الفصل
الرابع من كتاب " دراسات إباضية"
د.
عمرو خليفة النامي
في العام 1903 كتب الأستاذ دنكان مكدونالد : (( إننا نعلم القليل
نسبيا عن الفقه الإباضي . فالدراسة الشاملة للفقه الإباضي ذات
أهمية قصوى ، لأنه يعود في تسلسل نشأته إلى ما قبل تشكيل أي من
المدارس الفقهية الأخرى )) ( 1 ) .
على أن الدراسة الشاملة للفقه الإباضي لم تجر منذ ذلك الوقت كما
كان هذا العالم البحاثة يأمل . وبدلا من ذلك فقد عومل الفقه
الإباضي من قبل الذين درسوا الفقه الإسلامي بالقليل من الاهتمام
وكان يشار إليه على الدوام بأقوال عامة قليلة القيمة .
ومع أن شاخت كان يعي حقيقة أن مذهب الفقه الإباضي ينسب إلى التابعي
جابر بن زيد ( 2 ) ، فإنه ختم ملاحظته بشأنه بالقول إن الإباضيين
استمدوا فقههم من المذاهب الإسلامية القائمة ( 3 ) .
وخلافا لما يعلنه فإن المذهب الإباضي أخذ منذ البداية خطا منفصلا .
لقد كانت له مرجعياته المستقلة الخاصة به ، ومجموعاته الحديثية ،
وأعمال فقهائه . ويبدو أن شاخت أنساق إلى هذه النظرة للأسباب
التالية : النقص في المعلومات بشأن المصادر الأساسية للفقه الإباضي
؛ والنظرة العامة القائلة بأن الإباضيين فئة من حركة الخوارج .
وبما أن الإباضيين ، كالسنة ن كانت لهم آراء مناقضة لآراء الخوارج
حول نقاط معينة ، فقد اعتقد أن الإباضيين استمدوا هذه الآراء من
المذاهب السنية . وهو أخيرا ، ينفي باتا حقيقة كون الخصائص
المشتركة بين المذاهب الفقهية الإسلامية المختلفة هي أقدم من قيام
هذه المذاهب ( 4 ) .
وفي هذا الفصل نأخذ على أنفسنا أن ندرس نشؤ مذهب الفقه الإباضي ،
وتأسيسه ، وتطوره ، ونقاط الاختلاف بين الإباضية والمذاهب
الإسلامية الرئيسة الأخرى .
يعد الفقه الإباضي أحد أقدم المذاهب الباقية بين مذاهب الفقه
الإسلامي ، إن لم نقل أقدمها . ويعود قيامه إلى التابعي جابر بن
زيد الأزدي وزميله المعاصر له ، وتلميذه ، أبي عبيدة مسلم بن أبي
كريمة . فقول مكدونالد (( بأن الفقه الإباضي لابد أنه جمع وصنف ،
إلى هذا الحد أو ذاك ، على يدي عبد الله بن إباض )) ( 5 ) غير صحيح
. فقد دل البحث الدقيق بأن عبد الله بن إباض لم يقدم أي إسهام
للفقه الإباضي ، وإن دوره الرئيس انحصر في الكلام وفي العقيدة
السياسية للإباضية .
والرجل الذي كان مسؤولا فعليا عن تأسيس مدرسة للفقه الإباضي هو
جابر بن زيد . وهو محدث ، وفقيه ؛ وبسبب معرفته الواسعة بالقرآن
وبأحاديث الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقد كان قادرا أن ينشيء
مذهبا مستقلا ، وأن يجذب إليه عددا من المتعلمين . وفي وقت لاحق
راح هؤلاء يطورون آراء وينشرونها .
واتخذ الفقه الإباضي شكله النهائي على يدي تلميذه أبي عبيدة مسلم
بن أبي كريمة في سنواته الأخيرة ، وعلى يدي الربيع بن حبيب ، تلميذ
جابر بن زيد وأبي عبيدة معا . غير أن جابر بن زيد يظل الشخصية ذات
الأهمية الكبرى في تأسيس هذا المذهب . وبالإضافة إلى مهارته مفتيا
صرف معظم حياته لإصدار الأحكام الشرعية وضبط آرائه باستشارة صحابة
الرسول الأحياء ، والتابعين البارزين ، وكان كذلك صلة الوصل
الأساسية يبن أتباع مذهبه وأولئك الصحابة الذين لعبوا الدور الرئيس
في صياغة الآراء حول الشؤون الدينية والشرعية ونشرها .
