للدكتور
عمرو خليفة النامي
عرف الفكر الإباضي بأئمته وعلمائه الذين حاولوا أن يبنوا قواعد دولته ،
وجاهدوا في إرساء أصوله الفكرية ، فألفوا في مسائلة الفقهية والكلامية
، وكتبوا في مسيرته الحضارية والتاريخية ، ولكنهم كشأن أي حركة دينية
ذات طابع سياسي واجهوا المطاردة والملاحقة من خصومهم منذ ظهور هذا
الفكر على الساحة السياسية .
وكان هذا الواقع المؤسف من أقوى الأسباب التي جعلت أصحاب هذا الفكر
مضطرين إلى إخفاء مؤلفاتهم خشية أن يطلع عليها خصومهم فيصادروها ، بل
فعلوا ذلك في بعض المراحل من تاريخهم مخافة أن يتعرضوا هم أنفسهم
للتعذيب والاضطهاد . وبسبب هذا الموقف المتعسف وبسبب الخوف على تلك
المعارف أن تضيع ، لجأ العلماء الأوائل إلى إيصال معارفهم تلك ، عن
طريق المشافهة والتلقين بعيدا عن أعين الناس، كما فعل أحد رواد هذا
الفكر وهو أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة .
وكان هذا الواقع المؤلم مصاحبا للمذهب ، وتراثه في المشرق والمغرب ،
منذ نشأته في منتصف القرن الثاني الهجري إلى حين قيام أول دولة قوية
للإباضية وهي الدولة الرستمية ، أو بعبارة أدق نستخدم فيها مصطلحا
طالما استخدمة أصحاب هذا الفكر ، من مرحلة الكتمان إلى مرحلة الظهور .
ففي ظل الدولة الرستمية التي وفرت الحماية لحرية الفكر والتعبير
لمذهبها الذي اعتنقته ولغيرها من المذاهب والطوائف الأخرى ، وبفضل
العدالة الإسلامية التي انتهجتها الدولة الرستمية كطريقة حكم، ازدهر
التأليف ، وكثرت حلق المذاكرة ، وشاعت أسواق الجدال والمناظرة ، وأنتجت
هذه السياسة الرشيدة مكتبة المعصومة التي أشاد بتراثها المؤرخون ،
ولكنها والأسف ملء الجوانح ، احترقت أثناء هجوم عبيد الله الشيعي على
تاهرت ، وكانت شاهدة لأئمة الدولة الرستمية بالنزاهة والعدل ، بقدر ما
ستبقى شاهدة على أعدائهم الفاطميين على التعصب المقيت ، ومعاداة أنوار
العلم والمعرفة .
وشهد الفكر الإباضي مرحلة أخرى من الاضطهاد والظلم ، وعاد أصحابه مرة
أخرى إلى مرحلة الكتمان ، متسترين بالشعاب والمسالك الصحراوية ، لائذين
بعقيدتهم إلى واد غير ذي زرع ، وكان ذلك حالهم إلى حين استقرارهم بوادي
ميزاب في بداية القرن الخامس الهجري .
وأحب أن أوكد على أن هذه المرحلة رغم قساوتها السياسية ، فإنها لم تعرف
نضوبا فكريا ، إذ أن المصادر الخاصة بدراسة سير العلماء والمشايخ
والأئمة تدل على أن الإباضية كانوا مثل غيرهم من المذاهب الأخرى أصحاب
عناية بالتأليف ، والتحقيق والتدوين ، ولا سيما في الشريعة والتاريخ .
فالذي يرجع إلى سير الشماخي ، أو جواهر البرادي ، أو ملحق السير لأبي
اليقظان يتأكد من هذا التراث المعرفي الواسع ، فمن خلال عناوين هذه
المؤلفات يدرك أن الإباضية ألفوا في مختلف العلوم الإنسانية ، وأنهم
كتبوا في شتى ضروب المعرفة ، ولعل بعض البيبلوغرافيات الحديثة مثل تلك
التي قام بإعدادهما لفتسكي ، أو شاخت أو غيرهما من الأوروبيين تساعد
على تصور نصيب الإباضية ومكانتهم في هذا المجال . على أنه لو قام احد
بإحصاء جميع الكتب التي ألفها أصحاب هذا الفكر ونسبتها المئوية إلى
عددهم ، ثم فعل مثل ذلك في بقية المذاهب ، ثم قارن بين نسب الجميع ،
لوجد نسبتهم من أعلى النسب إن لم تكن أعلاها ، على أن الكثير منها ضاع
للملاحقة السياسية التي لم تتوقف في أي زمان عن مطاردتهم ومضايقتهم
بشتى الأساليب والصور ، حتى بلغت في مداها أحيانا حرق الكتب والمكتبات
، وفي أحيان كثيرة تكون أصابع الفقهاء المتعصبين وراء أجهزة السلطة
....وإلى الآن لا تزال أكثر كتب هذا الفكر وأهمها مجهولة حتى عند
أصحابها أنفسهم .
ولكن الذي يؤسف له حقا هو أن هذا التراث ضاع أكثره إذ جنت عليه الظروف
الخارجية ، من حروب وملاحقات ، وأودى ببعضه الآخر الظروف الاجتماعية
والاقتصادية الصعبة التي لم تساعد أهل العلم على الاستقرار النفسي
لمتابعة المسيرة ، بل إنهم زهدوا في نشر هذا التراث وطبعه .
