يسبق إلى أذهان الناس الثقة بمذاهب معينة فيتم فيها
الرضا على جميع من ينتمي إلى تلك المذاهب دون نظر إلى
مقاله أو سلوكه ، ويسبق إلى أذهانهم السخط على مذاهب
أخرى ، فسيخطون على كل من فيه دون نظر إلى مقاله أو
سلوكه ، وهو مفهوم خاطئ ، فإنما يجب أن ينظر إلى كل
المذاهب بالثقة ، أما الأفراد فينظر إليهم بحكم
أعمالهم وأقوالهم ، وعليها وحدها تنبني الأحكام ، وقد
جئت بمثالين لرجلين مختلفين في المذهب ، متفقين في
العقلية ، أحدها يتمتع بسخط الناس جميعا ، والآخر
يتمتع بمحبتهم واحترامهم مع أن مبدأهما واحد .
وإن شئت
مزيدا من التفصيل فاقرأ الفصل الآتي :
مقارنة
يسخط أكثر كتاب المقالات
ومن ورائهم جمهور المسلمين على الخوارج ، لأن الخوارج
يكفرون مخالفيهم ويستحلون دماءهم وأموالهم ، ويرى أكثر
كتاب المقالات أن مخالفيهم هم أهل السنة ، وأهل السنة
في نظر الجماهير هم الفرقة المعتدلة المتسامحة فما هو
حكم أهل السنة على مخالفيهم ؟
لكي
نحدد هذا الموقف لابد أن نستعين بأحد كتاب المقالات
وقد رأينا أن نستعين بكتاب الفرق بين الفرق لمؤلفه
عبدالقادر بن طاهر البغدادي ، وفي إمكاننا أن نلخص منه
ما نريده فيما يلي :
يقول
البغدادي إن أهل السنة ثمانية أصناف
:
الصنف الأول منهم أحاطوا علما بأبواب التوحيد
والنبوة ، والصنف الثاني أئمة الفقه من فريقي الرأي
والحديث، وادخل في هذه الدائرة أصحاب مالك والشافعي
والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة وابن أبي ليلى وأصحاب
أبي ثور وأصحاب أحمد بن حنبل وأهل الظاهر، والصنف
الثالث هم الذين أحاطوا علما بطرق الأخبار والسنن ،
والصنف الرابع منهم أحاطوا علما بأكثر أبواب الأدب
والنحو والتصريف ، والصنف الخامس هم الذين أحاطوا علما
بوجوه قراءات القرآن ووجوه التفسير ، والصنف السادس
منهم الزهاد الصوفية الذين أبصروا فأقصروا ، والصنف
السابع منهم قوم مرابطون في ثغور المسلمين في وجوه
الكفرة ، والصنف الثامن منهم عامة البلدان التي غلب
فيها شعار أهل السنة دون عامة البقاع التي ظهر فيها
شعار أهل الأهواء الضالة .
فهؤلاء أصناف أهل السنة والجماعة ومجموعهم أصحاب الدين
القويم والصراط المستقيم .
أما
مخالفو أهل السنة من أهل القبلة في نظر البغدادي فهم
قسمان : قسم حكم عليهم بأنهم مرتدون وأجرى عليهم جميع
أحكام أهل الردة ، وقد ذكر أصحاب هذه الفرق فرقة فرقة
، أما القسم الثاني من مخالفي أهل السنة السابقين من
أهل القبلة فهم الذين يذكرهم تحت عنوان أهل الأهواء
والبدع وقد عدد فرقهم أيضا فرقة فرقة وذكر طائفة من
أحكام السـنة عليهم فقال في كتاب الفرق بين الفرق ص357
ما يلي :
"
وأما أهل الأهواء من الجارودية والهشامية والنجارية
والجهمية والإمامية الذين كفروا خيار الصحابة ،
والمعتزلة عن الحق والبكرية المنسوبة إلى بكر بن أخت
عبدالواحد ، والضرارية ، والمشبهة كلها ، والخوارج
فإننا نكفرهم كما يكفرون أهل السنة ولا تجوز الصلاة
عليهم عندنا ولا الصلاة خلفهم ، واختلف في التوارث قال
بعضهم نرثهم ولا يرثوننا والصحيح أن أموالهم فيء ، ولا
توارث بينهم وبين السني ، واستشهد على هذه الأحكام
بأقوال نسبها إلى بعض الأئمة فقال : إن الحارث
المحاسبي لم يأخذ من ميراثه في أبيه شيئا لأن أباه كان
قدريا . وذكر أن الشافعي أشار إلى بطلان صلاة من صلى
وراء من يقول بخلق القرآن ونفي الرؤية ، وروى عن محمد
بن الحسن أنه قال فيمن صلى خلف من يقول بخلق القرآن
أنه يعيد الصلاة ، وذكر أن أبا يوسف سئل عن المعتزلة
فقال هم الزنادقة ، وذكر أن الشافعي أشار في كتاب
القياس إلى عدم قبول شهادة المعتزلة وسائر أهل الأهواء
. وذكر عن مالك أنه قال في المعتزلة زنادقة لا
يستتابون بل يقتلون .