والدور الطليعي الذي لعبه جابر في تأسيس المذهب الإباضي معترف له
به بوضوح من قبل الإمام الثاني للإباضية ، أبي عبيدة مسلم بن أبي
كريمة . كل صاحب حديث ليس له إمام في الفقه فهو ضال . ولولا أن
الله من علينا بجابر بن زيد لضللنا ( 6 ) . وحقيقة كون جابر صاحب
مذهب فقهي مستقل أمر اعترفت له به المرجعيات السنية أيضا . يقول
أبو زكريا النووي ( ت 676 / 1277 ) في كتابه (( تهذيب الأسماء ))
بعد الحديث عن جابر بن زيد ، ومدرسيه ، وتلاميذه (( اتفقوا على
توثيقه وجلالته وهو معدود في أئمة التابعين وفقهائهم وله مذهب
يتفرد به )) ( 7 ) .
لقد سبق أن ذكرت قصة حياة جابر ونشاطاته مفتيا ( 8 ) . أما هنا
فإننا بالدرجة الأولى معنيون بإسهامه وبمقاربته فقهيا . وقد سجلت
فتاويه أو أحكامه الشرعية من قبل كلابه الإباضيين وهي تشكل جزءا
هاما من أساس المذهب الإباضي في الفقه .
وقد كانت مصادر الأحكام الشرعية المعروفة لدى جابر والتي استخدمها
هي القرآن والسنة ، وآراء الصحابة ( الآثار ) ، ثم رأيه الخاص .
بالنسبة للقرآن ، كان جابر يملك معرفة تامة بتفسيره من شيخه ابن
عباس الذي يعتبر خير مرجع في تفسير القرآن . والثقتان اللذان نقل
عنهما القسم الأكبر من المعلومات في التفسير ، أي مجاهد وقتادة ،
كانا على صلة وثيقة بجابر . والواقع أن قتادة كان أحد تلامذة جابر
( 9 ) .
ومن الطريف أن نؤكد هنا أنه لم توجد أية أعمال إباضية خاصة
بالتفسير خلال المائة والخمسين سنة الأولى من الهجرة . ولقد ذكرت
المصادر الإباضية تفسير عبد الرحمن بن رستم ( 10 ) أحد تلامذة أبي
عبيدة مسلم بن أبي كريمة ، وأول إمام في إمامة تاهرت الإباضية .
والتفسير الثاني الكامل هو لهود بن محكم الهواري الذي وضع خلال
القرن الثالث للهجرة ( 11 ) . وأهم وأكبر تفسير وضعه مؤلف إباضي هو
تفسير أبي يعقوب يوسف بن إبراهيم الوارجلاني ( ت . 570 / 1174 ) (
11 ) . على أن هذا العمل لا يزال مفقودا ؛ والعثور على هذا الكتاب
يشكل قيمة كبيرة للدراسات الإسلامية والإباضية .
وتفسير الآيات القرآنية التي تتناول القضايا الفقهية والدينية
موجود في تلك الأعمال التي تضم الفتاوى والروايات المنقولة عن جابر
وأبي عبيدة . أما الآيات التي تتناول المسائل الشعرية فمعالجة في
عمل خاص للشيخ أبي المؤثر الصلت بن خميس وهو أعمى . ( ت : 278 هـ )
. وعنوان مؤلفه (( تفسير آيات الأحكام )) أو (( تفسير الخمسمائة
آية )) ( 13 ) .
وأما بالنسبة لدراسات جابر بن زيد ، فقد اكتسب معرفته بالإسلام
ونظامه الديني والفقهي عبر عدد من الصحابة ، لا سيما ابن عباس ،
وابن عمرو ، وعبد الله بن مسعود ، وعائشة . ثم إن الإمام الإباضي
أبا عبيدة مسلم بن أبي كريمة يزعم أنه تتلمذ في المذهب الإباضي على
الصحابة عبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن سلام
ووصفهم بأنهم (( راسخون في العلم )) . ثم أضاف قائلا : (( لقد
اقتفينا خطاهم ، وتبعنا أقوالهم ، واعتمدنا على تصرفهم وقلدنا
أساليبهم )) ( 14 ) .
