الحديث أو تأويله عند تعارضه مع
المبادئ القرآنية الثابتة) وخلص من ذلك إلى (ضرورة
ربط نصوص الحديث بأنساق القواعد
القرآنية الكلية والمبادئ القرآنية العامة، أي
فهمها وفقاً للرؤية القرآنية
المتحددة بناء على هذه القواعد، وتأويل الأحاديث
حال تضاربها مع الرؤية القرآنية).
4.
الشيخ أحمد بن حمد الخليلي: مفتي سلطنة عمان وفقيه
مدرك لحاجات زمنه
وعضو بارز في مجمع الفقه الإسلامي، بصماته واضحة
على الأجيال التي نشأت منذ
السبعينيات في عمان، له عدة مؤلفات منها "جواهر
التفسير" و"الحق الدامغ" و"زكاة
الأنعام" و"شرح غاية المراد" و"إعادة صياغة الأمة"،
وهذا الأخير عبارة عن عدة
محاضرات ألقاها الشيخ في عدة مناسبات تصب في هذا
المصب، فيها يقول الشيخ بوضوح بأنه
(إذا
جئنا إلى قضية التعديل والتجريح، نجد هذه القضية شيبت بالكثير،
فلربما كان
تجريح أحد من الرواة بسبب موقف سياسي ما كان يتفق
مع السياسة التي كانت متغلبة
ومتسلطة في ذلكم العصر، ولربما كان ذلك بسبب عدم
اتفاق في قضية من القضايا مع جمهور
المحدثين، بحيث كان لهذا الراوي موقف معين، وكانت
العصبية تدعو إلى أن يعتبر
مجروحاً ترفض روايته ولا تقبل، فإذن قضية التعديل
والتجريح يجب أن تكون مجردة من
العصبيات المذهبية والأهواء)، ورأى أنه (مما يؤسف
أن الكثير من المحدثين والنقاد
نظروا إلى جانب السند وتجاهلوا جانب المتن، مع أنه
لا بد من أن ينقد الحديث من جانب
المتن، وهذا الذي فعله الصحابة رضي الله تعالى
عنهم، فقد كانوا كثيراً ما ينقدون
الروايات حتى ولو جاءت عن الثقات من الصحابة).
5.
طه جابر العلواني:
أكاديمي عراقي معروف، يرأس الآن المعهد العالمي
للفكر الإسلامي في ولاية "فريجينيا"
الأمريكية، له العديد من المؤلفات، منها كتاب
"مقاصد الشريعة" و"إصلاح الفكر
الإسلامي" وتحقيق كتاب "المحصول في علم الأصول"
للفخر الرازي.
وفي كتاب
"مقاصد
الشريعة" يقدم مجموعة من المحددات المعرفية منها أن علاقة القرآن
بالسنة
تتحدد في أن (السنة والسيرة تبدوان تطبيقاً عملياً
للقرآن في مقاصده العليا
الحاكمة، تتكامل السنة معه في وحدة بنائية تقرأ
وتفهم في ضوئها آلاف الأحاديث
الصحيحة والأفعال والتصرفات النبوية الثابتة، التي
أدخلتها القراءات الجزئية
المعضاة ولا تزال في دوائر "مختلف الحديث" و"مشكل
الآثار" ونحو ذلك، ولم تستطع
قواعد الجرح والتعديل وموازين الأسانيد والمتون أن
توقف ذلك الجدل الذي دار).
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
صحيح مسلم ج1 ص 15.
[2]
المنهج المقترح في فهم المصطلح ص 35،
حاتم بن عارف العوني.
[3]
صحيح مسلم ج1 ص 13.
[4]
المرجع السابق ج1
ص 14.
[5]
تاريخ مدينة دمشق ج41 ص282 ، ابن عساكر.
[6]
راجع في ذلك
كتاب "رواية الحديث عند الإباضية"، صالح بن أحمد
البوسعيدي.
[7]
تهذيب
التهذيب ج4 ص340، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني.
[8]
الكامل في ضعفاء
الرجال ج4 ص71 ، عبدالله بن عدي.
[9]
تهذيب التهذيب ج11 ص130، أحمد بن علي
بن حجر العسقلاني.
[10]
المرجع السابق ج3 ص157.
[11]
انظر "السلطة
في الإسلام" عبدالجواد ياسين. و"إعمال العقل" لؤي
صافي، و" القواعد الأصولية
والفقهية وضوابطها" رضوان السيد.
[12]
الحيوان ج1 ص 166، الجاحظ.
[13]
سير أعلام النبلاء ج9 ص 188، الذهبي.
[14]
المدونة الصغرى ج1
ص 135- 136، بشر بن غانم الخراساني.
[15]
المدونة الصغرى ج1 ص 67.
[16]
كتاب الترتيب، مسند الربيع (125).
[17]
المدونة الصغرى ج1 ص
164،
بشر بن غانم الخراساني.
[18]
الديوان المعروض (كتاب الصيام ص 46).
[19]
المرجع السابق ص 47. السائل هو أبو غانم الخراساني كما يظهر،
والديوان
المعروض على علماء الإباضية (يظن أنه من تأليف أبي
غانم مؤلف المدونة، لأن الكثير
من الأعمال الواردة في هذه المخطوطة الكبيرة منقول
عن مصادر المدونة نفسها) انظر
دراسات في الإباضية ص 137 عمرو النامي، و(كتاب
الصيام يبدأ بروايات أبي المؤرج عن
شيخه أبي عبيدة على شكل أسئلة وأجوبة، وبعد العنوان
التالي "باب اختلاف العلماء في
الصيام" ترد آراء مختلف العلماء حول الموضوع، منوهة
بالآراء التي يعتمدها الأئمة
الإباضيون، لا سيما أبو عبيدة)، انظر دراسات في
الإباضية ص 138.
[20]
المرجع السابق ص 28.
[21]
المدونة الصغرى ج2 ص 182- 183، بشر بن غانم
الخراساني.
[22]
البخاري (2068)، مسلم (1584).
[23]
روى البخاري
(1955)
عن
أبي المنهال يقول: سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم عن الصرف
فقالا: كنا
تاجرين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن الصرف فقال: (إن كان يداً بيد فلا بأس، وإن كان
نساء فلا يصلح).