أحسب أنه من أسبق علماء الإباضية في العصر الحديث بنشر هذا التراث
وإخراجه للناس ، ما قام به الشيخ سليمان الباروني والمطبعة البارونية
بمصر ، وما طبعه الشيخ أطفيش من نفائس وذخائر . هذه المجهودات أخرجت من
حيز النسيان تراثا قيما ما زال بعضه إلى يومنا هذا في طبعه الحجرية مثل
: قناطر الخيرات ، والنيل وشفاء العليل ، وفاء الضمانة ، والدليل لأهل
العقول ، والأزهار الرياضية ، وغيرها . كان ذلك قبل الحرب العالمية
الأولى .
وجاء بعد المطبعة البارونية المرحلة القيمة التي قطعها الشيخ أبو إسحق
أطفيش ، الذي كان نفيه من قبل الاستعمار الفرنسي إلى القاهرة خيرا
وبركة ، حيث أخرج هو الآخر ذخائر نفيسة من مؤلفات قطب الأئمة ، بطبعه
أحسن وإخراج أجود ، وإليه يعود الفضل في إخراج الأجزاء الأخيرة من شرح
النيل ، والذهب الخالص ، وشامل الأصل والفرع ، والوضع وغيرهما من
المصادر والمراجع الهامة في الفقه والتاريخ . وما نزال حتى اليوم
نتدارس بعض هذه الطبعات التي تعود إلى الثلاثينيات والأربعينيات .
وما من شك في أن التعاون الإسلامي بين أبي إسحق إبراهيم أطفيش وبين
صديقه الداعية الكبير محب الدين الخطيب ، صاحب المطبعة السلفية ، قد
ساعد على إخراج الكثير من هذه الكنوز إخراجا جيدا ، وكان لمجلة المنهاج
التي كانت تطبع بهذه المطبعة دور الداعية الذي كان همه الأول وهاجسه
الوحيد إيقاظ المسلمين إلى واقعهم المرير تحت وطأة الاحتلال الغربي ،
وما يتهددهم من غزو فكري ، وما يستخدم من وسائل إعلامية حاقدة على
رأسها الإرساليات التنصيرية هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإنها كانت – أي
المنهاج – تعرف بالفكر الإسلامي وتراثه وحضارته وتصحح المفاهيم التي
علقت بأذهان المسلمين من رواسب عصور التخلف والانحطاط . وبما أن أبا
إسحق إباضي فإنه لم يأل جهدا في التعريف بهذا المذهب وتراثه الحضاري .
وفي أوائل الستينيات برز إلى عالم الفكر الإسلامي كاتبان إباضيان ،
أحدهما هو الشيخ علي بن يحيى معمر الليبي النفوسي ، وثانيهما هو الشيخ
محمد علي دبوز الجزائري الميزابي . وإذا اتجه محمد علي دبوز إلى تاريخ
المغرب الإسلامي ، ثم إلى الحركة الإصلاحية يصحح ما فيها من مواقف
ومعلومات خاطئة ، في وقفات طويلة ، فإن الشيخ علي يحيى معمر اتجه إلى
تاريخ الإباضية قديما وحديثا ، فأصدر سلسلته الرائعة القيمة الإباضية
في موكب التاريخ ، وهي تشتمل على حلقات ، كانت الحلقة الأولى عن النشأة
التاريخية للإباضية ، فالحلقة الثانية والثالثة عن الإباضية في ليبيا ،
فالرابعة عن الإباضية في تونس ، ثم الخامسة عن الإباضية في الجزائر .
ولقد كشف بمنهجه الدعوي ، وذكائه الوقاد ، وورعه الشديد ، وحبه العارم
لأمته الإسلامية عن كنوز عرفت القارئ المسلم بشخصيات وزعماء وعلماء لم
يكن يعرف عنهم شيء من قبل .
ولكن الكتاب الذي يصب في قناة التوحيد بين المسلمين ، وجمع كلمتهم هو
كتبه الرائد في منهجه وفحواه الإباضية بين الفرق الإسلامية ، وقد هداه
فكره النير ، وذهنه الإسلامي الثاقب إلى وضع نظرية يعلي عليها المسلمون
المعاصرون بناء وحدتهم ، وعبد طريقا يسلكونه إلى جمع كلمتهم ولم شملهم
، وقد لخص هذه النظرية في المبادئ الثلاثة : المعرفة ، التعارف ،
الاعتراف .
والشيخ علي يحيى معمر بمؤلفاته القيمة تلك يعد من أهم الدعاة
الإسلاميين الداعين إلى وحدة المسلمين في هذه العقود الأخيرة .
وأحسب أن أغلب الكتابات التي أخذت تنتشر هنا وهناك عربية أو أجنبية في
محاولة منها لإنصاف الإباضية تتخذ كتب الشيخ علي يحيى معمر من مصادرها
الأساسية .
أما في المشرق فقد برز الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام لسلطنة
عمان ، فتحمل مسؤولية الدعوة إلى التقارب ونبذ الخلاف ، وقد وهبه الله
صفات أهلته لذلك عن جدارة واستحقاق ، فهو علام راسخ القدم في الشريعة
الإسلامية ، حباه الله ذاكرة فياضة ، تسعفه بالأدلة من القرآن والسنة ،
إلى تواضع جم يحببه من النفوس ، ويقربه منها ، وهو في سبيل هذه الرسالة
ما فتئ مشاركا في المؤتمرات الإسلامية يدعو إلى الله على المنابر ،
وإذا سمع أو رأى باطلا أو تهجما إنبرى إلى الرد غير هياب ولا وجل ..
يجادل بالتي هي أحسن ، ويحاور بالعقل والمنطق والأدلة العقلية والنقلية
. وعسى أن يجتهد الناشرون في نشر كتاباته القيمة ، ومؤلفاته الهامة
فإنها من أهم وسائل التقريب بين المذاهب الإسلامية ، وقد وضحت آثار
جهوده تلك في منطقة الخليج والمشرق العربي بما سيدخره الله له في صالح
الأعمال إن شاء الله