____________________________
2- كتب هذا الفصل قبل أن
تتحرر الجزائر ، لكن طبع الكتاب تأخر لأسباب خارجة عن إرادة المؤلف .
إِنَّ هَذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً
وَاحِدَةً [
.
أما قوله تعالى : ]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ
[ فالمراد به _ والله أعلم – أن الأخوة هي العلاقة التي تربط بين أولئك الذين
أتصفو بالإيمان في جميع مراحل التاريخ ، إن المؤمنين في هذا العصر إخوان للمؤمنين
الذين سبق بهم الزمن والذين سيأتون مع الزمن المقبل ]
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ
سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ
آمَنُوا [
.
ولعل حديث رسول
الله r يوضح هذا المعنى أتم توضيح ، قال رسول الله r : ( وددت أنني أرى إخواني
. فقال بعض أصحابه رضي الله عنهم : أو لسنا بإخوانك يا رسول الله ؟ فقال علية
السلام ؟ أنتم أصحابي ، وإنما إخواني قوم يأتون من بعدى ، يؤمنون بي ولم يروني )
أما قوله r : ( ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى
منه عضو تداعى سائر الجسد بالسهر والحمى) فهو نص في هذا المعنى ، ولا يوجد أي
دليل على قصر معناه على الأفراد دون الدول .
إن المؤمنين الموجودين في
عصر من العصور قوة مندفعة لأداء الرسالة التي أناطها الله بهم ، وليست العلاقة
بينهم علاقة الأخ بأخيه يحسن إليه ويهاديه وكل منهم مقيم في منزله ، ولكن العلاقة
بينهم هي العلاقة التي تربط جماعة تشترك في القيام بواجب ، يسأل عنه كل فرد منهم
، ولذلك فليس من الحق أن تعتبر قضية الجزائر للجزائر ، وقضية فلسطين لفلسطين ،
وقضية إندونيسيا لإندونيسيا ، وقضية ليبيا لليبيا مثلا ، إن هذه القضايا وغيرها
من القضايا ، هي قضية الأمة المسلمة ، الأمة الواحدة ، التي تمتد من الشرق الأقصى
إلى المغرب الأقصى .
وهذه الجهود الضعيفة التي
تقوم بها هذه الدول لتساعد إحدى قضايا الأمة في جانب آخر ، أو دولة أخرى ، في
صورة مبالغ من المال تجمع من تبرعات الأفراد ، أو في خطب رنانة تلقى في مجتمعات
حافلة ، أو كلمة حماسية على منبر هيئة الأمم ، إن هذه الجهود الضعيفة ليست هي ما
يطلب من هذه الدولة ، أو من هذا القسم من أقسام الأمة .
إن هذا التصرف يدل على أن
هذه الدولة التي تقدم مساعداتها على هذا النحو مقتنعة بأن الجزائر ، أو فلسطين أو
غيرها ، حقا شقيقة ، لها من الحقوق ما للأشقاء ، مواساة في المصيبة ، ومشاركة في
الفرح ، وصدقة عند الحاجة وما أشبه ذلك ، ويظهر أن الناس مقتنعون بأن هناك فرقا
بين الواجب على أبناء فلسطين في مدافعة إسرائيل ، وبين غيرهم ، وهذا الاقتناع خطأ
كبير في حقيقة الأمة المسلمة ، إن ما كان يجب على سكان الجزائر في محاربة فرنسا
هو الواجب على بقية البلاد الإسلامية والدول الإسلامية ، لو أنها آمنت برسالة
الله
وعملت بها ، وما يجب اليوم على الفلسطيني في مدافعة إسرائيل ، واستخلاص الحقوق
منها ، هو ما يجب على كل مسلم في كل قطر من أقطار الإسلام . وإنه لحق على الدول
المسلمة أن تعرف هذا الواجب ، وأن تعمل له ، وأن تنظم سير الأمة لتحقيقه . ورسول
الله r حين ضرب مثلا للمؤمنين بالجسد الواحد لم يقل ذلك عبثا ، وإنما أراد أن يقرر
أن المؤمنين في كل عصر من العصور حقيقة واحدة ، في آمالهم وآلامهم وأعمالهم ،
وأنه لا يحق لأي واحد منهم أن يعتبر نفسه منفصلا عن الباقي وأنه يقدم له مساعدات
.
إن ما قدمته الدول العربية
والإسلامية للجزائر وفلسطين وهي تحسب أنها تقدم إليها مساعدات إنما كانت تقوم
بواجبها ولكنه قيام هزيل لم تبرهن فيه أية دولة من هذه الدول أو قسم من أقسام
الأمة أنها فهمت حقيقة واجبها وأدركت أنها تتساوى في هذا الواجب مع من تساعده
وتقدم إليه الإعانة . وما أسخف الإعانة حين تكون عبارة عن كلمة ينثرها لسان ، أو
مال تجمعه يدان من عواطف الناس .