وقد سبق أن ذكرنا أن المصادر الأساسية التي استخدمها جابر بن زيد
لتكوين الأحكام الشرعية هي القرآن ، والسنة ، والآثار ، والرأي .
والسنة ، وهي أقوال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأعماله ،
وموافقته على أعمال وأقوال معينة من قبل صحابته ، ومعروفة لدى
الثقات الإباضية الأولين بأوسع معانيها . وفي ذلك قال شاخت : ((
أول دليل موثوق بالطبع ، على استعمال عبارة (( سنة الرسول ))
بالإشارة إلى استعمالها السياسي الأصلي الذي مثل رابطة عقائدية بين
(( سنة الرسول )) وسنة أبي بكر ، وعمر ، والقرآن ، وردت في رسالة
وجهها عبد الله بن إباض إلى عبد الملك بن مروان نحو 76 / 695 ( 15
) . على أن المراجع الإباضية استعملت هذه العبارة بمعناها التقني
منذ الفترة الباكرة لتأسيس مذهبهم . وقد استعمل جابر بن زيد هذه
العبارة في رسالتين من رسائله . وفي رسالة إلى عثمان بن ياسر ، كتب
جابر : ( فأما الذي كتبت تسألني عنه من المملوك هل يصلي ولم يختتن
، فإن الختان من المسلمين سنة واجبة لا ينبغي تركها ، ويكره أن
تتركوا لكم مملوكا غير مختون ، ولا يصلي حتى يختتن )) ( 16 ) . وفي
رسالة أخرى للحارث بن عمرو ، كتب جابر مرة أخرى : (( وأما ما ذكرت
من رجل يصلي المغرب والعشاء والصبح لم يقرأ فيهن بشيء من القرآن ،
فإنه أحب إلي أن يعيد صلاته فيقرأ منها ، فإنه قد ترك سنة فيها ،
إلا أن يكون رجلا أميا لا يقرآ واغتم ، فإن الله لا يكلف نفسا إلا
وسعها )) ( 17 ) .
كذلك ذكر جابر كلمة (( السنة )) في رسالته إلى طريف بن خليد بالقول
التالي : (( وأما الذي ذكرت من أن إماما يؤم الناس في الصلاة
الواجبة ، ولكنه ترك فيها الركوع وتبعه في ذلك المأمومون ، فالأفضل
لهم إعادة صلاتهم تلك لأنهم بذلك قد خالفوا السنة )) ( 18 ) . ثم
إن هذين الخبرين الأخيرين مذكوران في كتاب جابر بن زيد كما رواه
حبيب بن أبي حبيب عن عمرو بن هرم عن جابر بن زيد ( 19 ) .
وعند مناقشة الخوارج المتطرفين ، قال سالم بن ذكوان ، وهو معاصر
لجابر بن زيد : (( لسنا ممن يزعم أنه أفاد اليوم علما في القرآن
والسنة حتى غلبهم )) ( 20 ) . إن دور السنة كمصدر ثان للفقه
الإباضي ذكره بصراحة أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة ، خليفة جابر بن
زيد ، في عدد من الأقوال
:
( 1 ) إن إمام المسلم هو القرآن ، ودليله هو سنة رسول الله ، يحب
فقط ما يحبه الله ورسوله .
( 2 ) بالنسبة لحكم الإمام : هل يمكن لعلماء الأمة أن يغيروه أم لا
، قال أبو عبيدة مسلم : إذا كان حكمه معارضا لما في الكتاب والسنة
، وكان الحكم على هذه القضية معروفا في القرآن وفي السنة ، فإن
عليهم أن يغروا ما هو مناقض للكتاب وللسنة ( 21 ) .
( 3 ) الخير فيما اختار الله ورسوله ، والضرر في معارضتهما ؛ لا
يمكن لأحد أن يكون مصيبا إلا إذا كان موافقا لهما ( 22 ) .