بعد
هذه الاستشهادات قال : " أما المعاملة معهم بالبيع
والشراء فحكم ذلك عند أهل السنة كحكم عقود المفاوضة
بين المسلمين الذين في أطراف الثغور وبين أهل الحرب ،
وإن كان قتلهم مباحا ولا يجوز أن يبيع المسلم منهم
مصحفا ولا عبدا مسلما في الصحيح من مذهب الشافعي ،
واختلف أصحاب الشافعي في حكم القدرية المعتزلة فمنهم
من قال حكمهم حكم المجوس ، فعلى هذا القول يجوز أخذ
الجزية منهم ، ومنهم من قال حكمهم حكم المرتدين وعلى
هذا لا تؤخذ منهم جزية بل يستتابون فإن تابوا وإلا وجب
على المسلمين قتلهم "
ولو
أردنا أن نلخص هذه الأحكام على أسلوب كتاب المقالات أو
على أسلوب البغدادي نفسه لقلنا :
إن
أهل السنة : يكفرون مخالفيهم .
 |
لا يجيزون الصلاة
عليهم ولا الصلاة خلفهم . |
 |
قال بعضهم أن
السني يرث مخالفيه والمخالف لا يرث وقال
الآخرون بل لا توارث بين السني ومخالفيه لأن
أموال المخالفين فيء لأهل السنة. |
 |
يجوز أن يتعامل
السني مع مخالفيه كما يتعامل مع أهل الحرب في
الثغور . |
 |
قتل مخالفيهم
مباح . |
 |
لا يجوز للسني أن
يبيع لهم مصحفا أو عبدا مسلما . |
 |
حكم المعتزلة حكم
المجوس ، قال بعضهم يجوز أخذ الجزية منهم
|
وقال
آخرون بل يعاملون معاملة المرتدين يستتابون فإن تابوا
وإلا قتلوا ، وآخرون قالوا بل هم زنادقة لا يستتابون
بل يقتلون .
هذه
الصورة التي يأخذها القارئ من كتاب ( الفرق بين الفرق
) عن معاملة أهل السنة لمخالفيهم من أهل القبلة ، فإذا
وضعت في مقابل هذا أشد مخالفيهم تطرفا على ما يقوله
كتاب المقالات فجئت بأقوال نافع بن الأزرق المتطرفة
التي كانت سبب الخلاف بينه وبين رفاقه ، والتي وجهت
إليه نقمة الأمة المسلمة جمعاء، فما هو الفرق الذي
تجده بينهما ؟ نافع يقول بأن مخالفيه مشركون يباح دمهم
ومالهم ، والبغدادي يتردد في الحكم على مخالفيه بين أن
يعتبرهم في حكم المجوس أو حكم المرتدين أو حكم
الزنادقة ، ويحكم بأن دمهم حلال وأن مالهم فيء ، أما
التعامل معهم فهو كالتعامل مع المحاربين يقع بينهم
البيع والشراء ولكن لا يجوز أن يباع لهم مصحف أو عبد
مسلم .
فهل
كان نافع بن الأزرق في تطرفه وتشدده – حسب الصورة التي
ترسم له – أكثر غلوا من البغدادي ، وقد كتب رأيه
وأحكامه بقلمه ، ومع ذلك فإن العالم الإسلامي كله ساخط
على الأزارفة بسبب ذلك التطرف ، ولكن البغدادي يعتبر
إماما من الأئمة وكتابه يوضع في قائمة المراجع الهامة
في تاريخ العقائد ، والدنيا حظوظ .
إذا
أجاز البغدادي لنفسه أن يقول بلسان أهل السنة أن
المعتزلة في حكم المجوس تؤخذ منهم الجزية – في رأي
المتسامحين(55)– أو في حكم المرتدين
يستتابون قبل أن يقتلوا – في رأي المعتدلين – أو هم في
حكم الزنادقة يقتلون دون استتابة– في رأي المتشددين -
مع أن العالم كله – مسلمين وغير مسلمين – يشهد بالدور
العظيم الذي خدم به المعتزلة الإسلام ، وانهم كانوا في
فترة تاريخية عريضة هم حماة عقيدة الإسلام وحراسها
الأمناء دون خلاف ، فما هو المكان الذي يحق أن يقف فيه
عبد القادر بن طاهر البغدادي .
أحسب
أن هناك مكانا فسيحا يصطف عليه طابور من الناس يقف فيه
نافع بن الأزرق والبغدادي وكل من يقول بأشباه أقوالهما
في أي جزء من الأمة المسلمة من أي مذهب أو فرقة كانوا
، وأحسب أن هذا الطابور من الغلاة من جميع المذاهب هو
الذي يمثلها النشاز أو الشذوذ في الأمة الإسلامية
الكريمة ، ويفترق عنها بشعاره الملوث بالسواد والحمرة
، سواد ظلمة تكفير المسلمين ، وحمرة إباحة دمائهم .
ولا
شك أن القارئ الكريم يمكن أن يتهم البغدادي أو غيره من
الناس بالتطرف إذا ثبت من أقوالهم ما يدل على ذلك ،
ولكنه لا يمكن أن يتهم أهل السنة هكذا بأجمعهم بالتطرف
، لأن أهل السنة في مجموعهم يمثلون حلقة من الحلقات
المتسامحة المعتدلة في الأمة الإسلامية ، وكل مذهب وكل
فرقة وكل طائفة لم تخل من متطرف أو شاذ ولكن التاريخ
يطوي أولئك المتطرفين بتطرفهم وشذوذهم وغلوهم في الدين
وتبقى الأمة المسلمة العظيمة المتسامحة المترابطة
بجميع الفرق التي كونتها وتكونها ، تحمل رسالة الله
يوجهها في كل عصر من كل خلف عدوله .