يظهر أنى أطلت في هذا
الفصل وساقني الحديث إلى جوانب لم أكن قدرتها في نفسي ، ولذلك فها أنا أعود إلى
تقديم هذه العصور من تاريخ الأمة في جزء من الوطن الإسلامي .
هذه الصور التي أعرضها
عليك في هذا الكتاب الصغير ، هي بعض الجوانب من تاريخ الأمة ، وهي صور من تاريخ
الأمة الحقيقي ، لأنها أعمال لأفراد من الأمة ، لم ينحرفوا عن سبيل الله إلى سبيل
الشيطان ، ولم تسقهم شهوة عارمة ، أو تغرهم ثروة غالية . ومن هذه الصور وأشباهها
يتكون التاريخ الحقيقي للأمة المسلمة .
إن تاريخ الأمة الإسلامية
يتضح :
في هذه القوى المسخرة لنشر
العلم ، وإصلاح المجتمع ، وإنارة الطريق أمام السالكين بوحي العقيدة والضمير …
في هذه الجهود المبذولة
لبناء مجتمع مسلم ، على أسس سليمة ، وضعها الدين الحنيف لإسعاد البشرية …
في هذه الأعمال المتواضعة
للحياة الحرة الكريمة ، البعيدة عن الارتزاق ، والمتاجرة بمصالح الناس …
في هذه الثورات المتتابعة
على الظلم والطغيان في مختلف صوره وأشكاله .
في هذا الرباط المتين الذي
يربط جميع المؤمنين بالحب ، ويقودهم بالإيمان الخالص إلى العبودية لله وحده ،
وإقامة الحرية والعدل والمساواة على النظام الذي أقامته الشريعة السماوية للإنسان
…
في هذا الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ، الذي يقوم به المؤمنون الأمناء لنشر الفضيلة والقضاء على
الرذيلة في مجتمع نظيف …
في هذه الدعوة الحارة إلى
الإيمان بالله ، التي يراها المؤمنون أوجب واجب عليهم ، فلا ينفكون عنها أينما
كانوا …
في هذا الانبعاث الفردي
الذي يرمى إلى أداء الرسالة ، هذه الرسالة التي يحس كل مؤمن صادق الإيمان أنه
مسؤول بين يدي الله عن أدائها …
في هذا الكفاح المتواصل
إلى الارتفاع بالبشرية عن الأوضار والدنس والمادية الجافة …
هذه الصور وأشباهها ، مما
يقوم به الأفراد أو الجماعات أو الطوائف ، هي حقيقة التاريخ الإسلامي .
أما تلك المواكب الفخمة ،
وتلك القصور الشاهقة ، وتلك الجواري الحسان، وتلك الأموال المكدسة ، وأولئك
الجنود المتهيئون للقتل والتخريب في أية لحظة ، هذه الصور وأشباهها ، وهذه الدماء
المسفوكة ، والحرم المنهوكة ، والرؤوس المقطوعة ، والأموال المنهوبة ، والمتع
المتاحة لأفراد معينين ، هذه الصور وأشباهها ليست من تاريخ الأمة . إنها صور من
تاريخ فرد ، أو أفراد ،يشتركون مع ذلك الفرد فيها ، إما لأنهم وسيلة الوصول ، أو
لأنهم آلة الوصول ، وسواء كانوا وسيلة أو آلة فهم لا يكونون جانبا من الأمة .
وإن أملنا في الله قوي أن
يفتح باب الهداية لأمة محمد فيعتبرون بماضيهم وحاضرهم ، فيوحدون صفهم ، ويجمعون
كلمتهم ، وينظفون قلوبهم من غير ، ويطهرون عقائدهم من آثار الفلسفة البشرية ،
ويصرفون عن أفكارهم مجاراة أعداء الله في الفسوق عن أمر الله ….
كان أبو مسور يَصْليتَنْ
النفوسّي يتحدث مع بنته الطالبة الذكية ، بعد أن غسلت له ثيابه ونشرتها في
الشمس لتجف ، قال أبو مسور : أتمنى أن ينقي الله قلبي مثل هذه الثياب . فقالت
البنت الذكية المتعلمة المؤمنة ؛ وددت أن الله جعل تطهير قلبي بيدي حتى أنقيه وأرسله
إليه . فقال الشيخ : إنك أبلغ مني حتى في الأمان.
والمسلمون ما لم يطهروا قلوبهم من غير
الله ، وما لم يبنوا أعمالهم على الأسس
السليمة التي أوضحها دين الله ، فإن سيرهم سيبقى متعرجا ، وأمامهم بعيداً ،
واتجاهاتهم متفرقة متباينة …