وتمسك تلامذة أبي عبيدة بهذا النهج نفسه ، وقد ذهب بعضهم إلى حد
رفض أحكام المراجع الإباضية الأولى كجابر بن زيد ، وأبي عبيدة ،
حين نقلت أحاديث موثوقة بالنسبة لقضية معينة ، حتى من قبل مراجع
غير إباضية ( 23 ) . وبالنسبة لمسألة (( الحيازة )) قيل إن جابر بن
زيد ، أضاف ، على سبيل الاحتياط ، عشر سنوات أخرى على السنوات
العشر التي حددها الرسول كمدة قصوى للاستيلاء على حق حيازة الأرض
أو الممتلكات ، إذا لم يتقدم المالك الأصلي بدعاء ملكيته خلال تلك
السنوات العشرين . غير أن عبد الله بن عبد العزيز ، تلميذ أبي
عبيدة ، رفض رأي جابر على أساس حديث الرسول كما روته المراجع
المدنية والكوفية معا وهو أنه حدد مدة الحيازة بعشر سنوات فقط ( 24
) . وختم قوله بما يلي : (( إن ما قاله الرسول هو وحده الحقيقة .
والسنة أولا ، شرط أن تكون سنة موثوقة عن الرسول . أما القياس ،
ولو كان قديما ، فلا يمكن له أن يحل محل السنة )) ( 25 ) .
يـتـبـع
يمكن تحميل بقية فصول الكتاب من
قائمة الكتب
============================
( 1 ) عن إباضية جربة انظر علي معمر (( الإباضية في تونس )) ،
بيروت ، 1966 .
( 2 ) مكدونالد : (( تطور الفقه ، والشرع والنظرية الدستورية في
الإسلام )) ، بيروت ، 1965 ، 116 .
( 3 ) شاخت ، ج . نشأة الفقه الإسلامي ، 261 .
( 4 ) المصدر نفسه .
( 5 ) المصدر السابق ، 260 .
( 6 ) مكدونالد ، مصدر مذكور سابقا ، 116 .
( 7 ) أبو عبيدة مسلم ، مسائل ، 37 ؛ الجيطالي ، شرح النونية 1 /
47 .
( 8 ) النووي ، تهذيب الأسماء ؛ تحقيق ر . دوزي ، القاهرة ، لات )
، 140 .
( 9 ) أنظر ما تقدم .
( 10 ) أبو نعيم ، حلية ، 3 / 90 .
( 11 ) الوسياني ، سير ، مخطوطة 44 ؛ الشماخي ، سير ، 139 ؛ انظر
ابن الصغير ، 17 [ ط دار الغرب الإسلامي ، 45 ] ، حيث ينفي أن يكون
عبد الرحمن قد كتب أي كتب . انظر كذلك : موتيلنسكي ، “Bibliographie
du Mzab” Bulletin de Corresp
Afric”
،
1885
،
23 – 24
.
( 12 ) يعد شريفي بالحاج من القرارة مزاب ، نسخة علمية محققة
للتفسير . انظر الذهبي ، محمد حسين ، التفسير والمفسرون ، القاهرة
، 1961 ، 11 ، [ وقد صدر عن دار الغرب الإسلامي سنة 1995 ] .
( 13 ) البرادي ، الجواهر ، 220 – 221 ، نسب إيلي أديب سالم في
كتابه (( النظرية والمؤسسة السياسية لدى الخوارج )) ، 68 ، هذا
التفسير للربيع بن حبيب ، لكن ذلك خطأ .
( 14 ) البرادي ، الجواهر ، 219 ؛ أخبرني الشيخ بيوض إبراهيم بن
عمر من القرارة مزاب ، أن مخطوطات هذا التفسير للصلت بن خميس
موجودة في مزاب .
( 15 ) أبو عبيدة ، مسائل ، 37 ؛ الجيطالي ، شرح النونية ، 1 / 47
.
( 16 ) شاخت (( مدخل إلى الشرع الإسلامي )) ( أوكسفورد ، 1964 ) ،
18 .
( 17 ) جابر بن زيد ، جوابات جابر ، تحقيق المؤلف مخطوطة ، رقم 2 ،
4 .
( 18 ) المصدر السابق ، رقم 5 ، 14 .
( 19 ) المصدر نفسه .
( 20 ) جابر بن زيد ، كتاب الصلاة ، 5 ، انظر البخاري ، تاريخ 2 /
1 / 204 .
( 21 ) سالم بن ذكوان ، سيرة ، 221 .
( 22 ) أبو عبيدة مسلم ، مسائل ، 15 .
( 23 ) الديوان المعروض ، كتاب الممتنعين من الحدود ، مخطوطة 4 .
( 24 ) أبو عبيدة ، مصدر مذكور سابقا ، 10 ، انظر أيضا رسالة في
الزكاة ، مخطوطة 11 .
( 25 ) أبو غانم ، المدونة ، مخطوطة 400